النحل... كيف يتعلّم "الرقصة الإهتزازية"؟

02 : 00

تكلم المؤرخ اليوناني هيرودوت منذ أكثر من ألفَي سنة عن تجربة ممنوعة ومُضلّلة حيث مُنِع ولدان من سماع الكلام البشري كي يتمكن ملك من اكتشاف لغة البشر الحقيقية وغير المكتسبة.

يعرف العلماء اليوم أن اللغة البشرية تتطلب شكلاً من التعلّم الاجتماعي والتفاعل مع أشخاص آخرين، وهي ميزة مشتركة مع لغات حيوانية متعددة. لكن ما حاجة البشر وحيوانات أخرى إلى تعلّم اللغة بدل أن يولدوا وهم يحملون هذه المعرفة بالفطرة، على غرار عدد كبير من الأجناس الحيوانية الأخرى؟ هذا السؤال لا يزال يحيّر العلماء، وهو أساس تقرير نشرناه حديثاً في مجلة "ساينس". بصفتي عالِم أحياء، أمضيتُ عقوداً وأنا أدرس التواصل مع نحل العسل وطريقة تطوره. ثمة جوابان شائعان حول السبب الذي يجعل اللغة ميزة مكتسبة أو فطرية.

في المقام الأول، تستطيع اللغات المعقدة أن تتجاوب مع الظروف المحلية أثناء تعلّمها بشكل عام. أو ربما يصعب إنتاج هذا النوع من التواصل المعقد في معظم الأوقات، حتى لو وُلِد الفرد وهو يعرف مجموعة من الإشارات الصحيحة. ونظراً إلى دقة التواصل بين نحل العسل، قررنا تحليل طريقة تعلّمها لهذه السلوكيات للإجابة على هذا السؤال اللغوي.

ما هي الرقصة الاهتزازية؟

يتمتع نحل العسل بواحد من أكثر النماذج تعقيداً على مستوى التواصل غير البشري، فهو يستطيع تبادل المعلومات حول مكان وجود موارد مثل الغذاء، أو الماء، أو مواقع الأعشاش، عبر "رقصة اهتزازية". تنقل هذه الرقصة معلومات عن اتجاه الموارد، ومسافتها، ونوعيتها، إلى الشركاء في العش.

تُوجّه تلك الرقصة النحل نحو الاتجاه الصحيح وتخبره بالمسافة التي يجب أن يقطعها من خلال الدوران وفق نمط متكرر على شكل الرقم "8"، فتهزّ النحلة بطنها أثناء تقدّمها إلى الأمام.

يلحق النحل بالحشرات الراقصة على مسافة قريبة منها لمعرفة وجهته والعثور على الموارد المستهدفة. يشير طول الرقصة الاهتزازية إلى زيادة المسافات المقطوعة، وتُعتبر زاوية الرقصة مؤشراً على السير في الاتجاه الصحيح. لإيجاد موارد أعلى جودة، مثل الرحيق الأكثر حلاوة من العادة، تُكرر الحشرات رقصتها في مناسبات إضافية ثم تسارع في العودة بعد كل رقصة.

الأخطاء ممكنة

يصعب تكرار هذه الرقصة لأن النحلة الراقصة لا تكتفي بالركض، حيث تقطع مسافة مساوية لطول جسمها في الثانية الواحدة، تزامناً مع محاولة الحفاظ على زاوية الرقصة ومدتها الصحيحة. بل تحصل هذه الحركة أيضاً في جو مظلم بالكامل، وسط حشدٍ من النحل المتدافع، فوق مساحة غير مستوية.

لهذا السبب، قد يرتكب النحل ثلاثة أنواع مختلفة من الأخطاء: السير في اتجاه خاطئ، أو الإشارة إلى مسافة خاطئة، أو ارتكاب أخطاء إضافية في أداء الرقصة على شكل الرقم "8" (يسمّيها الباحثون "أخطاءً فوضوية"). تُصَعّب أول غلطتَين إيجاد الموقع المنشود، وتُصعّب الأخطاء الفوضوية اللحاق بالنحلة الراقصة.

يعرف العلماء أن النحل من فصيلة "أبيس ميليفيرا" أو نحل العسل الغربي لا يبدأ البحث عن الغذاء والرقص إلا في عمر متقدم، وتحذو هذه المجموعة حذو الحشرات الخبيرة في الرقص قبل أن تحاول الرقص بنفسها للمرة الأولى. هل يمكنها أن تتعلم من النحل المتمرّس في الرقص إذاً؟

تجربة "ممنوعة"

عزل العلماء مستعمرات تجريبية من النحل الذي يعجز عن رؤية رقصات اهتزازية أخرى قبل أن ترقصها الحشرات بنفسها. على غرار التجربة القديمة التي وصفها هيرودوت في الماضي، عجزت هذه المجموعة من النحل عن رؤية لغة الرقص لأنها كانت بالعمر نفسه ولم تتمكن من اللحاق بنحلٍ أكبر سناً وذات خبرة واسعة في الرقص. في المقابل، شملت المجموعات المرجعية نحلاً من جميع الأعمار، ما يعني إمكانية أن يلحق النحل الأصغر سناً بالحشرات المتمرّسة والأكبر سناً.

سجّل الباحثون أولى رقصات النحل ضمن مستعمرات تشمل حشرات من الفئتَين العمريتَين. قام النحل الذي عجز عن تقليد رقص الحشرات المتمرسة بابتكار رقصات فيها أخطاء إضافية من حيث الاتجاه، والمسافة، والفوضى، مقارنةً برقصات النحل المبتدئ في المجموعة المرجعية. ثم اختبروا المجموعة نفسها من النحل لاحقاً، بعدما أصبحت الحشرات متمرسة في جمع الغذاء. في هذه المرحلة، بدأ النحل الذي كان يفتقر إلى من يُعلّمه يرتكب أخطاءً أقل من حيث الاتجاه والفوضى، ويتعلق السبب على الأرجح بتكثيف تدريباته أو اكتسابه هذه المهارة عبر تقليد حشرات راقصة أخرى.

بقيت رقصات النحل الأكبر سناً في المجموعة المرجعية الآتية من مستعمرات فيها حشرات تجيد الرقص بإتقان بقدر الرقصات الأولى. يكشف هذا الاستنتاج أن النحل يولد وهو يجيد الرقص بدرجة معينة، لكنه يستطيع تحسين هذه المهارة عبر تقليد النحل المتمرّس. إنه أول مثال معروف عن هذا الشكل المعقد من التعلّم الاجتماعي لتفسير التواصل بين الحشرات، وهو نوع من الثقافة الحيوانية.

لهجات الرقص على صلة بالمسافة

لا يزال الغموض مستمراً بشأن النحل الذي كان يفتقر إلى من يُعلّمه الرقص في مرحلة مبكرة. عجزت هذه المجموعة عن تصحيح الأخطاء في تحديد المسافات، فتابعت ارتكاب الأخطاء وأشارت إلى مسافات تفوق النطاق الطبيعي.

لكن لماذا يهتم العلماء بهذه النتيجة؟ قد يكمن الجواب في قدرة المسافات المحدّدة على التكيّف مع الظروف المحيطة. قد تبرز اختلافات كبرى في مكان توزيع الغذاء في بيئات مختلفة. نتيجةً لذلك، طوّرت أجناس متنوعة من نحل العسل "لهجات راقصة" مختلفة، وهي تشير إلى الرابط بين المسافة التي توصل إلى مصدر الغذاء ومدة الرقصة الاهتزازية المرتبطة به.

من اللافت أن تختلف هذه اللهجات ضمن أجناس النحل نفسه أيضاً. يشتبه الباحثون بظهور هذه الاختلافات لأن المستعمرات، بما في ذلك الأنواع التي تنتمي إلى الفصيلة نفسها، قد تعيش في بيئات مختلفة جداً.

إذا كان تعلّم اللغات طريقة للتكيّف مع بيئات مختلفة، يُفترض أن تستعمل كل مستعمرة لهجة خاصة بالمسافات إذاً، فتكون مناسبة للبيئة المحيطة بها ويتم تناقلها من النحل المتمرّس إلى المجموعات المبتدئة. في هذه الحالة، ما كان النحل الفردي الذي لم يتعلّم من غيره ليُصحّح الأخطاء المرتبطة بالمسافة لأنه اكتسب وحده لهجة مختلفة لتحديد المسافات.

بشكل عام، يمكن تعلّم هذه اللهجة من النحل المتمرّس، لكنها قد تتغير خلال جيل واحد إذا تبدّلت الظروف المحيطة بالحشرات، أو إذا توجّهت أسراب من المستعمرة إلى موقع جديد. كذلك، تملك كل مستعمرة "أرضية رقص" خاصة بها، وهي مساحة يرقص فيها النحل، حيث تكون التضاريس معقدة لدرجة أن تُحسّن الحشرات الراقصة طريقة تنقّلها مع مرور الوقت أو تحذو حذو النحل الراقص الذي يكون أكبر سناً منها.

تحتاج هذه الأفكار إلى اختبارات إضافية طبعاً، لكنها تشكّل ركيزة للتجارب المستقبلية التي تهدف إلى استكشاف التناقل الثقافي بين النحل بأعمار مختلفة. من المتوقع أن تزيد هذه الدراسة والأبحاث المستقبلية معلوماتنا عن المعارف الجماعية وتعلّم اللغات في المجتمعات الحيوانية.


MISS 3