المحامي نجيب فرحات

تعديلات قانون الشراء العام: مخالفات دستورية بالجملة ووصمة عار في جبين الإصلاح

5 أيار 2023

19 : 23

بتاريخ 19 / 4/ 2023 صدر القانون رقم 309 المتعلق بتعديل بعض مواد قانون الشراء العام.


وعدا عن الاجواء المُريبة التي رافقَت إقرار هذا القانون والمتمثّلة بتقديم اقتراحه من قِبَل نواب السلطة وتهريبه في جلسة تشريعية غاب عنها أغلب نواب المعارضة دون ادنى نقاش، فإنه يتبين من مضمونه انه يشكل كارثة حقيقية ويُفرِغ قانون الشراء العام من مضمونه وفاعليته ومتانته ويُحدِث فيه ثغرات تسمح بتسرُّب الفساد الى الصفقات العمومية، وهو بالتالي لا يتّسم بالطابع التقني الصرف بل يعود بنا الى أزمنة خلَت بدلاً من التقدُّم في عملية الاصلاح.


تشوب القانون التعديلي المذكور مخالفات دستورية عديدة لا بل إن بعض أحكامه تفرِض التعايُش مع مخالفة احكام الدستور، وهو ما نلخّصه كالتالي:


1- في تعديل الفقرة 3 من المادة 11 خطط الشراء العام التي توضَع للعام المُقبِل بحسب القانون، اجاز هذا التعديل نشرها بعد بداية السنة المالية التي وُضِعَت من أجلها! لا بل وضمن فترة قد تصل الى ثلاثة أشهر بعد بداية هذه السنة!


كيف تكون هذه الخطة لسنة مقبلة اذا كان احد فصول  هذه السنة قد مرّ قبل نشر الخطة؟! وأي فعالية وصدقية نرتَجيها من  هكذا خطة؟


القانون قَبْل تعديله كان يفرض نشر هذه الخطط ضمن مهلة قصيرة (20 يوم عمل) بعد اقرار الموازنة، انطلاقاً من افتراض ان اقرار الموازنة دستورياً وقانونياً يتم قبل بداية السنة المالية.


وبَدَلاً من فرض مراعاة الأصول والمهل الدستورية في إعداد و إقرار الموازنة كما شدَّد عليه المجلس الدستوري في اكثر من قرار يأتينا هذا التعديل ليفرض التعايُش مع هذه المخالفة الدستورية والتشجيع على التغاضي عن مبدأَيّ سنوية وشمول الموازنة، في حين ان مثل هذا التعديل كان يمكن ان يكون حافزاً للالتزام بالدستور وانتظام المالية العامة فيما لو فَرَض نشر خطط الشراء العام بصورة صريحة قبل بداية السنة المالية لا بعدها.


2- في تعديل الفقرة 3 من المادة 11 ايضاً استثناء للقوى الامنية والعسكرية من ارسال خطط الشراء العام المتعلقة بها الى هيئة الشراء العام ومن نشر هذه الخطط ومهل نشرها.


هذا الاستثناء غير مبرَّر وربّما لم تطلبه القوى الأمنية والعسكرية وهو يخالف الطابع الشامل للقانون ويفسح المجال امام المزيد من الاستثناءات لاحقاً وهو ما يتم إعداد العدّة له.


أما قول رئيس هيئة الشراء العام في مؤتمره الصحفي بأن هذا التعديل تفرضه الحاجة الى إعادة صياغة احكام خاصة بالقوى الامنية والعسكرية، فهو يدعونا الى التساؤل اين هي هذه الاحكام الخاصة في نص التعديل؟ لم نجد إلا الاستثناء دون وضع اية احكام بديلة.


وكذلك لا يستقيم القول بأن هيئة الشراء العام ستوجِّه الى القوى الامنية والعسكرية مذكرة لارسال خططها وفقا لأسُس توضَع بالتنسيق مع الهيئة وتُنشَر وتعلَن للعموم، وذلك لأن التعديل الجديد استثنى القوة الامنية والعسكرية من جميع احكام الفقرة 3 من المادة 11 من قانون الشراء العام أي حتى من موجِب إرسال الخطط الى الهيئة،ومذكرة هيئة الشراء العام لا يمكنها ان تعدِّل قانوناً صادراً عن مجلس النواب ولا تُلزِم القوى العسكرية والامنية.


3- إن إشراك هيئة الشراء العام مع الإدارة الشارية في تقرير معايير التأهيل المسبق والتصنيف للصفقات المتشابهة في المادة 19 من قانون الشراء العام يتناقض مع دور وصلاحيات الهيئة الرقابية و يطيح  بمبدأ حيادها ويعطل حقها بالطعن بهذه المعايير وفقا للمادتين 74 و 103من قانون الشراء العام، فكيف لهيئة اشتركت في وضع معايير ان تطعن بها؟

علماً ان المادة 114  من نفس القانون تخلّت عن نظام التصنيف في الصفقات العمومية واستبدلته بنظام التأهيل المسبق. وهذا تناقض فاضح في القانون.

ومن المفارقات ان رئيس هيئة الشراء العام برّر التعديل الحاصل على تشكيل لجان التلزيم والاستلام بان النص القديم كان يمس دور الهيئة الرقابي المعياري من خلال اعطائها موافقة مسبقة على اعضاء اللجان، في حين اعتَبَر إعطائها موافقات مسبقة على معايير التأهيل والتصنيف داخلاً في صلب دورها الرقابي المعياري ؟!


4-  حذف عبارة "وذلك في الحالات التي لا يشكِّل فيها هذا التعاقد منافسة غير متكافئة للقطاع الخاص."  من البند 5 من المادة 46 من قانون الشراء العام التي تجيز الاتفاق الرضائي (اي بدون مناقصة او منافسة) عند تعاقد الجهة الشارية مع أشخاص القانون العام كالـمؤسسات العامة والبلديات أو الـمنظمات الدوليّة.


هو تعديل يُخلّ بمبادئ المنافسة والمساواة امام المشتريات العامة والنظام الاقتصادي الحر المنصوص عليه في مقدمة الدستور وكذلك لما قضى به المجلس الدستوري الفرنسي لناحية عدم جواز اعفاء التعاقد بين شخصين من اشخاص القانون العام من المنافسة ومن الخضوع للمناقصات وكذلك عدم جواز تخصيص عقود معينة لفئات محددة الا عند تساوي الاسعار والنوعيات ومن اجل عقود ومشتريات محصورة ومحددة بدقة وبالقدر الضروري جداً لتحقيق المصلحة العامة، وهي كلها امور لم يراعِها التعديل الجديد.


5- تعديل الفقرة 14 من المادة 76 من قانون الشراء العام بما يسحب من الهيئة صلاحية" حفظ وتحديث لوائح لجان التلزيم والاستلام" و يلغي التنسيق بينها وبين الجهات الرقابية بخصوص تشكيل هذه اللجان، هو تعديل يعطّل صلاحية هيئة الشراء العام بخصوص التحقُّق من مؤهلات أعضاء هذه اللجان ويفرغها من مضمونها.


اذ كيف يمكن للهيئة التحقُّق من مؤهلاتهم اذا لم يكن لديها قاعدة بيانات متعلقة بهم؟


وكيف لها ذلك اذا لم يكن لها أيّة رقابة على اسماء أعضاء هذه اللجان عند تشكيلها؟ وإذا لم يعد باستطاعتها التنسيق مع الجهات الرقابية في ما يتعلق بتشكيل هذه اللجان؟


ان ذلك يشكل مخالفة للمبدأ الدستوري القائل بعدم جواز إضعاف او انتقاص المشترع من الضمانات التي اقرها في قوانين سابقة.


6- إن احد اركان القانون الاساسية هي لجان التلزيم والاستلام.

فلجان التلزيم هي التي تتولى دراسة ملفات التأهيل الـمسبق وفتح وتقييم العروض، وبالتالي تحديد العرض الأنسب.


اما لجان الاستلام فهي التي تتولى تحديد ما اذا كان التنفيذ قد تم وفقاً لشروط العقد والعرض الـموافَق عليه، وما إذا كان الـملتزم قد نفّذ الـموجبات الـملقاة على عاتقه كافةً، وتتثبّت من مطابَقة الاعمال للشروط والـمواصفات الفنيّة وخلوّها من العيوب،وبنتيجة تقارير هذه اللجان تُحدَّد وتُدفَع الحقوق المالية للمتعاقد مع الجهة الشارية.


لقد فرض قانون الشراء العام قبل تعديله في المادتين 100 و 101 منه معايير صارمة لتشكيل هذه اللجان هي التالية:

-التدريب او الخبرة نظراً لما تفرضه مهام هذه اللجان ودقّتها من علم ومعرفة وخبرة.

-النزاهة بحيث يتم إرسال اسماء اعضاء هذه اللجان من الجهات الشارية الى هيئة الشراء العام التي ترسلها الى هيئات الرقابة ومن ثم تحذف منها من يثبُت ملاحقته او معاقبته تأديبيا.

-الشفافية والحياد بحيث يجب ان تتضمن كل لجنة تلزيم عضواً على الاقل من غير موظفي الجهة الشارية ويُراعى عدم تضارب المصالح.


التعديل الاخير الغى جميع هذه المعايير وترك لهيئة الشراء العام تحديد المعايير التي تراها مناسبة بذريعة بعض الصعوبات التي حالت دون تشكيل هذه اللجان لدي بعض الجهات الشارية لا سيما لناحية عدم توافر موظفين في الفئات الوظيفية التي اشترطها القانون.


وهنا بيت القصيد إذ لا يمكن ترك وضع معايير بهذه الخطورة والاهمية للهيئة خصوصاً ان تشكيل الهيئة وتعيين أعضائها الخمسة لاحقا سيخضع كالعادة في جميع التعيينات للتحاصص بين قوى السلطة، ولذلك لا بد ان تكون معايير تعيين لجان التلزيم والاستلام واردة في القانون تبعاً لما يحققه ذلك من ثبات وإلزام وضمانة وهو امر لا تُحقِّقه قرارات الهيئة بوضع هذه المعايير.


مما كان يوجِب اجراء تعديلات طفيفة لسد الثغرات وليس الغاء المعايير.


التعديل الاخير بعدم حصره تشكيل اللجان من الاشخاص المدربين وانما فقط إعطائهم الاولوية يكون قد اجاز تشكيل لجان التلزيم والاستلام من اشخاص غير مدرّبين ومن غير ذوي الخبرة، وهو امر لا يمكن تصوُّره في ضوء ما يفرضه تولّي المهام الجِسام هذه اللجان من المام ومعرفة وخبرة.


ان صلاحيات الهيئة في النص السابق، وخِلافاً لوجهة نظر رئيسها، هي مهام رقابية صرفة على تشكيل اللجان بحيث لم تكن تشترك في تعيين أعضائها وانما كانت تجري رقابة على مؤهلاتهم ونزاهتم مع سائر هيئات الرقابة ليتم حذف اسم من لا يتمتع بالشروط القانونية وهذا نا يدخل في صلب دور الهيئة الرقابي المعياري.


ان تذرع رئيس هيئة الشراء العام بعدم خضوع بعض العاملين لدى الجهات الشارية لسلطة ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي والهيئة العليا للتاديب لا يُبرِّر إنهاء دور هذه الجهات في الرقابة على تشكيل لجان التلزيم الاستلام بل يوجِب تعزيزه بالنص على سائر هيئات الرقابة لا العكس.


ومن هنا يتبين ايضاً ان التعديلات الاخيرة قد خالفت ايضاً وأيضاً المبدأ الدستوري القائل بعدم جواز الانتقاص او الاضعاف من الضمانات القانونية المقررة سابقا.


امام كل ذلك نسأل هل مَن يتجرأ على الطعن بهذه التعديلات امام المجلس الدستوري؟


وهل من المقبول في زمن المناداة بالتغيير والتعويل على الصوت المُعارِض والمستقلّ ان يبقى هكذا قانون بمنأى عن اي طعن بدستوريته؟



MISS 3