كريستيينالو

هيمنة الدولار مستمرّة رغم كل شيء...

محاولات متواصلة لخلع الدولار عن عرشه

16 أيار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

خلال الألفية التي جاب فيها البشر الأرض، تنقّل العالم بين عدد من العملات الغامضة وغير المألوفة أحياناً. يقال إن أبناء حضارة المايا القديمة كانوا يستعملون الشوكولا بدل المال، وكان التجار في جزر سليمان يفضّلون أسنان الدلافين. أما سكان جزر "ياب"، أو أصحاب البنية القوية على الأقل، فكانوا يميلون إلى استخدام الأحجار الضخمة. ثم جاء الجنيه البريطاني، وهو أقدم عملة عالمية لا تزال مستعملة حتى اليوم، ليرسّخ الاقتصاد العالمي قبل أن ينهار في بداية ومنتصف وأواخر القرن العشرين.



اليوم، يتفوّق الدولار على جميع العملات الأخرى. يستطيع أكبر اقتصاد في العالم (على الأرجح) أن يطبع الدولارات حين يشاء. يُعتبر الدولار العملة الاحتياطية الأكثر شيوعاً في العالم، وهو يسيطر على التجارة العالمية أيضاً. في غضون ذلك، لا تزال تسعيرة النفط بالدولار، حتى لو انتظرت المملكة العربية السعودية والصين تغيّر هذا الوضع مراراً. يتم تسعير معظم السلع الأساسية وجميع المنتجات الأخرى بالدولار أيضاً.

مع ذلك، يتكلم الكثيرون في الوقت الراهن عن إلغاء الدولرة. خوفاً من العقوبات الأميركية، يبدو أن روسيا والصين بدأتا تكثيف جهودهما مجدداً لاستعمال عملة الرنمينبي في العمليات التجارية مع الشركاء، وتفكر دول "بريكس" في الوقت نفسه بعملة مشتركة جديدة كبديل آخر عن الدولار.

في هذا السياق، قال الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا في الشهر الماضي: "كل ليلة، أسأل نفسي عن السبب الذي يدفع جميع البلدان إلى إتمام عملياتها التجارية بالدولار. من قرّر اعتبار الدولار العملة الأساسية بعد اختفاء معيار الذهب؟".

أولاً، يجب أن يعرف محبّو الذهب أن هيمنة الدولار سبقت جميع المعايير الأخرى. ثانياً، يجب ألا يصدق أحد الأقاويل المتعلّقة بانهيار الدولار قريباً.

ما معنى إلغاء الدولرة؟

يشير إلغاء الدولرة إلى الجهود التي يبذلها البلد لتخفيف اتكاله على الدولار، من خلال استعمال عملة أخرى لإتمام العمليات التجارية العابرة للحدود أو تنويع الاحتياطيات بعيداً عن الدولار عبر الانتقال إلى الذهب، أو اليوان الصيني، أو البيتكوين. لا يعني ذلك بالضرورة أن يصبح الدولار أقل أهمية في اقتصاد البلد أو أن ينتهي زمن هيمنته، إذ تُحدّد قرارات الاحتياطي الفدرالي الأميركي بشأن أسعار الفائدة توجهات جميع البلدان الأخرى تقريباً.

تعليقاً على الموضوع، يقول دانيال ماكداول، أستاذ في العلوم السياسية في جامعة "سيراكيوز": "من وجهة نظري، يعني إلغاء الدولرة بكل بساطة أن تتمكن الحكومة من تخفيف اتكالها على الدولار. أظن أن الخطوة الأساسية في هذا المجال تتعلق بمحاولة التمييز بين مفهوم إلغاء الدولرة ونهاية هيمنة الدولار أو الفصل بينهما. لا داعي كي يكون هذان العاملان متلازمَين".

ما سبب الضجة الراهنة؟

تُعتبر روسيا المسؤولة الأولى عن التركيز المستجد على الدولار، فقد كثّفت استعمالها عملة اليوان للتكيف مع العقوبات الغربية الجارفة. بعد إقدام الكرملين على غزو أوكرانيا، في شباط 2022، ردّت مجموعة السبع عبر سلسلة من التدابير الاقتصادية الصارمة، ما أدى إلى خنق الاقتصاد الروسي وإجبار موسكو على البحث سريعاً عن بدائل للدولار واليورو في آن.

يقول براد سيتزير، مستشار سابق لممثل التجارة الأميركية في عهد بايدن يعمل راهناً في مجلس العلاقات الخارجية: "لا شك في أن الروس اضطروا لإلغاء الدولرة واليورو في عملياتهم التجارية. تكشف الأدلة أن روسيا على وجه التحديد بدأت تستفيد من اليوان أكثر من غيرها، ومن الواضح أيضاً أن الصينيين وآخرين يبحثون عن الفرص المناسبة لتوسيع نطاق استخدام اليوان في المعاملات التجارية".

جاءت الجهود الصينية الأخيرة لتصبّ الزيت على النار. كجزءٍ من محاولات الصين إضفاء طابع دولي على عملتها، أقدمت بلدان عدة، بالإضافة إلى روسيا، على التعامل باليوان حديثاً أو عبّرت عن استعدادها لاتخاذ هذه الخطوة مستقبلاً، بما في ذلك المملكة العربية السعودية، وبنغلادش، والهند، والأرجنتين، والبرازيل، وباكستان، والعراق، وبوليفيا. لكن لم تُعطِ هذه الجهود ثمارها بعد: لا تزال المعاملات العابرة للحدود بعملة الرنمينبي تشكّل نسبة ضئيلة مقارنةً بالعمليات الحاصلة بالدولار أو اليورو.

ما وراء الرغبة اليائسة في التخلي عن الدولار

فيما تفرض الدول الغربية عقوبات قاسية على موسكو، تشعر بكين بالقلق من مواجهة المصير نفسه قريباً. نظراً إلى المناخ الجيوسياسي المشحون في الوقت الراهن، تأمل الصين في أن يسمح لها تخفيف اتّكالها على الدولار بالتصدي للعقوبات التي تُهدد الولايات المتحدة بفرضها.

يقول جيرارد ديبيبو، مسؤول بارز في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: "لا أظن أن أي خبراء اقتصاد صينيين مقتنعون بأنهم يستطيعون استبدال الدولار حول العالم. تبقى أهدافهم أكثر تواضعاً وتتعلق في المقام الأول بتخفيف تعرّض البنوك الصينية للعقوبات، لكنه هدف بالغ الصعوبة".

لكن لا تنجم هذه التحركات عن مخاطر التهديدات بكل بساطة. تتخذ البلدان هذه الخطوة من باب الضرورة في بعض الحالات، فهي مضطرة للجوء إلى عملة اليوان أو أشكال أخرى من العملات حين تعجز عن الحصول على الدولار. أعلنت الأرجنتين مثلاً أنها بصدد استعمال اليوان لشراء السلع الصينية تزامناً مع انكماش احتياطيات الدولار فيها.

كذلك، قد تحاول البلدان تملّق الصين إذا كانت تتكل عليها اقتصادياً، علماً أن بكين بدأت منذ فترة تُشجّع على تدويل عملة اليوان. يوضح ماكداول: "ربما تريد تلك البلدان بهذه الطريقة أن تقنع الصين بأنها إلى جانبها وترغب في مساعدتها على تحقيق أهدافها. يحمل جزء من الأسباب طابعاً سياسياً ورمزياً إذاً".

توّجه جديد؟

لا يُعتبر التوجه الصيني جديداً، بل إنه بدأ منذ سنوات. تعود محاولات الصين لتدويل اليوان إلى الأزمة المالية العالمية في العام 2008 على الأقل، حين أوقفت البنوك الأميركية عمليات الإقراض وتُرِكت بكين لمصيرها. منذ ذلك الحين، تسعى الصين إلى تقوية نفسها وتوسيع نطاق استعمال اليوان في العمليات التجارية عبر اتخاذ خطوات متنوعة، مثل إبرام سلسلة من اتفاقيات تبادل العملات الثنائية وإنشاء نظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود.

تقول تشونغ يان زوي لو، خبيرة في الاقتصاد السياسي الدولي في مجلس العلاقات الخارجية وصحافية في "فورين بوليسي": "هذه المساعي ليست جديدة. لم تبدأ الصين بتطبيق هذه المقاربة حديثاً ولم تعتبر هذه الفكرة صائبة فجأةً، بل إنها أطلقت هذه الحملة منذ فترة".

لكن ما من توافق بين الصين وواشنطن في معظم المواضيع. زادت قوة هذه الحملة الأخيرة نتيجة الاستياء المتزايد من الطريقة التي تعتمدها الولايات المتحدة لإدارة الاقتصاد، بدءاً من مقاربتها الشاملة للتعامل مع العقوبات الاقتصادية وصولاً إلى أزمة سقف الديون الراهنة.

يضيف ماكداول: "أصبحت المخــــاوف الجيوسياسية جزءاً من الأسباب التي تُشجّع على تدويل العملة. أظن أن صانعي السياسة الصينيين يشعرون بالقلق من مواجهة النوع نفسه من الضغوط المالية التي واجهتها روسيا في مرحلة معينة من المستقبل".

هل تُهدّد هذه الجهود هيمنة الدولار؟

لن يحصل ذلك في أي وقت قريب. زاد استعمال اليوان في المدفوعات الدولية لإتمام العمليات التجارية الثنائية، لكن تقول باولا سوباشي من كلية "كوين ماري"، في جامعة لندن، إن حصته تبقى ضئيلة مقارنةً بالدولار.

على مستوى تمويل التجارة والاحتياطيات، لم تُعْطِ الجهود الصينية المطوّلة لتوسيع استعمال اليوان المفعول المنشود. في شهر آذار، كان الدولار يشكّل 41.7% من المدفوعات العالمية، متفوقاً بنسبة طفيفة على حصة اليوان (2.4%)، وفق بيانات جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك. وفي السنة الماضية، بلغت نسبة احتياطيات النقد الأجنبي بالدولار 58% حول العالم، مقارنةً بـ2.7% فقط باليوان الصيني. يصعب استبدال الدولار حين تفتقر العملة البديلة إلى قابلية التحويل، وهذا ما يحدّ من جاذبية اليوان على الساحة الدولية. توضح سوباشي: "لا تزال الأرقام تثبت أن الدولار يبقى العملة المُهيمِنة حتى الآن".

ستتابع بكين محاولاتها ويستمر فشلها. اليوان غير قابل للتحويل، وتسيطر الحكومة على تدفقات الرساميل، حتى أن بكين تتلاعب بقيمتها. لكن يبقى التعامل بالدولار ممكناً وأكثر سهولة في مطلق الأحوال.

في النهاية، يستنتج سيتزير: "أتوقع أن تتلاحق الخطوات التدريجية التي تهدف إلى الاستفادة من اليوان على نطاق أوسع للقيام بالعمليات التجارية بين الصين والبلدان المُصدّرة للسلع الأساسية. في المرحلة اللاحقة، أظن أن الصين ستكتشف صعوبة اتخاذ خطوات أخرى من هذا النوع وتغيير طريقة تعاملها مع العمليات التجارية بشكلٍ جذري لأنها سترغب في متابعة بيع سلعها إلى الولايات المتحدة وأوروبا رغم كل شيء. لن يحافظ اقتصادها على توازنه من دون نسبة كبيرة من الصادرات".


MISS 3