جاد حداد

Working: What We Do All Day... مراجعة واقعية للحلم الأميركي

20 أيار 2023

02 : 00

في العام 1974، نشر الكاتب والمذيع ستادس تيركل كتاباً سميكاً حقق أعلى المبيعات وحمل عنواناً طويلاً على نحو غير مألوف:Working: People Talk About What They Do All Day and How They Feel About What They Do (العمل: الناس يتكلمون عما يفعلونه طوال اليوم وما يشعرون به حيال ما يفعلونه). إنه كتاب كلاسيكي عن دراسات العمل، وهو يجمع قصصاً شفهية عن أكثر من مئة عامل في جميع مجالات الصناعة، بدءاً من الزارعة، والتصنيع، والرعاية الصحية، وصولاً إلى الفنون والرياضات الاحترافية.

كان باراك أوباما معجباً بكتاب تيركل منذ أيام دراسته في الجامعة، لذا قرر الآن أن يطرح نسخة مستحدثة عن المشروع بعنوان Working: What We Do All Day (العمل: ما نفعله طوال اليوم). بدأت شبكة "نتفلكس" تعرض هذا الوثائقي المؤلف من أربعة أجزاء حديثاً. تشمل كل حلقة ثلاثة عمّال ينتمون إلى الفئة نفسها من اليد العاملة المعاصرة وتستعرض هرمية الثروات والنفوذ، بدءاً من قطاع الخدمات، مروراً بالوظائف المكتبية التي تشغلها الطبقة الوسطى، وصولاً إلى "وظائف الأحلام" وأخيراً أرباب العمل. أوباما هو الراوي والمنتج التنفيذي للمسلسل، كما أنه يظهر على الشاشة بشكلٍ متقطع ويعرض هذه القصص في سياق الاقتصاد الأميركي الذي شَهِد تغيرات جذرية منذ عصر تيركل. يبدو العمل مثيراً للاهتمام قبل بلوغ النهاية الغريبة حيث يظهر كبار المدراء التنفيذيين في الشركات بصورة إيجابية مفرطة وبعيدة عن الواقع.

تحمل الحلقة الأولى عنوان Service Jobs (وظائف الخدمات) ويمثّل المشاركون فيها العمّال في قطاع الخدمات: مساعِدة صحية في دار رعاية في ميسيسيبي، ومدبّرة منزل قديمة في فندق "بيار" في مانهاتن، وسائقة في منصة Uber Eats تحلم بأن تصبح خبيرة مكياج. ليست صدفة على الأرجح أن يقع الاختيار على أمهات ونساء من أصحاب البشرة السوداء.

يذكر أوباما أن البعض يعتبر وظائف هؤلاء النساء "قليلة المهارة"، لكن لا أحد يصدّق ذلك الكلام إلا من لم يقوموا بهذا العمل يوماً. سنشاهد راندي التي تختار أن تكون مساعِدة صحية بدل قبول وظيفة براتب أفضل في مصنع سيارات لأنها أرادت القيام بعمل قيّم، ففضّلت الإصغاء إلى مريض كبير في السن والتقرّب منه. سنعلم لاحقاً أنها اضطرت لترك عملها لأن متطلبات الوظيفة لا تتماشى مع مسؤوليات أم عازبة مثلها. في المقابل، تكسب إلبا، مدبّرة المنزل، راتباً جيداً وتستمتع بتمضية الوقت مع زملائها في مكان عمل إيجابي نسبياً.

يضع أسلوب أوباما السردي تجارب المشاركين في كل حلقة في سياق اقتصادي واجتماعي وسياسي واسع. تحمل الحلقة الثانية عنوان The Middle (الطبقة الوسطى)، وهي تعرض قصة مُشَغّل لوحة التبديل في فندق "بيار"، ومُشرِف في دار رعاية، وموظف في شركة تكنولوجيا السيارات Aurora Innovation. يتطرق أوباما في هذه الحلقة إلى انكماش الطبقة الوسطى. لوك هو موسيقي متمرس خارج دوام عمله، لكنه يتناقش مع والديه دوماً حول السبب الذي يمنعه من تحقيق الحلم الأميركي الذي يقضي بشراء أول منزل له. في حلقة Dream Jobs (وظائف الأحلام)، يتكلم العمال عن رغبتهم في إيجاد معنى لحياتهم عبر مهنتهم. في هذا السياق، يسأل أوباما: "حين تملك كل شيء، ما هي مسؤوليتك تجاه الآخرين"؟

يعرض الوثائقي قصص أشخاصٍ دقيقي الملاحظة وعميقي التفكير. هم يعبّرون بفصاحة عن وجهة نظرهم لسدّ الفجوة بين الوظائف التي يشغلونها في الوقت الراهن والمسائل التي تضمن سعادتهم في نهاية المطاف. سيكون أوباما مشارِكاً ناشطاً في المسلسل أكثر مما نتوقع. هو يتجول في فندق "بيار" بكل سلاسة ويقدّم وجبات الغداء إلى العاملين في المكتب، ويصغي إلى لوك وهو يعزف الموسيقى في قبو منزله، ويشتري البقالة مع راندي. هو يدعو المشاركين إلى التكلم عن تجاربهم بكل شجاعة. هم يشعرون بالراحة لدرجة أن يطرحوا أسئلة صريحة جداً. تسأله راندي مثلاً: "هل تشعر بالسلام الآن"؟ فيجيبها أوباما: "نعم، لكني قلق على الجيل المقبل".

لكن حبذا لو حرص أوباما والفريق المشارك في هذا المشروع على توضيح أسباب اللامساواة التي يتطرق إليها الوثائقي أو المسؤولون عنها. يقول الرئيس السابق في الحلقة الأولى: "كمجتمع بحد ذاته، يتسنى لنا أن نُحدد شكل الحياة التي يعيشها العمّال". لكن ما هي الفئة التي يشير إليها حين يتكلم بصيغة الجمع؟ ربما يعني بكلامه الناخب الأميركي بدرجة معينة. في معظم الحالات، يتخذ كبار المسؤولين في الشركات تلك القرارات التي تقضي بمنح 9$ في الساعة فقط إلى العامل الذي يقوم بجهد جسدي شاق أو دفع رواتب موظفين بدوام كامل وكأنهم متعاقدون.

قد يوحي عنوان الحلقة الأخيرة The Boss (الرئيس) بحصول شكلٍ من المساءلة. لكن تعرض هذه الحلقة تجارب ثلاث شخصيات بارزة وغير مألوفة. بعدما كان العمال في قطاع الخدمات صريحين حول وضعهم المالي، لا يتكلم أي من هؤلاء القادة عن رواتبهم أو ثرواتهم.

في أفضل الأحوال، يمكن اعتبار الحلقة الأخيرة انعكاساً للوجهة التي يُفترض أن يتخذها قادة الشركات في العام 2023، لكنها لا تمثّل حقيقة ما يحصل على أرض الواقع. تُذكّرنا الأجواء العامة بالخطابات الرنانة التي يلقيها المسؤولون في الحزب الديمقراطي عن معاناة الفقراء والطبقات العاملة والوسطى، لكنها لا تُحَمّل أحداً مسؤولية نشوء هذه الظروف أو إحداث التغيير المطلوب.

مع اقتراب النهاية، يسأل أحد أرباب العمل أوباما عن قلقه من الانقسامات المتزايدة في المجتمع، فيجيب الرئيس السابق: "إنه أكبر قلق لديّ. يجب أن نبذل جهوداً كبرى لتقوية المؤسسات الديمقراطية، لكني أظن أن البيئات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تحتاج إلى تدعيم إضافي". إنها فكرة عميقة، لكنها تُستعمَل بصيغة الجمع المبهمة مجدداً ولا تطرح حلولاً ملموسة.