هارولد جيمس

التكنولوجيا لي وليست لك

9 أيار 2023

02 : 00

تعتمد الرأسمالية على المنافسة. ومع ذلك، غالبا ما يُنتهك هذا المبدأ الأساسي على أرض الواقع، لأنه من الطبيعي أن يسعى الرأسماليون الطموحون إلى القضاء على المنافسة وتأمين مركز قيادي لهم في السوق يُمَكنهم من إبعاد المنافسين المحتملين. إن النجاح، في هذا الإطار، يمكن أن يجعلك غنياً ويرسخ مكانتك كمتبصّر؛ ولكن يمكنه أيضاً أن يزرع مشاعر الخوف والحقد تجاهك.

لكل طرف استراتيجيته

لذا، فإن الصين- التي يمكن القول إنها واحدة من أنجح اقتصادات السوق في القرن الحادي والعشرين- تشن حرباً ضد شركاتها التكنولوجية العملاقة، لا سيما عن طريق «إبعاد» المؤسس المشارك لمجموعة علي بابا، جاك ما، عن الساحة العامة، بعد أن انتقد المراقبين الماليين في الصين. وفي الوقت نفسه، يركز الأوروبيون الذين ينتابهم قلق شديد إزاء افتقارهم إلى قطاع تكنولوجي كبير خاص بهم، على فرض سياسات المنافسة (مكافحة الاحتكار) للحد من قوة الشركات العملاقة مثل «غوغل» و»أبل». وفي الولايات المتحدة، أصبح ولاء شركات التكنولوجيا العملاقة للتيارات السياسية (لكل من اليسار الذي يتبع إيديولوجية «الووك» واليمين الذي يعتمد سياسة «الحبة الحمراء») نقاطاً محورية في الحروب الثقافية المدمرة في البلاد.

التجربة الأوكرانية

ومن الطبيعي أن يقلق المرء بشأن قوة السوق والتأثير السياسي لمثل هذه الشركات الضخمة - والمهمة للغاية. فهذه شركات يمكنها أن تقرر بمفردها مصير العديد من البلدان الصغرى بل حتى المتوسطة الحجم. والكثير من الحديث بشأن تأثير الشركات يتسم بطابع أكاديمي إلى حد ما. ولكن الأمر ليس كذلك في أوكرانيا، حيث كان لتكنولوجيا القطاع الخاص دور حاسم في ساحة المعركة خلال العام الماضي.

بفضل خدمات الإنترنت بواسطة السواتل التي تقدمها شركة Starlink ستارلينك التابعة لشركة Space X سبيس إكس التي أسسها إلون ماسك، تمكن الأوكرانيون من التواصل بصورة فورية، ومن تتبع تحركات القوات الروسية، وتحسين دقة ضرباتهم على أهداف العدو بصورة جذرية (ومن ثم توفير الذخيرة الثمينة). ولولا «ستارلينك»، لربما انهار دفاع أوكرانيا.

إمكانية الإبتزاز

ولكن بالنظر إلى الأطوار المتقلبة لديكتاتوريي الشركات المحتملين، فإن مثل هذه التبعيات التكنولوجية تنطوي بحكم طبيعتها على المخاطر. إذ في تشرين الأول الماضي، استغل ماسك ملكيته لموقع تويتر لإجراء «استفتاء» افتراضي بشأن خطة سلام لم تُدرس بما يكفي تهدف لتحقيق التنازل عن شبه جزيرة القرم لروسيا. وعندما اعترض الدبلوماسيون الأوكرانيون على الخطة، هدد بشدة بوقف خدمة «ستارلينك» (ولبعض الوقت، لم تتوفر بالفعل خدمة الانترنت في المناطق المتنازع عليها).

الإبتكار يشجع المنافسة

ومن المفارقات أن الجدل الجديد بشأن قوة الشركات يأتي في وقت تتصاعد فيه المنافسة بين شركات التكنولوجيا. ويخلق التغيير التكنولوجي الجذري بحكم طبيعته حالة من عدم اليقين الجذري، خاصة في ما يتعلق بالشركات القائمة ونماذج الأعمال. ويمكن للاختراقات الجديدة التي يبدو أنها تحولية في مجال الذكاء الاصطناعي أن تنهي صلاحية حتى أقوى عمالقة التكنولوجيا إذا أخفقت في مواكبة الابتكار. وحتى هذا العام، كانت هيمنة محرك بحث «غوغل» لشركة» Alphabet» أمراً لا ريب فيه.

والآن، قد يحل محل هذه الخدمة تطبيق ChatGPT الذي ضمنته شركة ميكروسوفت في محرك البحث الخاص بها والذي طورته شركة Open AI أوبن إي آي. وكان موقعا فيسبوك و تويتر يعتبران شبكتين للتواصل الاجتماعي لا غنى عنهما؛ والآن، سرعان ما بدأت تطبيقات أخرى مثل TikTok تحل محلهما.

مواجهة المخاطر الوجودية

ولا ينبغي أن تثير هذه التطورات الاستغراب. إذ تظهر سجلات تاريخ الأعمال، أن الفشل أكثر شيوعاً من النجاح الدائم. هل تذكر كوداك؟ لقد كانت أيامها معدودة عندما أخفقت في التكيف مع وصول التصوير الرقمي. إن أقدم الشركات في العالم هي تلك التي تغطي أسواقا في القطاعات المحلية غير الفنية التي لا تعتمد على الموضة العابرة. وما لم تكن تستهدف مثل هذه الأسواق- مثل منتج الساكي الياباني أو صانع النبيذ التوسكاني- فأنت لست آمنًا.

وتستخدم الشركات الكبرى عموماً، استراتيجيتين في مواجهة الخطر الدائم الذي يهدد وجودها. وتتمثل الاستراتيجية الأولى في منع أو إحباط المزيد من الابتكارات مدعية بأنها ستكون خطيرة ومزعزعة للاستقرار. فعلى سبيل المثال، في القرن العشرين، مارست شركات السكك الحديد الكبرى ضغوطاً شديدة ضد طلب شركات صناعة السيارات لبناء الطرق السريعة.

واليوم، هناك مخاطر أكبر بكثير، والخطاب مبالغ فيه بقدر أكبر. إذ تحذر بعض الشخصيات البارزة في عالم التكنولوجيا من أنه بدون وضع قوانين صارمة لتنظيم الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يؤدي أحدث الابتكارات في هذا القطاع إلى انهيار حضاري. وكانت هذه إحدى رسائل خطاب حظر الذكاء الاصطناعي التي تم تداولها على نطاق واسع، والتي حملت توقيع الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي ورموز التكنولوجيا مثل ماسك، الذي تبين لاحقًا أنه استثمر في شركة ناشئة جديدة تنافس «أوبن إيه آي».

الذكاء الإصطناعي

ووفقًا لهذا السرد، يمكن أن يؤدي التقدم السريع اليوم إلى ذكاء عام اصطناعي قوي جداً ولا يمكن التنبؤ به لدرجة أن البشرية قد تصبح في النهاية تحت رحمته عن غير قصد. ولطالما صاغ كُتاب الخيال العلمي (وبعض الفلاسفة) مثل هذه السيناريوات. فإذا كلفت كياناً يتمتع بذكاء خارق بمهمة حماية البيئة، فربما يقرر أن الحل الواضح هو القضاء على مصدر المشكلة: البشر.

أو ربما تتابع تقنية تتمتع بالذكاء الاصطناعي مهمتها الموكلة إليها بصورة أحادية لدرجة أنه لا يمكن إيقافها، كما هي الحال في قصيدة غوته «الصبي الساحر». وتظهر مثل هذه الحجج المزاج العام للقلق الذي يميز أي عصر يشهد تغيرات سريعة. فدائما ما يتسم نموذج اللوديون، وهم معارضو التكنولوجيا في القرن التاسع عشر، بنوع من الرومنطيقية.

الحماية الحكومية

ويتمثل الخيار الثاني لنخبة التكنولوجيا المتوترة في السعي للحصول على الحماية الحكومية عن طريق إثارة قضية المخاطر التي تهدد الأمن القومي أو الاقتصادي. إذ يحذر نائب رئيس «ميكروسوفت» والرئيس براد سميث، على سبيل المثال، من أنه نظراً لأن تدريب نُظم الذكاء الاصطناعي يتطلب مثل هذه الاستثمارات الضخمة، فلا يوجد سوى عدد قليل من المؤسسات التي يمكنها القيام بذلك، وعلى رأسها المؤسسات الصينية مثل أكاديمية بكين للذكاء الاصطناعي.

وتتضمن كلتا الاستراتيجيتين صياغة سرد يمكن أن يؤمن دعماً سياسياً ضد المنافسة في السوق. ودائما ما ستناشد الشركات المهددة بحكم طبيعتها - لأنها منخرطة في رهانات عالية المخاطر ومجهولة النتائج - العملية السياسية في الدول الكبرى لحمايتها. وسواء عن طريق زيادة العبء التنظيمي على الوافدين الجدد أو خلق حواجز ضد المنافسين الأجانب، فإن هذه الشركات تريد الحفاظ على الوضع الراهن.

يجب أن نضع هذه الاتجاهات الطبيعية في الاعتبار، خاصة الآن بعد أن أدى الوباء والتوترات الجيوسياسية المتصاعدة إلى خلق زخم جديد للابتكار التقني. وكما هي الحال دائماً، سيكون التغيير التكنولوجي مدمراً للغاية وسيولد فائزين وخاسرين جدداً. وسوف يركز العديد من المعلقين (والأطراف المهتمة) حتماً على المخاطر. ومن السخرية، أن يروج من كانوا في طليعة ابتكارات الأمس للسرد الجديد للتشاؤم التكنولوجي بصوت عالٍ، ولكنه ليس بالشيء الجديد. (بروجكت سنديكيت، النبا المعلوماتية)

(*) هارولد جيمس، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون، وهو زميل أقدم في مركز الابتكار الدولي للحكم ومتخصص في التاريخ الاقتصادي الألماني والعولمة، ومؤلف مشارك لكتاب: اليورو ومعركة الأفكار ومؤلف كتاب إنشاء وتدمير القيمة: دورة العولمة


MISS 3