جيمي الزاخم

العصفوريّة... تاريخُ المقهورين في بلادٍ ظَلَمتْ مي زيادة

19 أيار 2023

02 : 00

تلّة العصفوريّة على بطاقة بريدية
أهلاً بكم في العصفوريّة... هنا، الحروف لا تترك فسحات هواء بينها. هي لا ترقص. إنّها تبكي. تملأ بدموعها ثقوب الحجارة. تلوّن بنار بركانها قرميداً أحمر يذبل وحيداً. لن نسرد في هذا المقال معلومات وتفاصيل عن تلّة العصافير التي أورثت المستشفى اسمها. لن نُشَرِّح ذكرى المكان في الحازمية، بالتواريخ والأرقام. لن نخبركم عن عالميته بأطبائه، مبانيه، علاجاته وأدواته الطبّية... هو ليس مجرّد مستشفى للأمراض النفسية.

قناطره أقمار لم يكتمل بدرها. أعشابه حبال مشنقة تلتفّ حول سطر خَرِس من الصدمة. فتحوّل إلى صنارة لحكايا مرضى وناس مرّوا في هذا المكان مع تأسيسه أواخر القرن التاسع عشر حتى إغلاقه في الحرب اللبنانية. حرب من حروب كثيرة ساخنة وباردة. حروب زادت من آلام المرضى وخيباتنا. كانت حواجز تقطع رحلاتنا، رحلات طريق النحل.

طنين العصفورية ولسعاتها رافقا الكاتبة ماري قصيفي من الطفولة إلى اليوم. في قريتها "الريحانية" المجاورة للعصفورية، روى الرجال والنساء الكثير عن المكان. أوقدوا ذكرياتهم مع الكركة. خبأوها في برطامانات المونة. كبرت الطفلة، ومعها قصص شغفتها وأخافتها. جمعتها الكاتبة اللبنانية، وطبختها على نار قلمها. في روايتها "كل الحق ع فرنسا"، تتحدّث عن أبناء الجوار الذين ساعدوا في عمليات البناء. هم أنفسهم تحوّلوا إلى ممرّضين بساعدَين قوييّن لمساعدة ولجم المرضى، وطباخين يطبخون فقرهم مع العدس، وحرّاس تناوبوا على المركز. "توارثوا أسرار المهنة": عندما يموت أحد المرضى، وبانتظار أن يأتي أهله، "كان الحارس يسرق أسنان الذهب وأطقم الأسنان الاصطناعية". أموال هذه الأسرار شيّدت بيوتاً كبيرة في المنطقة.

في حديثها إلى "نداء الوطن"، تستعيد القصيفي زيارتها الأولى إلى المكان عند كتابتها الرواية. حينها كان لا يزال حرّاً، غير مسوّر. لم تكن "سوليدير" قد ضمّـته إليها، ليتسرّب أكثر إلى عزلته وعصفوريته. في زيارتها تلك، تحسّست جدرانه الصفر، لعلّها تخرج من فوانيسها جنّية الرواية. صعد من بئر السنوات شبحُ صراخ مرضى لم يكونوا مرضى. أهل الجوار أخبروها عن عائلات احتجزت أبناءها بحجة المرض النفسي "لتجنيبهم السجن، أو الاستيلاء على ميراثهم...".

قصيفي أحضرت أيضاً دير الصليب إلى روايتها "في الجبل عندنا خمسة فصول". هذه الأماكن تشغلها كثيراً كجغرافيا، علم اجتماع وثقافة. تقول إن "الوجع هو المحرّك". هذه الأمكنة مرتبطة بمعاناة الأشخاص. ظروفهم العائلية والصحية والنفسية تترجم وطناً "مرّت عليه حينها اضطهادات، مجاعة 1914 وغيرها الكثير من أوجاعٍ دُوّنت في سجلّ تاريخ يكتبه المنتصر". يأتي دور الرواية، حسب قصيفي، لتكون "تاريخ المقهورين والمظلومين". يكتبها لسان الموجوع المنهزم.

هزائم كثيرة شهدتها العصفورية. أشهرها، وربما ليس أثقلها، هي محنة الأديبة مي زيادة. في بداياتها، كتبت ماري قصيفي باسم استعارته من "سميّـتها". اختارت اسم "مي. م. الريحاني". جمعت مي زيادة وأمين الريحاني. هو من قلّة ساندت الأديبة في محنتها الشهيرة.



قناطر العصفوريّة أقمار بشر لم يكتمل بدر سعادتهم


(السطور التالية هي موجز لأهمّ ما مرّ على مي. كل جملة هي حبة في سهل واسع من تجربتها).

كانت متعبة مكتئبة بعد ثلاث خسارات خلال ثلاث سنوات: توفّي الياس والدها عام 1929، وجبران خليل جبران عام 1931. وفي شباط 1932 لحقتهما والدتها نزها وتركتها وحيدة. استغلّ أقاربها ضعفها وانهيارها للسيطرة على حصتها من الميراث. وضعوها في العصفورية. تعذّبت. أضربت عن الطعام. مي كتبت "أليس أشدّ دلائل القوة خطراً أن يظلّ النسر محلّقاً ولو مهشّماً دامياً؟". حمّلت العصافير شوكها، قالت لهم: اذهبوا وبشّروا بصليبي.

بعد وصوله من الولايات المتحدة الأميركية، زارها أمين الريحاني في مستشفى ربيز الذي نقلت إليه من العصفورية. جمعتهما علاقة أدبية، إنسانية وفكرية منذ العام 1910. هذه المرحلة يرويها الريحاني في "كتاب قصتي مع مي". كتاب أعدّه ابن أخيه البروفيسور أمين ألبرت الريحاني ونشره العام 1980. يلفت في حديثه لـ"نداء الوطن" إلى أنّه جمع من متحف عمّه كلّ المقالات والمخطوطات المتعلّقة بهذه المحنة. "لم يكن الأمر سهلاً، واستغرق وقتاً".




ماري قصيفي: لمَ موّلت دولٌ العصفورية وليس مشروعاً اقتصاديا؟


في هذا الكتاب يعترف أمين بذنبه. يروي أول لقاء بينهما. قابلته مي بصمت تام. في اللقاء الثاني: صمت الإثنان كأبي الهول. الصمت المهيب كسرته مي الناقمة عليه. كانت مؤمنة أنه لن يتركها. يروي الريحاني محاولاته لإخراجها بالتوسط مع ابن عمّها يوسف زيادة. بدايةً، يضع الأخير عوائق مادّية لعرقلة الأمر. ثمّ يتآمر مع القنصل المصري للمماطلة. يوميات يوثّقها الريحاني عن معركة طويلة لم تكن سهلة. خاضها وعدد قليل من أصدقائها: معركة أدبية لإعادة تقديم مي بنصاعتها الفكرية. ألقت محاضرة، بتدبير الريحاني، في "الجامعة الأميركية"، لنفي الاشاعات وإخراس الوشوشات. قانونيّاً، توكّل عنها بهيج تقي الدين وحبيب أبي شهلا. وسياسياً، الريحاني كان واعياً لأهمية تدخل الحكام العرب. لم يذكر تواصله معهم إلّا بخجل في الكتاب. إنّه، حسب ابن أخيه، "لا يطبّل ولا يزمّر". عائلة "الجزائري" الشامية من أصول جزائرية، توسطّت لدى ملك الأردن الذي أبرق إلى الرئيس اميل اده. هذه العائلة حضنت مي ودعمتها. ومن غير المتداول كثيراً، طرح مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة أزمة مي مع جهات في الأجهزة الفرنسية واللبنانية. بعد وفاة مي عام 1941، يكشف سعادة هذه التفاصيل في مقالته في مجلة الزوبعة. يسرد لقاءه معها في المستشفى في كانون الثاني 1938. أثنى على ثقافتها واستعدادها النفسي. يصفها بـ"كرمة ثابتة في أرض شوك كثير". بعد خروجها من مستشفى "الجامعة الأميركية"، أوصى حرّاساً قوميين بحمايتها في سكنها في رأس بيروت. بعدها انتقلت الى الفريكة لتسكن لأشهر عدّة، إلى جوار الريحاني في منزل جهّزه لها.



أمين ألبرت الريحاني: مي وأمين لا ينتصران إلّا بانتصار الفكر الحرّ



بعد نشره الكتاب، عثر أمين ألبرت الريحاني على رسالتين كتبهما الأديب إلى مي بعد عودتها إلى مصر. يعبّر فيهما عن شوقه إليها: "في الفريكة، كل زاوية تذكرني بك". الفريكة التي وصفتها زيادة في إحدى رسائلها للريحاني بأنّها "جارة الله... عطية السماء".

يشدد الريحاني، في حديثه إلينا، أن خروج مي من محنتها انتصار يبقى ناقصاً. انتصارها وأمين وكل أهل القلم يكتمل عند انتصار الإنسان بفكره، عقله وحرّيته. اليوم، كثيرات هنّ مي. وحدهنّ في مصحات عقلية، أو في منازلهنّ. معذّبات، منفيّات. ليلاً، يطعمن النجوم بعيونهنّ. يدندننّ مع أميمة الخليل كلمات محمود درويش وألحان مارسيل خليفة: "نزلت ع خدّو دمعة وجناحاتو متكيّة، واتهدّى بالأرض وقال بدي إمشي وما فيّي... عصفور طلّ من الشباك".