جوزيف حبيب

هل تولد دول جديدة على أنقاض الدولة السودانية؟

5 أيار 2023

02 : 00

تزداد المخاطر من تفكّك أوصال الدولة السودانيّة وانهيارها مع الوقت (أ ف ب)

لم يكن تاريخ 9 تموز 2011 يوم حصل جنوب السودان ذو الغالبيّة المسيحيّة على استقلاله بعد استفتاء كانون الثاني من العام ذاته، منفصلاً عن مسيرة شاقة وطويلة معمّدة بالدماء خاضها أبناؤه بعرقهم ونضالهم الصلب للإنفصال عن السودان ذي الغالبيّة المسلمة، والاعتراف بهم تحت سقف دولة جديدة مستقلّة ذات سيادة، سرعان ما انزلقت نحو حرب أهليّة تقاطعت فيها صراعات إثنيّة مع تدخّلات إقليميّة ومصالح دوليّة متشعّبة سعّرت الصراع الدموي الذي ما زالت تداعياته تُثقل كاهل المواطنين الجنوب سودانيين، الذين ولسخرية القدر يقفون فوق بحر من "الذهب الأسود".

الحروب الأهليّة ليست بغريبة عن طبيعة المنطقة، فالسودان تاريخيّاً ما كان يلبث أن يخرج من حرب أهليّة حتى يدخل بأخرى أو يشهد إنقلاباً عسكريّاً يفرض حكماً مستبدّاً، فيُسارع الديكتاتور الحاكم إلى قمع أي معارضة سياسيّة ويستسهل اضطهاد الأقليّات بشكل ممنهج ويعمل على محاربة أي حركة تحرريّة بهدف سحقها عن بكرة أبيها. وبالإضافة إلى التجربة القاسية والمريرة التي عاشها مواطنو الجنوب واختبروها حين كانوا لا يزالون جزءاً من السودان، فإنّ دارفور في غرب السودان، حيث ارتكب نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، بحسب اتهامات المحكمة الجنائيّة الدوليّة، "إبادة جماعيّة" و"جرائم حرب" و"جرائم ضدّ الإنسانيّة" بحقّ القبائل الأفريقيّة، شاهدة على هذا النهج الإلغائي الذي لا يعترف بالتعدّدية الدينيّة والإثنيّة واللغويّة.

أمّا الشرق المهمّش، فليس بعيداً عن أجواء التمرّد، إذ عمد المجلس الأعلى لنظارات "البجا" والعموديات المستقلّة إلى إغلاق الموانئ والخطوط النفطيّة والطرق الحيويّة للتصدير مراراً في السنوات الأخيرة، لتحقيق مطالب أبناء المنطقة بالتنمية العادلة والتمثيل السياسي الصحيح في السلطة المركزية. ومع اشتعال الصراع منتصف شهر نيسان الماضي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، عادت لتُطرح تساؤلات جوهريّة حول ما إذا كان السودان بشكله الحالي قابلاً للاستمرار في حال طال أمد النزاع وتوسّعت رقعته وتحوّل إلى حرب أهليّة جديدة.

تزداد المخاطر من تفكّك أوصال الدولة السودانيّة وانهيارها مع الوقت، خصوصاً أن الجنرالَين المتصارعَين، رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان ونائبه قائد "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي"، يُعزّزان تواجد قواتهما ويحشدانها في العاصمة الخرطوم، حيث يدور النزاع بشكل أساسي حول مراكز السلطة على محاور القصر الرئاسي ومقرّ القيادة العامة للقوات المسلّحة. وإذا استمرّ التحشيد العسكري في المركز، أي الخرطوم، واستنزاف قوى الجيش و"الدعم السريع" بمعارك ضارية، سيتدهور الوضع الأمني في الأطراف وتنخرط القبائل والإثنيات على اختلافها في النزاع لتأمين وجودها وأمنها وتحسين وضعيّتها ميدانيّاً.

وفي المحصّلة، قد لا يكون جنوب السودان آخر دولة تنال استقلالها وتنفصل عن السودان. لكن ليس محكوماً بالضرورة على السودان بالتقسيم في المستقبل، فهذا السيناريو مرتبط بمسار الصراع وحدّته وحجمه وتداعياته، وبموقف القوى الإقليميّة والدوليّة المعنيّة بالملف السوداني وأهدافها وغاياتها. التقسيم بحدّ ذاته ليس خياراً سيّئاً بعكس ما يُحاول "الوحدويّون الإنصهاريّون" عادةً تصويره للرأي العام. فالحدود السياسيّة للدول هي نتاج حاجة وتوازنات ومنافع داخليّة وإقليميّة تتقاطع مع مصالح قوى دوليّة مؤثّرة. الحدود السياسيّة ليست "مقدّسة" ولا أبديّة، وهي عرضة لعوامل المدّ والجزر بين "القوى الديموغرافيّة"، ومرتبطة بالتالي بمدى قابليّة أي عقد اجتماعي على الاستمرار برضى المتعاقدين الوازنين.

عندما يتمزّق العقد الاجتماعي القائم وتدخل البلاد بصراع أهلي دموي، يُصبح مشروعاً المطالبة بأي حلّ يضمن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها. علماً أن حقّ أي شعب في تقرير مصيره يجب أن يكون خياراً محترماً وبديهيّاً، حتّى قبل حصول الانفجار المجتمعي وإراقة الدماء البريئة، فيما تبقى ترجمته العمليّة على أرض الواقع متّصلة بمدى قوّة "القوى الاستقلاليّة" مقارنةً مع القوّة المهيمنة على المركز، فضلاً عن مصالح القوى الدوليّة الفاعلة بتسهيل ولادة كيان جديد كجنوب السودان من عدمه.

يقف السودان الآن أمام مفترق طرق مفصلي وتاريخي، فإمّا أن يتّفق الطرفان المتقاتلان على خريطة طريق لوقف دائم لإطلاق النار، والإنطلاق نحو حلّ سياسي فعلي يعترف بالتعددية بأبعادها كافة ويحترمها ويُطبّقها، بمشاركة القوى السياسيّة المدنيّة، وإنقاذ البلاد من الغرق في دوّامة الصراعات الأهليّة القاتلة، وإمّا الانحدار أكثر فأكثر نحو قعر جحيم حرب أهليّة طاحنة ستقضي على الأخضر، إن وجد، واليابس في البلاد، حيث تُصبح مفكّكةً إلى مناطق نفوذ متعدّدة من غرب دارفور على الحدود مع تشاد إلى بورتسودان المطلّة على البحر الأحمر، لكلّ منها جهة إقليميّة ودوليّة راعية وداعمة.

وفي حال توفّرت ظروف دوليّة مؤاتية، سيشهد السودان مخاض ولادة دول جديدة تطوي صفحة الدولة السودانيّة القديمة. وفي أسوأ الأحوال، يُصبح السودان دولة منكوبة وتافهة ممزّقة إلى كيانات فاشلة، يجلس كلّ منها على قارعة المجتمع الدولي يتوسّل مساعدات إنسانيّة من هنا ودعم مالي من هناك، بينما تتقاسم مواردها القوى المتناحرة مع رعاتها الخارجيين على حساب الشعوب الجائعة التي غالباً ما تدفع ثمن خياراتها السوداويّة الخاطئة وحسابات قادتها المصلحيّة الفاسدة ومقاربات القوى الدوليّة الواقعيّة النفعيّة.


MISS 3