نجيب جورج عوض

عن السوريين في لبنان: كيف نفهمهم ونقرأهم؟

6 أيار 2023

02 : 00

لا شكَّ في أنَّ الوجود السوري في لبنان يشكِّل أزمة كبرى وخانقة ترقد على صدر اللبنانيين وتقضُّ مضاجعهم في قلب واقع انزلاق لبنان نحو هاوية الدول الفاشلة. لهذا، يفهم المراقب بعمق ردود الأفعال الانفعاليّة والتذمريَّة، وحتى العنصرية، التي تصدر من الشوارع اللبنانية المختلفة حول تلك الأزمة الخانقة. إلا أنَّ السؤال الذي نحتاج لمقاربته إذا ما أردنا التعامل مع تلك الأزمة بعقل علمي وموضوعي هو: من هم أولئك السوريون المقيمون في لبنان؟ وهل هم كتلة واحدة؟

مراقبتي تقول لي إنّ هناك خمس شرائح من الجماعات السورية على الأرض اللبنانية:

الشريحة الأولى هي شريحة «اللاجئين»، وهم أولئك السوريون الذين ثاروا ضد النظام خلال العقد المنصرم ولجأوا إلى لبنان هرباً من آلة النظام القمعيّة ولم يعد بإمكانهم العودة إلى سوريا أبداً إلا بعد تغيير النظام أو تحقيق تسوية وطنية شاملة تقيهم شر الاعتقال والتنكيل والتهديد. وهؤلاء يمثلون على الأغلب المجموع الأقل عدداً نسبةً لأعداد السوريين المنتمين للفئات الأخرى.

الشريحة الثانية من السوريين هي شريحة «النازحين»، وهم أولئك السوريون المقتلعون من بيوتهم ومناطق عيشهم، سواء الحضرية أو الريفية، والذين أجبرتهم إما ظروف القتل والقمع والإبادة الجمعية التي مارسها النظام على شرائح مجتمعية سورية بعينها في كافة مناطق سوريا، أو الذين قامت ميليشيات مقاتلة من كلا الطرفين في سوريا (ميليشيات مع النظام أو مع المعارضة المسلحة) باحتلال مواقع عيشهم... وأجبرتهم على النزوح نحو بلدان الجوار السوري، بما فيها لبنان. هؤلاء هم الغالبية العظمى من السوريين، والذين نجد سجلات لهم في هيئة الأمم المتحدة، والذين يتلقون معظم المساعدات والمعونات التي ترسلها هيئة الأمم المتحدة لمعسكراتهم وللدول الراعية لهم.

أما الشريحة الثالثة من السوريين فهي شريحة «المُنتَقلين»، وهؤلاء هم السوريون الذين قرروا أن ينقلوا أنفسهم وعائلاتهم من أتون الموت والدمار والحرب في سوريا إلى بلدان الجوار للاستقرار فيها وبدء حياة جديدة. هؤلاء ينتمون سياسياً لكافة أطياف الصراع السوري السياسية، على تنوعها وتعددها، ودافعهم الأول والأساس وجودي واقتصادي: تأمين موقع حياة آمن ومصدر عيش. هؤلاء أيضاً عددهم لا بأس به ويبلغون بحسب التقديرات عشرات الألوف من الناس مع عائلاتهم.

أمّا الشريحة الرابعة من السوريين فهي «المُتنقّلون»، وهم السوريون الذين لم ينزحوا من سوريا ولم يلجأوا للبنان لأسباب سياسية أو أمنية ولم يتعرضوا أصلاً لفقدان وسائل عيشهم في سوريا، بل قرروا أن يستفيدوا من حالة البلد المدمر وأن يستغلوا ما تقدمه بلدان الجوار، بما فيها لبنان، من مِيزات وفرص ارتزاق وهامش أمان واستقرار. وهم أيضاً يشكلون عدداً لا بأس به أبداً. وقد سمعنا الكثير عن سوريين مُتنقَّلين ما بين سوريا ولبنان، ولكن أيضاً تركيا والأردن وكردستان العراق. وبعضهم بات في أوروبا ويتنقّل ما بينها وبين سوريا وتراهم في سوريا باستمرار. القسم الأكبر من هؤلاء الذين يتنقَّلون ما بين لبنان وسوريا تحديداً ليسوا مع الثورة ولا المعارضة بل أوضاعهم مَرضيٌّ عنها من قبل النظام وأجهزته الأمنية.

أما الشريحة الأخيرة من السوريين فهي «العابرون»، وهم أولئك السوريون الذين يتخذون من لبنان محطة موقتة كي يعبروا منها إلى دول أخرى في العالم العربي وإلى دول العالم الغربي بشكلٍ رئيسي. وهناك الكثير من السوريين الذين يقيمون بشكل مؤقت وعابر في لبنان أثناء تحضيرهم أوراقهم وأوضاعهم قبل السفر للخارج. هؤلاء من كل خلفية وميل، وأعدادهم يصعب جداً إحصاؤها لأنهم كتلة بشرية متحركة ولكن حضورها في البلد منظور وملموس مع ذلك.

لكل واحدة من تلك الشرائح (اللاجئون، والنازحون، والمنتقلون، والمتنقِّلون، والعابرون) ظروفها وأسبابها وتأثيراتها على أوضاع لبنان ولكل منها استراتيجية تعامل. ولكن، لكلٍ منها أيضاً أطراف سورية تساعدها أو تستثمر فيها وأطراف لبنانية تحميها وتستثمر فيها أيضاً. حين سمعنا عن عشرات ألوف السوريين الذين اقترعوا لسفاح النظام قبل سنوات، كان هؤلاء على الأغلب إما من شريحة «المنتقلين» أو شريحة «المتنقِّلين».

أمّا الشرائح التي يرفضها النظام ولن يرغب باسترجاعها أبداً، لأنه لا يستطيع أن يستخدمها في أجندته، فهي شريحتا «اللاجئين» و»النازحين»، واللتان تدافع عنهما أطراف لبنانية متعاطفة كثيرة وكذلك هيئة الإغاثة وحقوق الإنسان في كل من لبنان وهيئة الأمم المتحدة. وطبعاً، يعلم النظام الأسدي تماماً أنَّ فئتي المنتقلين والمتنقِّلين تخدمان موقفه التفاوضي ومحاولته عقد صفقات مستقبلية تخدم وجوده سواء داخل سوريا أمام المجتمع الدولي أو داخل لبنان أمام السلطة الحاكمة في لبنان ولعبة السياسة فيها. كذلك في قلب لبنان، يقوم حلفاء النظام المذكور وشركاؤه باستقبال وحماية أو غض الطرف عن السوريين من الفئتين المذكورتين.

وعليه، حين تهاجم بعض الأصوات المتعالية حالياً الوجود السوري في لبنان، يسألُ المراقب العلمي: أيُّ شريحةٍ من تلك الشرائِح الخمس هي التي تدفعها لفعل ذلك؟ يبدو لي كمراقب أنّ الأصوات العُنفيَّة المتعالية في لبنان تميل ظلماً لاختزال كافة السوريين في لبنان تحت فئة واحدة هي غالباً «اللاجئون» أو «النازحون»، وكأنَّ كافة السوريين كتلة بلون واحِد.

من المتعارف عليه في الحقل العلمي الأكاديمي أنَّ مقاربة أيِّ جماعة بشرية من خلال اختزالها بهوية وخلفية ونمط تعريف وآلية فهم جمعية تنميطية مُسقَطة من عَـلٍ هي أحد الملامح المكوِّنة للمقاربة «العنصرية». إنني أعتقد أنّ لا حل لأزمة السوريين في لبنان ما لم نبدأ أولاً بالاعتراف بوجود الشرائح الخمس المذكورة ومن ثم ندرس كل شريحة على حدة: مَن هم أفرادها؟ وما هي ظروفها؟ ومن يقف معها ويستفيد منها ويستثمر بها في سوريا ولبنان؟ ومن يقف ضدها ويحاربها ولا يستفيد من وجودها في كل من سوريا ولبنان أيضاً؟ علينا فعل هذا كي لا تدفع ثمن المواقف فئات مغلوبة على أمرها لا حول لها ولا قوة ولا حلم سوى أن تستعيد حياتها السابقة وتعيش كما يعيش البشر العاديون، لا أكثر ولا أقل.