إعتاد اللبنانيون، بدلاً من السير عكس الازمات لتخفيف وطأة المصيبة، اعتناق الركوب على "موج" الأزمة كاستراتيجيّة لهم. مع أزمة الدولار، تسابق اللبنانيون لشراء الدولار أو بيعه بدلاً من التخطيط لسبل الـ "soft landing" في فترة الانكماش التي تحكم قبضتها على الدورة الاقتصادية ككل.
لذلك، "ربما" لم يعد من المجدي صبّ اللوم كاملاً على المصارف والصرافين والمؤسسات المالية ومعها حاكميّة مصرف لبنان، ذلك لأن غالبية الناس ارتضوا التنازل وبكامل ارادتهم عن جزء من أموالهم ومدّخراتهم لصالح الصرافين، ومن خلالهم المصارف التي بادرت الى استغلال هذه الظاهرة لتحقيق المزيد من الارباح والربا الفاحش. لكنّ السؤال اليوم من أين يأتي الصرافون بهذا الكمّ من الاموال في السوق الموازية؟!
أنشأت محلات الصيرفة لها سوقاً "زُعم" أنها مبنية على العرض والطلب. وعليه، فرضت سعراً ثانياً للدولار، علماً أن الصرافين لا يملكون "آلية" لتحديد العرض والطلب، بالتالي فإنّ هذا التحديد وهميّ وغير مبني على أُسس واضحة.
ما يحصل في الواقع متمثّل بقيام كبار الصرافين (من ذوي النفوذ)، لا سيما أولئك الذين يملكون مبالغ كبيرة من الاموال، بضخّ السيولة، وبالتالي تحديد سعر الصرف، وهم أنفسهم يعمدون الى شراء شيكات مصرفية مع اقتطاع نسب معينة منها لامست في الاسابيع القليلة الماضية حدود الـ35%، ما يعني haircut غير مباشر.
الى ذلك، وبطريقة مبسّطة، يسلب عدد من الصرافين الناس ما تبقى لديهم من مدّخرات إما بشراء شيكاتهم، او من خلال عمليات إقراض مقابل وكالات غير قابلة للعزل وعقود بيع ممسوحة. ومع موجة الافلاسات التي طالت أعداداً خيالية من الشركات، وما لحقها من صرف للموظفين وتعذّر الكثير منهم من الايفاء بالدفعات الشهرية للمرابين، قام هؤلاء بالاستيلاء على هذه العقارات.
المصارف تفجّر ينابيع الصيرفة
عن الموضوع يوضح مصدر مواكب لحركة الصرافين المالية، أن "هناك مصدرين اثنين لتمويل عمل الصرافين: يتمثل الاول بالمال الموجود لدى "النظام المصرفي"، وفي هذه الحالة لا يمكن نفي وجود "احتمال" تواطؤ مع المصارف الكبرى لشراء أموال الناس المحتجزة لديها عبر "الوسطاء" أي الصرافين. ولهذا السبب كانت أكثرية الشيكات المصرفية تُحرّر من دون اي ذكر للمستفيد الاول قبل أن يتدارك مصرف لبنان هذه الظاهرة ويلزم المصارف بالتوجّه لإصدار شيكات مشروطة للمستفيد الأول. هكذا اذاً كانت المصارف تشتري الاموال المحتجزة لديها مقتطعة نسباً وصلت الى 35% من قيمة هذه الاموال الفعلية. وهنا تجدر الاشارة الى أن هذه البدعة تأتي بالارباح السهلة التحقيق لسوق الصيرفة والمصارف وإلا لما استمرّتا بهذه اللعبة.
أما مصدر التمويل الثاني فناجم عن إدخال الأموال الى لبنان عبر الحدود (خصوصاً البريّة منها والبحريّة). ويتطلّب إدخال هذه الاموال بطرق كهذه تكلفة تؤدي في نهاية المطاف الى رفع سعر الدولار في السوق الموازية باتفاق مع المصارف وبغطاء من البنك المركزي".
ويضيف المصدر: "خلال السنوات الخالية، كانت عمليات تغذية الحسابات لكل قيمة تخطت الـ10.000 دولار بحاجة الى تبرير قانوني وموافقات مسبقة، الا ان تبدّد هذه الواقعة يدفع أكثر للتساؤل عن مصير "قانون مكافحة تبييض الاموال" في ظروف كهذه، خصوصاً وأن السوق باتت مفتوحة وبات من المستحيل إحصاء كمية الاموال التي أصبحت تدخل عبر الحدود بطرق غير مشروعة".
ويقول المصدر: "من المرجّح أن تُستخدم هذه الاموال لتمويل الـhaircut في حال أُقرّ القانون، علماً أنه لن يتخطى في حال تنفيذه الـ10%، ما يعني أنه تمّ استغلال خوف المودعين صغاراً كانوا أم كباراً، لصالح المصارف التي حققت بواسطة الصرافين أرباحاً من جيوب شعب مكبّل فقد ثقته بهذه المنظومة.
وهنا يمكن الحديث عن كارتيل مالي لا يتألف من المصارف فقط بل وأيضاً من الصرافين ومهرّبي الاموال المدعومين سياسياً ".
من جهته يوضح المحامي عيسى نحاس في اتصال مع "نداء الوطن" أن "على الحكومة حجز الاموال المستولى عليها في ظروف كهذه ووضع اشارة على أملاك من يدور في فلك هذا الكارتيل. ولعلّ الهرطقة الكبرى التي تؤكد على تفكّك الدولة كانت في البيان الذي أصدرته نقابة الصرافين، وتشير فيه الى ان السلطات ستقوم بملاحقة كل من لا يلتزم بسعر الدولار عند حدود الـ2000 ليرة. لقد تحدث البيان باسم الدولة علماً أنه من الأجدر أن تتم الملاحقة القانونية لمن صاغ البيان وليس للصرافين الصغار الذين لا حول لهم ولا قوة".
ويضيف نحّاس: "يجب التحقيق في هذا الكارتيل بشكل مفصّل من قبل النيابة العامة المالية، وبالتالي ملاحقة المشتبه فيهم بجرم استغلال الناس وسلبهم أموالهم وفق تحقيقات موسعة وموثوقة ولوائح بانتقال الاملاك العقارية خلال الفترة السابقة. وتجدر الاشارة الى أن النيابة العامة المالية تتمتع بالصلاحيات العائدة الى النائب العام التمييزي وفق المادة 18 من قانون أصول المحاكمات الجزائية. بالتالي لا رقابة ولا وصاية على قراراتها خصوصاً وأن النائب العام المالي تماماً كمدعي عام التمييز، يُعيّن بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء.
كما وتنيط المادة 19 من القانون عينه بالنائب العام المالي حصراً النظر بالجرائم الناشئة عن مخالفة القوانين المصرفية والمؤسسات المالية والبورصة، لا سيما تلك المنصوص عليها في قانون النقد والتسليف، وكذلك الامر بالنسبة الى الجرائم التي تنال من مكانة الدولة المالية. ما يعني أن كلّ ما يحدث من جرائم تداول الاموال وتصريف العملات الاجنبية واحتكار تسعير الدولار والاستيلاء على أموال الناس من خلال استغلال الشحّ في السيولة يصبّ ضمن صلاحية النائب العام المالي".
في المبدأ توضع القوانين وفي روحيّتها إحقاق الحقّ والعدالة، والآن، وأكثر من أي وقت مضى، بات القضاء مطالباً بالتحرك السريع حمايةً لحقوق الناس، وصوناً لما تبقى من دور للدولة في ترسيخ العدالة الاجتماعية وحماية الشعب من كارتيلات المال المتوحّشة.