الأوبئة ليست مجرّد أزمات صحية!

12 : 00

مع تفشّي فيروس كورونا الجديد حول العالم وانهيار الأسواق وانتشار التوقعات بانخفاض النمو، اتّضحت سريعاً قدرة هذا الوباء على الإساءة إلى الاقتصاد العالمي. تشمل أهم المناطق الصينية التي اجتاحها الفيروس (نشأ في الأصل في مقاطعة "هوبي" في أواخر السنة الماضية) ملايين الشركات التي توفر الإمدادات لحوالى 56 ألف شركة متعددة الجنسيات. يواجه عدد كبير من هذه الشركات منذ الآن نقصاً في سلاسل الإمدادات بسبب تأخر وصول عناصر تصنيع أساسية من الصين. من المتوقع أيضاً أن تمتد التداعيات إلى شركات التكنولوجيا العملاقة والأدوية وأهم شركات الصناعات الثقيلة وغيرها.


يبدو أن الصين بدأت أخيراً تسيطر على تفشي الفيروس. بعد التخبط في المرحلة الأولى، تسارع الحكومة الآن إلى إعادة فتح المصانع وتكثّف عمليات التصنيع لتلبية الطلب العالمي. وتفيد التقارير بأن أرباب العمل يعرضون تذاكر طائرة مدفوعة لإقناع العمال بالعودة إلى المصانع والمكاتب. لكن من المتوقع أن تتباطأ هذه الجهود بسبب تردد العمال وقلة الثقة بالمؤسسات الصينية. وحتى لو استعادت الصين مستوىً طبيعياً من أعمالها، قد تحتاج سلاسل الإمدادات إلى وقت إضافي كي تواكب حجم الطلب. يسهل أن نشعر بتداعيات هذا الوضع طوال أشهر، إذ من المنتظر أن تتراجع الإمدادات وترتفع الأسعار.

بدأ المرض يتفشى سريعاً خارج الصين أيضاً، ما أدى إلى زعزعة أنظمة اقتصادية كبرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية وإيطاليا. سُجّلت إصابات مؤكدة بفيروس كورونا في 77 بلداً حتى الآن: أكثر من 93 ألف حالة من مرض "كوفيد - 19" المشتق من الفيروس الجديد، و3198 حالة وفاة (معظمها في الصين). نتيجةً لذلك، تُلغى حفلات غنائية ومؤتمرات وأحداث رياضية يومياً في أنحاء شرق آسيا وأوروبا. كذلك، تأثرت الفنادق وشركات الطيران والتأمين وأماكن تنظيم المناسبات.

رغم هذه العواقب كلها، تتعامل الحكومات والمنظمات الدولية حول العالم مع تفشي فيروس كورونا الجديد وكأنه جزء من مشاكل الصحة العامة بدل اعتباره مشكلة اجتماعية واسعة ستؤثر أسبابها ونتائجها على جميع المجالات، بدءاً من الموارد المالية والتأمين وصولاً إلى السياحة والزراعة. تطلب جميع أنواع الكوارث الأخرى مساعدة قطاعات متعددة للتجاوب مع المخاطر والوقاية منها. تحارب فِرَق الإطفاء حرائق الغابات مثلاً، لكنّ تحديد قواعد موحّدة واستعمال مثبطات اللهب يخفّضان احتمال اندلاع الحرائق منذ البداية، وتطلق أجهزة الإنذار تحذيرات أولية للمجموعات المعرّضة للخطر. وعند الاشتباه بحصول إعصار وشيك، تعمد السلطات المحلية إلى إجلاء السكان قبل أيام من وصول العاصفة المرتقبة، لكنّ طريقة تقسيم المناطق وتحديد أسعار التأمين تستبق المشكلة عبر منع تطوير مناطق معرّضة للفيضانات أصلاً. في هذين النوعين من الكوارث، تتحمّل مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة، في القطاعَين العام والخاص، التكاليف معاً. أما الأوبئة، فتُعتبر بكل بساطة تهديدات في مجال الصحة العامة وتَقِلّ جهود الوقاية النموذجية وتغيب الآليات التي تسمح بتقاسم التكاليف بين مختلف القطاعات المتضررة.

من الاستجابة إلى الوقاية

لم يعد أصل الأوبئة، على غرار "كوفيد - 19"، لغزاً غامضاً. حذرت منظمة EcoHealth Alliance غير الربحية منذ سنوات من احتمال انتقال فيروسات كورونا جديدة من الخفافيش إلى البشر في آسيا. في آخر 60 سنة، ظهرت معظم الأمراض الجديدة التي تكون حيوانية المنشأ نتيجة تغيرات في ممارسات الزراعة أو إنتاج المواد الغذائية أو استعمال الأراضي، أو نتيجة الاحتكاك بحيوانات برية. لذا ثمة حاجة إلى وضع استراتيجية وقائية أكثر قوة وفاعلية، ما يعني أن تُفعّل القوانين والمعايير الوطنية والدولية التي تحكم استعمال الأراضي وتنسّق بينها، ما يضمن أن تصبح الممارسات الخطيرة في قطاعَي الزراعة وإنتاج الأغذية أكثر أماناً.

الأنظمة الغذائية تحديداً بحاجة ماسّة إلى التحديث في معظم مناطق العالم. يتكل مئات ملايين الناس، في البلدان النامية بشكلٍ أساسي، على أسواق الحيوانات الحية لإنتاج المواد الغذائية. وتشكّل هذه الأسواق مصدراً أساسياً للتهديدات الوبائية الناشئة، مثل الإنفلونزا، وكانت السبب في تفشي "سارس" سابقاً وفيروس كورونا راهناً. من خلال تخفيض أعداد الحيوانات الحية التي تتحرك في أنحاء أسواق المواد الغذائية، يمكن تقليص مخاطر تفشي أمراض معدية أخرى مستقبلاً. اتخذت الصين خطوة إيجابية في هذا الاتجاه بعدما ربطت السلطات فيروس "كوفيد-19" بسوق الحيوانات البرية في مدينة "ووهان". في 24 شباط، فعّلت الحكومة قانون حماية الحياة البرية لمنع المتاجرة بالحيوانات البرية واستهلاكـها (رغم بقاء عدد من الثغرات والاستثناءات). تبلغ قيمة قطاع الحيوانات البرية في الصين 74 مليون دولار، ولا شك في أن التنظيمات الجديدة والصارمة ستضرّ بشركات كثيرة. لكن تبقى هذه الكلفة على الأرجح أقل بكثير من كلفة انتشار فيروس كورونا راهناً، فقد سبق وخسرت الصين حوالى 196 مليار دولار على مستوى السياحة وإنفاق المستهلكين بسبب الأزمة الحالية.

على صعيد آخر، يمكن إعداد تدابير وقائية مختلفة لتخفيض مخاطر الأمراض التي تنقلها الحيوانات والتعامل مع بيئات الأمراض المحلية ومختلف التهديدات. أعلنت السلطات الماليزية مثلاً أن فيروس "نيباه" القاتل الذي تفشى في العام 1998 انتقل من خفافيش الثمار الكبيرة التي تُسمّى "الثعالب الطائرة" إلى الخنازير ومنها إلى البشر. نتيجةً لذلك، أصدرت الحكومة أمراً بفصل جميع أشجار الفاكهة التي تجذب هذه الخفافيش عن مزارع الخنازير لتقليص احتمال نقل العدوى. إنه تدبير بسيط لكن يبدو أنه ناجح منذ عشرين سنة. يمكن تطبيق تدابير وقائية مشابهة في بنغلادش، حيث ارتبطت إصابات فيروس "نيباه" بعصارة النخيل الخام (يتم جمعها مثل شراب القيقب) بعدما لوّثتها الخفافيش. حين يدخل أي نوع من مسببات الأمراض إلى مجتمع معيّن، تتحول التوعية إلى خط دفاعي قوي. كلما زادت معلومات المجتمعات عن طريقة تناقل الأمراض، ستصبح أكثر قدرة على مراقبة نطاق انتشارها والتدخل عند ظهورها. في غرب إفريقيا، أدى رفض المجتمع للتدخل الطبي إلى إعاقة تجاوب العاملين في المجال الصحي مع فيروس إيبولا، ويتعلق السبب جزئياً بغياب التفاعل بين جماعات كثيرة وخبراء الرعاية الصحية قبل انتشار المرض. لبناء الثقة بين الأطراف المعنية وتجنب أي سوء تفاهم خطير، يتعين على وزارات الصحة والمنظمات الطبية أن تنشر الوعي وسط الرأي العام وتضم أعضاء الجماعات المصابة إلى جهود مراقبة الأمراض. تُعتبر هذه التدابير الوقائية أساسية لدرء الأضرار الاقتصادية والبشرية التي تسببها الأمراض المعدية. لكن يجب أن تُدعّم الحكومات والهيئات الدولية هذه البرامج بخطط طوارئ لنقل الموارد اللازمة إلى الأماكن التي تحتاج إليها وتقاسم التكاليف عند تفشي الأمراض. طرح البنك الدولي أداة لتحقيق هذه الغاية: إنه صندوق تمويل حالات الطوارئ الوبائية الذي يضمن تأميناً مدعوماً من القطاع الخاص لدفع مبالغ إلى البلدان الفقيرة حين تتفشى فيها الأمراض على نطاق واسع. يُعتبر صندوق تمويل حالات الطوارئ الوبائية خطوة أولية مفيدة، لكنه يفتقر إلى عامل الاستعداد لمواجهة الأوبئة لأنه مصمّم لدفع المال بغض النظر عن التدابير الوقائية التي تتخذها الدول. على غرار التأمين على السيارات، يجب أن تُسعَّر منتجات التأمين على الأوبئة بحسب ملف تعريف مخاطر المشتري الذي يتوقف جزئياً على استعداد البلد لاتخاذ التدابير الوقائية اللازمة.

يقضي أحد الخيارات المحتملة بإنشاء صندوق دولي منفصل للاستجابة للأوبئة يمكن تمويله من الضرائب الوطنية المفروضة على القطاعات التي تستطيع التسبب بالأمراض، منها منتجو الحيوانات الحية وبائعوها وزراعة الغابات والصناعات الاستخراجية. يستطيع ذلك الصندوق أن يسرّع التعافي ويضعف تداعيات انتشار الأوبئة على الأنظمة الاقتصادية الوطنية. كذلك، تستطيع جهات جديدة أخرى تمويل مبادرات التكيّف مع الوباء، بما يشبه جهود التكيف مع التغير المناخي، لتحضير البلدان بأفضل طريقة للتأقلم مع تفشي أي أوبئة مستقبلية من خلال اتخاذ عدد كبير من التدابير الوقائية الآنف ذكرها.تملك الأمم المتحدة آليات معينة للتجاوب مع الأوبئة، لكنها تتوزع على مختلف وكالاتها. للتعامل مع الأوبئة بدرجة تتماشى مع الكوارث التي تسببها، ثمة حاجة إلى إطلاق استجابة دولية موحّدة. يجب أن توضع حالات تفشي الأمراض المعدية في "إطار سنداي للحد من مخاطر الكوارث": التزم الموقّعون على هذه الاتفاقية العالمية بتنفيذ خطط وطنية لتقليص مخاطر الكوارث. تسمح هذه الخطوة للبلدان بمعالجة الأسباب الأصلية للتهديدات المرتبطة بالأمراض المعدية بدل اعتبارها مجرّد مظاهر مشكوك بها. في الوقت نفسه، يجب أن تجعل الأمم المتحدة مسألة إدارة مخاطر الأوبئة من أولويات نشاطاتها، كي لا يزيد احتمال تفشي الأوبئة عن غير قصد بسبب خطوة عشوائية تتخذها هذه الهيئة الدولية. تطلب الأمم المتحدة تقييم المخاطر المطروحة بشكلٍ دوري لتحليل مبادرات التنمية المقترحة. لكن يجب أن تشمل هذه الخطط تقييم احتمال نشوء الأمراض المعدية أيضاً.

إذا نجحت تدابير الوقاية من الأوبئة والتصدي لها، ستكون آثارها خفية على المجتمع بشكل عام. مع مرور الأيام، سيصبح تشخيص الأمراض الشائعة وعلاجها أكثر سرعة ودقة، وستتراجع تدريجاً طلبات ميزانية الطوارئ والاضطرابات الاجتماعية بسبب تفشي الأمراض المعدية وستزيد الثقة بالأنظمة الصحية. من المعروف أن الأوبئة تنتشر أكثر من الأمراض، وهي تهدد صحة مجتمعات وأنظمة اقتصادية كاملة. لذا سيؤدي التعامل معها وكأنها مجرّد أزمات صحية إلى إطلاق جولات غير نافعة ومتهورة مالياً من الهلع والاستجابات العابرة والإهمال.


MISS 3