توفيق شمبور

إعتمد مصرف لبنان سياسات من دون تبصّر بأخطارها ومساوئها وعواقبها

أزمة لبنان الوحيدة في العالم التي سببها بنك مركزي

9 أيار 2023

02 : 00

جمع لديه على نحو غير قانوني القسم الأكبر من الودائع على نحو لم يحصل مع أي مصرف مركزي معاصر

بدّد الودائع بشكل غير قانوني أيضاً على احتياجات ودعم قطاع عام فاسد ومتعثّر وتثبيت سعر صرف زائف

لم يرَ رياض سلامة غضاضة بالتعاقد مع أخيه خلافاً للممارسات السليمة في الشفافية وتجنب تضارب المصالح

كان هناك مصلحة في تضخيم عمليتي الإستقراض والتمويل لجني المزيد من العمولات... التي ذهبت إلى «"فوري"»



يتشارك Alan Greenspan الرئيس الاسبق للبنك الاحتياطي الفدرالي الاميركي FED وحاكم مصرف لبنان رياض سلامه اموراً كثيرة اولها ان الاثنين نالا اكبر قدر من الاوسمة والجوائز والتنويهات تبعها اكبر قدر من الملامات والاتهامات.

الاول، Greenspan، لسياسته الضاغطة للابقاء على معدلات فوائد منخفضة لدعم الحكم املاً بتجديد الاخير لولايته، ما شجع شرائح واسعة من متدنيي ومتوسطي الدخل على الاستدانة لشراء مساكن لهم، والمصارف التي منحتهم القروض على تسنيد الاخيرة وترويج صكوك التسنيد حتى خارج الحدود. الى ان دفعت الظروف الى ضرورة رفع معدلات الفوائد فتعذر على المقترضين سداد ديونهم فكانت ازمة الرهونات العقاريه التي هزت مآسيها الولايات المتحدة ودولاً اوروبية والعالم اجمع.

إنه مخطط بونزي

الثاني، سلامه، لاعتماده آلية (Ponzi Scheme) في استجرار العملات الاجنبية من المصارف بعرض معدلات فوائد مغرية لها بهدف تمويل ودعم احتياجات قطاع عام فاسد ومتعثر، وايضاً لتثبيت سعر صرف زائف لضمان دعم القوى السياسية له بالمقابل في معركة رئاسة الجمهورية. لكن الذي حصل هو تقلص الموارد الدولارية مع بداية الاحداث السورية وضمور تحويلات اللبنانيين العاملين في منطقة الخليج نتيجة تردي الاوضاع بفعل تراجع اسعار النفط. فكان ملحاً تخطي الامر باجراء هندسات مالية خاصة مع المصارف زادت من احتياطيات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية مقابل فوائد مجزية تلقتها الاخيرة منه.

بداية انفجار الأزمة

مع بداية ولايته الخامسة انفجرت الازمة وكشف التوقف عن سداد مستحقات EuroBonds عن فجوة كبيرة في حسابات مصرف لبنان، المح اليها سابقاً عدد من التقارير، تناهز الـ 70 مليار دولار، وتذكر بفجوة Bernard Madoff التي كشفت عنها ازمة الرهونات العقارية الاميركية عام 2008. وأدى تعثر الحكومة في ايفاء التزاماتها بالعملات الاجنبية تجاه مصرف لبنان الى تعثر مقابل من الاخير تجاه المصارف، فتعثرت الاخيرة برد ودائع المودعين لديها الى اصحابها. وسقط الوطن في اتون انهيار مالي مريع.

الازمة اللبنانية ستلقن لطلاب الجامعات بانها الازمة الاولى في تاريخ الازمات المالية والمصرفية والنقدية التي يكون مسببها الاساسي المصرف المركزي. صحيح ان المراقبين يتحدثون عن دورللـ FED الاميركي في ازمة الكساد عام 1929 لكن دور الاخير تعلق بتفاقم الازمة بعد اندلاعها لا بالتسبب بها او التأسيس لها وذلك عند احجامه عن مد المصارف بالدعم المناسب والسريع.

أكثر المؤسسات فساداً

وقد ذكر الممثل الجمهوري لولاية Pennsylvanie في مجلس النواب Louis Thomas McFadden في جلسة لهذا المجلس عقدت بتاريخ 10 حزيران 1932 لمناقشة دور ومسؤولية الـ FED «ان الاخير من أكثر المؤسسات الفاسدة التي عرفها العالم. فقد افقر ودمر شعب الولايات المتحدة الاميركية، وأفلس نفسه، وهو على وشك افلاس حكومة البلاد. لقد فعل ذلك من خلال الثغرات الموجودة في القانون الذي يعمل مجلس ادارته بموجبه، ومن خلال الممارسات الفاسدة للنسور التي تسيطر عليه».

كلام يلخص دور مصرف لبنان المحوري بالتسبب بالكارثة التي المّت باللبنانيين لاعتماده سياسات من دون تبصر باخطارها ومساوئها وعواقبها. فقد اغرى المصارف بمعدلات فوائد مجزية تعدت معدلات Libor ما بين الـ4 و6% لاستعادة ودائعها من المصارف المراسلة وتوظيفها في شهادات ايداع اصدرها على نحو مخالف للقانون الذي ينص صراحة على مبدأ عدم دفع فوائد لايداعات المصارف لديه، وان اقتراضه بالعملات الاجنبية اذا حصل يجب ان يكون (1) من المصارف والمؤسسات المالية الدولية و(2) ولمدة قصيرة من الوقت و(3) لمقتضيات مهامه كما هي محددة في قانون النقد والتسليف.

تجميع الودائع ثم تبديدها

نجم عن سياسة مصرف لبنان تراكم ما بين الـ 70 و الـ 80% من ودائع المصارف بالعملات الاجنبية لديه خلافاً لتوصيات صندوق النقد الدولي التي تدعو الى الابتعاد عن انكشاف المصارف على ديون القطاع العام. وايضاً خلافاً لقانون النقد والتسليف الذي يحدد نشاط المصارف بتقديم التمويل المصرفي للمؤسسات الاقتصادية لا الانغماس بنشاط مصارف الاعمال وتركيز توظيفاتها على الاصدارات المديدة الاجل. وكان هناك ايضاً تجاوز لتعاميم مصرف لبنان المتعلقة بالسقف الاعلى لتمويل مدين واحد وبتوزيع المخاطر ونسب السيولة.

وانحراف مصرف لبنان لم يتمثل فقط بتجميعه لديه على نحو غير قانوني القسم الاكبر من ودائع المصارف على نحو لم يحصل مع اي مصرف مركزي معاصر، بل ايضاً بتبديده لهذه الودائع ايضاً بشكل غير قانوني على احتياجات ودعم قطاع عام فاسد ومتعثر. صحيح ان قانون النقد والتسليف يترك لتقديره موضوع تمويل الحكومة لكنه ربط الامر بتوافر «حالات استثنائية الخطورة وحالات الضرورة القصوى» وبمقتضى عقود اقتراض تعرض على المجلس النيابي لاخذ موافقته المسبقة. والذي حصل ان مصرف لبنان عمد طوال ولاية الحاكم سلامة الى تمويل الدولة بشكل مستمر ومتمادٍ وبالتراضي من دون اي عقد اقتراض.

تسهيلات... لا قروض

الانحراف المذكور لفت الى خطورته باكراً، وبحسه الفطري للمخاطر، القائد الفرنسي Napoleon Bonaparte عند التداول بمشروع انشاء مصرف فرنسا ليكون مصرف الاصدار فقال كلمته الشهيرة «اريده، اي مصرف فرنسا، ان يقدم التسهيلات facilites للحكومة الفرنسية لا القروضcredits». بذات الاتجاه، تساءل بعد قرن من الزمن، مواطنه البروفسور Maurice Allais الحائزعلى جائزة Nobel في الاقتصاد لعام 1988 عن جدوى الابقاء على مصرف مركزي مطيع لطلبات حكومته التمويلية. واستطرد قائلاً اوليس من الافضل في هذه الحالة اغلاق ابواب هذا المصرف ونقل عملياته الى مصلحة الاصدار في وزارة المالية ؟

إتهامات وشكاوى

تجاوزات مصرف لبنان دفعت عدداً من المتضررين الى تقديم شكاوى ضد حاكمه. منهم من اسندها الى اتهامه بـ «اصدار تعاميم تعدل وتغير النظام الاقتصادي الحر المنصوص عليه في الدستور، وتعرقل تطبيق بنود تعاقدية بين المصارف والمودعين بالسماح للاخيرة برد الودائع كلياً اوجزئياً بالليرة اللبنانية على سعر صرف اقل بكثير من السعر المعتمد في المعاملات الواقعية، بتواطؤ واضح ومفضوح مع هذه المصارف للاستيلاء على ودائع المودعين واموالهم». ومنهم من اثار تعلقها بالإثراء غير المشروع وتبييض الأموال والرشوة والتزوير واستعمال المزوّر والتهرّب الضريبي والتزوير المعنوي لميزانية مصرف لبنان وغيره.

تحقيقات أوروبية

بالمقابل فتحت منذ العام 2020 تحقيقات في عدة دول اوروبية هي سويسرا وفرنسا والمانيا وبلجيكا واللوكسمبوغ والليشتنشتاين وبريطانيا، بمواكبة من وكالة Eurojust التي تتبع للاتحاد الأوروبي وتُعنى بتنسيق التعاون حول القضايا الجنائية. وتعلقت هذه التحقيقات بشبهات عمليات غير مشروعة تم تبييض متحصلاتها على اراضي الدول السابقة لصالح الحاكم وشبكة من اقرانه والمقربين منه.

وقد ركزت تحقيقات الدول الاوروبية على التدقيق في مآل مبلغ يفوق الـ 330 مليون دولار تأتّى من عقد ابرمه حاكم مصرف لبنان مع شركة اوف شور يديرها شقيقه Forry Associates، لترويج سندات عامة مصدرة من الخزينة ومن مصرف لبنان. وكان الاخير قد فرض على المصارف التجارية بالاستناد الى عقود نموذجية عمولات عند شرائها السندات السابقة من دون توضيح المستفيد منها حسب نشرة Reuters في 21 شباط 2022. وتدفع هذه العمولات في حساب مقاصة وفق تصريح الحاكم وتحول من بعدها من مصرف لبنان إلى حساب Forry Associates لدى HSBC سويسرا ومن هناك باتجاهات مختلفة لصالح الحاكم وشبكة يديرها رسمت خريطة توزعها، ما بين عقارات وشركات واجهة وشركات استثمارية وحسابات مصرفية، بحسب صحيفة لوموند الفرنسية في خريطة اوردتها في مقال مطول في عددها الصادر في 18 آذار 2023.

التحقيق الأوروبي مُنفصِل عن مسار التحقيق اللبناني وانظار اللبنانيين تشخص الى الاول للجدية والمهنية والاستقلالية التي يتصف بها القضاة الذين يقودونه على الاخص القاضية الفرنسية Buresi Aude التي دعت الحاكم للمثول أمامها في باريس في16 أيار الحالي في جلسة من المرجح ان تكون مفصلية لجهة تثبيت صفة الشاهد او توجيه الاتهام له.

ردود سلامة والتعليق عليها

ردود سلامه كانت (1) ان العمولات دفعت بين طرفين من القطاع الخاص وليس مصدرها مال عام (2) ان توزيعها تم بطريقة شفافة و(3) ان ثروته تأتت من عمله السابق طيلة عقدين في مؤسسة «ميريل لينش» المالية العالمية وتحققت منها شركة تدقيق حسابات و(4) وان هناك حملة تشويه تهدف إلى جعله كبش فداء للانهيار المالي في لبنان. جدير بالذكر ان سلامه لم ير اي غضاضة بالتعاقد مع اخيه خلافاً لـ «ميثاق الممارسات السليمة في مجال شفافية السياسات النقدية والمالية الصادرعن صندوق النقد الدولي» الذي يطالب القيمين على ادارة المصارف المركزية بتجنب تضارب المصالح.

قوة تدميرية

يقول Paul Volker حاكم الـ FED « إن قوة المصرف المركزي الفريدة هي في القدرة على خلق النقد، وهذه تقابلها قدرة موازية على التدمير» واهم مؤشرات الاتجاه التدميري مخالفة المصرف المركزي القوانين التي ترعى ادارته وعملياته. هذا ما حصل مع مصرف لبنان بادارته بشكل مخالف للقانون عمليتي حشد الموارد بالعملات الاجنبية من المصارف ولاحقاً تبديدها في سوق القطع وتمويل احتياجات طاقم سياسي فاسد، مضيفاً عليهما صرف عمولات غير قانونية تشير تفكيك شيفرة توزعها الى تضمنها تضارب مصالح. بحيث بات واضحاً انه كانت هناك مصلحة في تضخيم عمليتي الاستقراض والتمويل لجني المزيد من العمولات. وحصل الامر في اطار اداري يشتمل على ثغرات تسمح بحصول الانحرافات اهمها تركز سلطتي التقرير والتنفيذ بمرجعية واحدة هي الحاكم ونوابه مع تثقيل واضح لدور الاول في تحديد مهام الآخرين.



ستانلي فيشر... نموذجاً


لقد قيِّض للمدير العام السابق لصندوق النقد الدولي Stainly Fisher ان يجد نفسه في موقع اداري مماثل بعد استدعائه من قبل الحكومة الاسرائيلية ومنحه الجنسية لتعيينه حاكماً للمصرف المركزي. لكنه سرعان ما طالب الاخيرة بعد اشهر قليلة من توليه مهامه بدعوة الكنيست للاجتماع حيث القى كلمة امام النواب انتقد فيها الصلاحيات الواسعة التي يمنحها القانون للحاكم، ودائرتها اصغر بكثير من دائرة صلاحيات حاكم مصرف لبنان، وطالب باعتماد هيكلية ادارية تفصل ليس فقط بين سلطة اتخاذ القرارات وسلطة تنفيذها بل تمنح استقلالية لهيئة تدقيق داخلي في حسابات وعمليات المصرف لمراقبة الانحرافات، نقيض ما هو قائم في لبنان حيث تتبع المديرية المختصة بعملية التدقيق الداخلي ومنذ البداية للحاكم سلامة شخصياً.

إعادة هيكلة مصرف لبنان


لقد كان من الافضل ان لا يحصر صانعو الاتفاق على صعيد الموظفين الذي ابرمه لبنان مع صندوق النقد الدولي الاصلاح المصرفي باعادة هيكلة المصارف فحسب بل كان يجب أن ان يضمنوه ايضا اعادة هيكلة ادارية لمصرف لبنان تتماهي مع ما هو معتمد لدى المصارف المركزية المعاصرة على الاخص الاوروبية لجهة حصر مهام الاخيرة بامور النقد بصورة اساسية وترك مهام التنظيم والاشراف والرقابة على المصارف لهيئة متخصصة مستقلة. فهكذا وضع سيجنب لبنان مستقبلاً مغامرة تدميرية مماثلة لما نشهده راهنا في لبنان.



(*) أستاذ محاضر في قوانين النقد والمصارف المركزية 


MISS 3