ملّاح الصحراء... نمل بقدرات خارقة!

14 : 01

journey of an ant

في مقدمة كتاب Desert Navigator (ملّاح الصحراء)، يكتب روديغر ويهنر أن "كاتاغليفيس هو مجرّد نوع من النمل، لكنه نمل مميز بالفعل". بعد قراءة أول فصل من الكتاب، يسهل أن نقع تحت سحر عالم الحشرات ومهارات الملاحة المدهشة التي تشتق لدى هذا النمل من 500 ألف خلية عصبية في دماغه الذي يَزِن أقل من عِشْر ميليغرام.

انجذب عالِم الأحياء ويهنر في شبابه إلى هذا النمل حين زار مساحات ملحية في تونس وشاهد نملة تحمل حشرة نافقة وتركض بها على مسافة 100 متر في أنحاء صحراء قاحلة وصولاً إلى ثقب يقود إلى حُجْر خفيّ. كيف عرفت النملة وجهتها؟ بعد مرور 50 عاماً، حصلنا على أجوبة كثيرة في هذا الكتاب العظيم بفضل ويهنر الذي أصبح الآن مديراً فخرياً لمعهد علم الحيوان في جامعة "زيورخ"، سويسرا، والباحثين الذين ألهمهم.

أدرك ويهنر منذ مرحلة مبكرة أن نمل "كاتاغليفيس" هو "كائن حي نموذجي" لدراسة سبل الملاحة والتوجيه لدى الحيوانات. يركض النمل على مساحات مسطحة مفتوحة، لذا يسهل تعقبه واستكشاف مهاراته. تبدو الأسرار التي انكشفت خلال خمسة عقود من الأبحاث مدهشة بمعنى الكلمة.


تتعلق أولى المفاجآت بقدرة هذا النوع من النمل على فعل ما يسمّيه الملّاحون البشر "احتساب الموقع"، ما يعني التنبه المتواصل للوجهة والمسافة لاحتساب طريق العودة إلى الوجهة الأصلية.

يستعمل النمل نمط السمـاء المتقطّع كبوصلـة له، ويتكل أيضاً على المجال المغناطيسي للأرض ورياح الصحراء. تُقاس المسافة عبر "عدّاد خطى" (يحتسب النمل عدد خطاه) وعبر استشعار "التدفق البصري" أو الحركة النسبية للأرض تحته أثناء الركض.إذا كانت الصحراء تشمل أي معالم بارزة، مثل الصخور، يبرع النمل في استعمالها للملاحة أيضاً. حين تغادر النملة الحُجْر، يصف ويهنر كيف تنظر مجدداً إلى المدخل وتتوقف لأخذ "لقطات سريعة" عن محيطها. ثم تقارن تلك اللقطات مع المنظر الذي تشاهده في الوقت الحاضر لتحديد طريق العودة.




يكشف ويهنر مهارات مدهشة أخرى لدى النمل قبل أن ينتقل إلى دراساته الرائدة حول أصعب سؤال: كيف يستوعب النمل هذه المعلومات كلها في ذاكرته لتحديد وجهته؟ تلتقي الدراسات الميدانية مع تقنية النمذجة المحوسبة وعلم الروبوتات وعلم الأعصاب في هذا المجال بالذات.

حتى الآن، يبدو أن الأبحاث حسمت جدلاً قديماً: لا يشكّل النمل "خريطة" عقلية عن محيطه كما يظن عدد من الباحثين. صحيح أنه يبرع في تحديد المواقع، لكنه يستعمل تقنية بسيطة دوماً. لا يعرف هذا النمل موقعه بدقة بل يُحدّد وجهته حصراً. قد تبدو هذه الفكرة مربكة، لذا يمكن مقارنتها بما نفعله حين ننطلق من فندق في مدينة غريبة. قد لا نعرف مكاننا، لكننا نستطيع تحديد طريق العودة إلى الفندق عبر تذكّر عوامل محددة ("انعطفتُ إلى اليسار بالقرب من سوبرماركت كبيرة"!).

كتاب Desert Navigator مكتوب بأسلوب مقتضب وجدّي. يجب أن تُخصّص وقتاً كافياً إذاً لمراجعة رسومه البيانية التوضيحية، لكنك ستستفيد بهذه الطريقة من اكتشاف "العملية العقلية التي تؤدي إلى إيجاد الحلول" وبراعة التجارب التي صمّمها ويهنر وآخرون لاستكشاف الأسرار الكامنة وراء تصرفات النمل.

لإثبات قدرة النمل على احتساب الخطوات لتقدير المسافة التي يقطعها مثلاً، أُلصِقت ركائز ضئيلة على سيقانه لإطالة خطواته، ما أدى طبعاً إلى تغيّر تقديراته بشأن المسافات المقطوعة. ولإثبات قدرة النمل على استشعار التدفق البصري، بُنِي ممر في الصحراء له نمط متحرك من الخطوط تحته. أدى هذا التصميم أيضاً إلى تغيير طريقة إدراك النمل للمسافة التي يقطعها ركضاً.

حين تنهي الكتاب، ستصبح من المعجبين بنمل "كاتاغليفيس" لأن هذا الكائن ليس بارعاً في الملاحة فحسب، بل إنه يعتني بصغار النمل في بداية حياته أيضاً، ثم يتعلم حفر الأرض وأخيراً ينطلق مسرعاً من حُجْره البارد إلى حرارة الصحراء الحارقة لجمع المؤن بعد رحلات خجولة في المرحلة الأولى.

يحقق هذا النمل في الخارج إنجازات مذهلة. فهو يستطيع التنقل بسرعة ويغطي حتى 110 من أطوال جسمه في الثانية. بالمعنى البشري، تساوي هذه المسافة حوالى 600 كيلومتر في الساعة. كما أنه يضطر للتهرب من المخاطر في كل مكان. تهاجمه حشرات من فصيلة العنتر من الجو، وتظهر عناكب قافزة من السطح وخنافس نمرية من تحت الأرض. بشكل عام، يموت النمل الباحث عن المؤن خلال خمسة إلى سبعة أيام، مع أنه يعيش حتى خمسة أشهر في المختبرات. لكن يضطر النمل دوماً للبحث عن الغذاء. يا لها من حياة ويا له من نمل مدهش!


MISS 3