عيسى مخلوف

بيكاسو ومرحلة ما قبل التاريخ

20 أيار 2023

02 : 00

اكتشفَ بيكاسو، منذ وصوله إلى باريس مطلع القرن العشرين، أهمّية الفنون الأولى، الأفريقيّة والأوقيانيّة، ولاحقاً، الرسومَ التي اكتُشفَت على جدران مغارة «لاسكو» في فرنسا وترقى إلى أكثر من عشرين ألف سنة. كان بيكاسو صديقاً لعرّاب الحركة السورياليّة أندريه بروتون الذي كان مولعاً، هو أيضاً، بتلك الفنون.

في العام 1907، انتهى بيكاسو من رسم لوحة عنوانها «آنسات أفينيون» التي تُعَدُّ، بكسرها القواعد الأكاديمية، أحد أبرز الأعمال الفنية في تاريخ الفنّ الحديث. في هذه اللوحة، تطالعنا خمس نساء، ويحضر فيها تأثير الفنّ الأفريقي من خلال استبدال الفنّان وجهين من وجوه النساء بقناعين أفريقيين.

لقد نهلَ بيكاسو من الفنون القديمة ومن أسطورة الفنان الأول التي كان لها موقع مهمّ في تجربته وتفكيره، وهذا ما نستشفّه في أعمال الكثير من المبدعين والفنانين المُحدثين في مرحلة ما بين الحربين العالميتين. هذا الجانب في مسار بيكاسو يُسَلَّط عليه الضوء في المعرض المُقام في «متحف الإنسان» وعنوانه «بيكاسو ومرحلة ما قبل التاريخ»، حيث تطالعنا أعماله المعروضة التي تتجاوز الأربعين عملاً، في محاذاة قِطَع أثريّة وفنية يعود أقدمها إلى 27 ألف سنة ويتمثّل في منحوتة «فينوس ليسبوغ» المكتشفة في فرنسا، وهي إحدى روائع فنون ما قبل التاريخ، وتحضر في المعرض بكلّ قوّتها المادّيّة والرمزيّة.

تحفة فنّيّة هي، والذي نحتها كان، بحسب منظّمي المعرض، نحّاتاً عظيماً لا يقلّ أهمّيّة عن نحّاتين كبار كالنحّات الفرنسي أوغست رودان، لأنّ تكوينها وتصَوُّر بنائها يشيران إلى معرفة عميقة بالنحت لا يخالها المرء موجودة في تلك الأزمنة السحيقة، فضلاً عن أنّها تجسّد حلم كلّ فنّان في العالم: الخروج، عبر طريق الفنّ، من المكان الواحد إلى الأمكنة المشرّعة كلّها، ومن الزمان المحدود إلى ما لا يُقَيَّد بزمن.

إذا كان البُعد الجمالي بارزاً في هذه المنحوتة، فإنّ الهدف من نحتها وظروف استخدامها لا يزال لغزاً حتى الآن، كعشرات المنحوتات التي اكتُشفت، من تلك المرحلة، في القارة الأوروبية. تُعتبر هذه المنحوتة أيضاً واحدة من أجمل تمثيلات النساء خلال فترة زمنية تمتدّ بين 34 ألف سنة و26 ألف سنة. وقد تحوّلت، إضافة إلى خصائصها الفنية، وقدرتها على تطوير الإنتاج الفنّي المعاصر، إلى ظاهرة اجتماعية تمحورت حول نظرة المجتمع إلى أجساد النساء وحول الصُّوَر النمطيّة الذكوريّة التي أُلحِقَت بها وفرضت مثالها الجمالي عليها. وهذا ما يؤكّد أنّ جسد المرأة لا يزال موضوع خطاب ذكوري يتغيّر مع الأزمنة ووفق ظروف هذا المجتمع أو ذاك، لكنه يستمرّ في جعل المرأة أسيرة النظرة المسلّطة عليها والتعاطي مع جسدها كملكية خاصّة.

تحيلنا منحوتة «فينوس ليسبوغ» إلى تماثيل النساء العاريات في بلاد ما بين النهرين والساحل الكنعاني، واعتمد الفنّانون الأوائل في صياغتها على المبالغة في حجم الأثداء والأرداف والأفخاذ، ورمزت إلى الخصوبة والأرض الأمّ، من دون أن يختفي الجانب الحسّي فيها.

يُبَيِّن لنا المعرض أيضاً «سلطة» المخيّلة والإبداع منذ فجر التاريخ، ويقرّبنا من الزمن الذي وُلدَ فيه الفنّ، ويرقى إلى أكثر من 45 ألف سنة، بحسب الأبحاث الحديثة التي أرَّخت لأقدم الرسوم المعروفة حتّى الآن، والتي وُجدت في إندونيسيا، وذلك بعدما ساد الاعتقاد طويلاً أنّ التعابير الفنية الأولى ظهرت في أوروبا، خصوصاً في مغارة «لاسكو» التي أتينا على ذكرها، ومغارة «شوفيه» التي تعود إلى أكثر من ثلاثين ألف سنة. إنها عودة إلى الفترة الأولى التي تجلّى فيها النحت والرسم والموسيقى في مستوى رفيع من الإتقان الجمالي.

من تلك العصور القديمة إلى الزمن الحديث، ننظر إلى صُوَر الخيول البرّيّة والثيران التي رُسمَت على جدران المغاور، ونلتفت إلى بيكاسو وأحصنته المرسومة وثيرانه. ثمّ نُمعن النظر في «فينوس ليسبوغ»، ونرى أثرها في رسومه ولوحاته ومنحوتاته. بيكاسّو ركّز على رسم المرأة، خصوصاً النساء اللواتي رافقَهنّ في حياته، وأصبحنَ مُلهمات لفنّه وضحايا لنرجسيّته، ولم يترك لهنّ سوى احتمالين اثنين: الاكتئاب أو الانتحار.




منحوتة «فينوس ليسبوغ » (27 ألف سنة)


MISS 3