باتريسيا جلاد

الإقتصاد النقدي فاقم هذه الظاهرة الخطيرة

تفاقم التهرّب الضريبي على كل المستويات في لبنان

22 أيار 2023

02 : 00

الإصلاح الضريبي كما يجب يوفر إيرادات لتغطية صحية شاملة

في نظامنا الضريبي معوّقات وتعقيدات وغموض واستنسابية

الحوافز الضريبية الإمتيازية والخاصة تتيح التهرب "«المشرعن"»

قدرت كلفة التهرب بنحو 4.5 مليارات دولار كما في 2018

لا ضرائب موحدة على الدخل ولا رقم ضريبياً شاملاً للجميع

تصريحات أصحاب المهن والمصالح لا تتجاوز نصف المفروض

السرية المصرفية تخفي الموارد وتعيق تطبيق النسب التصاعدية



أدى فشل النظام المصرفي في لبنان وانهيار العملة الوطنية إلى خلق اقتصاد نقدي كبير مدولر يقدّر حجمه استناداً الى البنك الدولي بنحو 9.86 مليارات دولار أو 45.7% من إجمالي الناتج المحلي في العام 2022.

واعتبر البنك الدولي في تقرير المرصد الإقتصادي للبنان أن «الاقتصاد النقدي المنتشر والمتزايد بالدولار يشكّل عائقاً رئيسياً أمام التعافي الاقتصادي. فالاقتصاد النقدي لا يهدّد بالمساس بفعالية السياسة المالية والنقدية فحسب، بل يزيد أيضاً من مخاطر غسل الأموال، ويزيد من النشاط الاقتصادي غير الشرعي، ويحفّز على المزيد من التهرّب الضريبي. وكلفة التهرّب والتهريب الضريبي استناداً الى تقرير صدر عن بنك عوده في العام 2018 تبلغ 4,5 مليارات دولار ما يوفّر تغطية طبّية شاملة للبنانيين المقيمين.

علاوة على ذلك، يهدد الاعتماد المتزايد على المعاملات النقدية أيضاً بعكس مسار التقدم الذي حققه لبنان قبل الأزمة، تعزيز سلامته المالية من خلال إنشاء آليات متينة لمكافحة غسل الأموال في القطاع المصرفي».

ويترقّب إقتصاديون ان يتعزّز وضع الإقتصاد النقدي مع استفحال التهرّب الضريبي الذي سيوسّع رقعته مع زيادة حجم السلّة الضريبية الآخذة في الإرتفاع وآخرها الدولار الجمركي الذي ارتفع من 1500 ليرة الى سعر منصّة «ًصيرفة» البالغة 86 ألف ليرة والقابلة للتغيير على وقع تحرّك دولار السوق السوداء.

نظام قائم على الضرائب النوعية

يعرَّف التهرّب الضريبي، بالتخلّص من دفع الضريبة المتوجّبة على المكلّف كلّياً أو جزئياً بصورة مشروعة او غير مشروعة.



كريم ضاهر


ويقول المحامي كريم ضاهر خلال حديثه الى «نداء الوطن» أن «النظام الضريبي اللبناني الحالي يقوم بشكل أساسي على الضرائب النوعية scheduled taxes التي تعتمد أصولاً خاصة وتتيح للعديد من الأشخاص تفادي التصريح عن إيرادات مخفية ومستترة وغير ملحوظة في المنظومة، سيما وأنه يعفي إلى حدٍ كبير شريحة واسعة من المواطنين والمقيمين من موجب تعبئة وتقديم التصاريح الضريبية المفصلة عن إيراداتهم ونفقاتهم وثرواتهم.

وفي هذا السياق يشير ضاهر الى أنه بهدف التصدي للتهرب الضريبي بات من الملحّ أن يتطور نظامنا كي يصار إلى تطبيق الضريبة الموحدة على الدخل مع تعميم موجب تعبئة التصريح ليشمل أكبر عدد من المكلفين مع فرض موجب التصريح عن النفقات (حتى النثرية منها) بما يسمح بكشف المكلفين المكتومين. غير أنه يقتضي بالمقابل الإبقاء على آلية تحصيل الضرائب عند المنبع Withholding Tax System وذلك نظراً لما تتمتع به من مزايا كونها سهلة الجباية ومفيدة لتأمين الموارد اللازمة من دون إلزامية توفر جهاز إداري ضخم للمتابعة والتدقيق. ونجاح نظام التصريح الذاتي يبقى مرتبطاً إلى حدٍ ما بتأمين العدالة والرفاهية غيرالمتوفرة في الوقت الراهن.

ويقول ضاهر والذي أعد دراسات حول هذا الموضوع أن «دراسات عدة لمدى الإلتزام الضريبي أظهرت بما لا ريب فيه أن حالة التهرب الضريبي الأكثر شيوعا هي تلك التي تحدث مع الأشخاص الذين تُرك لهم هامش من الحرية والثقة، بينما يتبين أن نسبة التحصيل لدى الفئات التي تتقاضى رواتب وأجور تقتطع ضرائبها عند المنبع مباشرة من قبل صاحب العمل هي بنسبة 100% مقارنة مع أصحاب المهن والمصالح الآخرين الذين يصرحون عن أنفسهم (48 %).

7 أسباب تحول دون الجباية كما يجب

إضافة الى ذلك، هناك أسباب أخرى تحول دون الجباية الضريبية كما يجب ومنها:

1 - ضعف جهاز الإستقصاء والإحصاء لدى الدولة لملاحقة المكلفين المتقاعسين.

2 - الحوافز الضريبية الإمتيازية والخاصة التي أتاحت التهرب «المشرعن» من الضرائب وأهمها: حرية التفرغ عن الأسهم الإسمية ولحامله أو لأمر من دون أي إجراء رسمي (كاتب عدل) أو تكليف، كما وإعفاء البيوعات العقارية وأرباح السمسرة على أنواعها.

3 - ضغط ضريبي pression fiscal مبالغ فيه.

4 - إستعمال المقيمين للقوانين والأنظمة الهادفة أصلا إلى جذب المستثمرين لغايات ضريبية خاصة تسمح بتخفيض أو إلغاء العبء الضريبي (مثال أنظمة الهولدنغ والأوف شور).

5 - الزبائنية والنفوذ السياسي والحصانات المتنوعة ومناطق خارجة عن الرقابة والملاحقة.

6 - عدم وجود قيود أو رقابة فعّالة على الحدود أو حتى لا نية لدى المسؤولين تسمح بمراقبة انتقال الأموال والقيم ذات القيمة المرتفعة (عملة، سندات، حلى، أحجار كريمة، ذهب، تحف فنية وإلخ) مما كان يسهل عملية الإخفاء وتبييض الأموال.

7 - الولوج إلى وسائل قانونية مركبة تتيح عن طريق الشركات والكيانات المنشأة في عدة دول ذات الأنظمة الضريبية المتباينة تخفيض الكلفة الضريبية إلى أدنى حدّ. وأهمها الذمم الإئتمانية Trusts & Foundation التي أبقت العديد من الذمم المالية والثروات الهائلة للمقيمين في لبنان خارج شبكة ووعاء التكليف إن لجهة الضريبة على إيرادات رؤوس الأموال المنقولة أو لجهة رسوم الإنتقال على التركات».

إن كل محاولة للحد من هذا التهرّب لا بد من أن تترافق استناداً الى ضاهر مع «إجراءات أخرى تساعد على إزالة المعوقات والتعقيدات والغموض التي تكتنف نظامنا الضريبي الحالي القائم على الضرائب النوعية وإستنسابية الإدارة.

كما وأن عملية تحديث وتطوير القوانين، من جهة أخرى وموازية، قد تشكل بدورها حافزاً لترشيد الأعمال وتقوية الشفافية وإعطاء صورة حسنة ومستقرة عن لبنان.

5 تدابير تطويرية لا بد منها

لذا، فإننا نورد بعض التدابير والمقترحات لعلّها قد تشكل أرضية صالحة للنقاش والمبادرة تمهيداً للتغيير والتحديث والوصول إلى المساءلة الحقيقية والمواطنية الضريبية الصالحة:

أ- إستحداث الضريبة الموحدة على الدخل Impôt General sur le revenu مع تجميع الإيرادات على أنواعها ضمن مطرح ضريبي (assiette fiscale) واحد خاضع للضريبة التصاعدية؛ ما من شأنه أن يؤمن العدالة بين المكلفين وفق إمكانيات كل منهم. إلا أن هذا الإجراء يقتضي أن يترافق مع تدابير أخرى ملازمة لتأمين نجاحه وهي:

- رفع السرية المصرفية لكي يتم التثبت من أصولية التصريح وعدم إخفاء مورد سيما لجهة تطبيق النسب التصاعدية.

- إعتماد وتعميم الرقم الضريبي الموحد لجميع المقيمين وربطه برقم الهوية أو رقم جواز السفر الأجنبي بحيث يتوجب الإعلان عنه بمناسبة كل معاملة تجارية او مصرفية تترافق مع توثيق للمعلومات لتحليلها من قبل الإدارة الضريبية.

- الإبقاء على نظام الإقتطاع لدى المنبع (withholding tax) بالنسبة للضرائب النوعية الحالية المسددة إلى بعض الفئات (رواتب وأجور، غير مقيمين، رؤوس أموال منقولة).

ب- التشدد في الحفاظ على سرية المعلومات ولا سيما منها المهنية عملاً بأحكام القوانين النافذة 23.

ج - تسهيل وتبسيط الأنظمة والإجراءات الضريبية وتأمين المعلومات العملية اللازمة للمكلف العادي ليكون على دراية بحقوقه وموجباته.

د - تحسين العلاقة بين الإدارة الضريبية والمكلف وإعتماد قرينة البراءة للحد من الإستنسابية والتجاوزات غير المضبوطة، فالتطبيق غير المتكافئ والتمييز في المعاملة بين الأشخاص والفئات من شأنه أن يبعد المكلف عن الإلتزام والمواطنة بدل من تقريبه منهما.

ه - السعي للوصول إلى استقلالية القضاء مع إعطائه الوسيلة للتدخل في المراحل الإجرائية الإدارية مثال هيئة مشتركة لكشف عمليات التعسف في إستعمال الحق من جهة، كما والوسيلة الكفيلة التي تضمن تنفيذ قراراته من جهة أخرى. هذا غيض من فيض مما يمكن القيام به.

من مبدأ الإقليمية إلى مبدأ الإقامة

المطلوب أولاً بأول، هو معالجة الخلل الناتج عن ضعف تحصيل الضرائب المتوجبة وتكبير الدخل وزيادة الإنتاج الفعلي قبل أي شيء آخر.

ومن هذا القبيل يقتضي أيضاً الإنتقال في التكليف بالنسبة الى الأشخاص الطبيعيين من مبدأ الإقليمية إلى مبدأ الإقامة واعتماد نظام الضريبة الموحدة على الدخل بشطورها التصاعدية على مجمل الإيرادات مهما كان مصدرها في الداخل أو الخارج مع مراعاة المعاهدات الضريبية النافذة. وإن إستحداث هذه الضريبة هو الإصلاح الأساسي الذي يُعوّل عليه أولاً، لتحقيق عدالة ضريبية وإجتماعية طال انتظارها؛ وثانياً، لتحسين الجباية وتأمين الإلتزام ومحاربة الغش والتهرب والإقتصاد الخفي الموازي.

رفع الضريبة على قطاعات معينة

ومن المجدي ايضاً إن لم يكن من الواجب إعتماد سياسة ضريبية تحفز الإنتاج وتزيد العبء الضريبي على النشاطات التي لا تساهم في تأمين قيمة مضافة للإقتصاد أو إنتاجية أو تلك القطاعات التي استفادت، دون غيرها، من ظروف إستثنائية على غرار إنتشار وباء كورونا ونتائجه والأزمة المالية وانفجار مرفأ بيروت... ناهيك عن رفع ملازم لنسبة الضريبة المترتبة على النشاطات المضرّة بالبيئة والصحة (كسارات، تبغ، مقالع، إشغال الواجهات البحرية،...). على أن يخصص بالمقابل في الموازنة باب خاص للإنفاق الإجتماعي الملحّ (البطاقة الطبية، ضمان البطالة، شبكة الأمان الإجتماعية...) وتحفيز خلق فرص عمل.

ومن ضمن المسعى عينه لزيادة الواردات وصياغة عقد إجتماعي جديد مبني على فكرة التضامن، لا يضير فرض ضريبة على الثروة (Wealth Tax) تُحتسب على أساس نسبة تصاعدية من مجمل أصول وممتلكات وأموال المكلفين المقيمين المنقولة وغير المنقولة المتواجدة في لبنان و/أو في الخارج.

كيف يمكن تفعيل الإلتزام الضريبي؟

يمكن تأمين موارد ضريبية عن طريق تفعيل الإلتزام الضريبي ومكافحة التهرب والتهريب بشتى الوسائل المتاحة وتلك المقترحة (مع رصد إعتمادات لازمة لذلك) ومنها:

- تعميم الرقم الضريبي الموحد لجميع المواطنين والمقيمين الأجانب على الأرض اللبنانية وربطه برقم الهوية أو جواز السفر أو الإقامة (للأجنبي المقيم).

- تعميم موجب تعبئة التصريح ليشمل أكبر عدد من المكلفين حتى المعفيين ذات الدخل المحدود.

- التصريح الشامل عن الأصول والإيرادات في الداخل والخارج.

- فرض موجب التصريح عن النفقات لتتبع العمليات وتحليل وضع المكلفين بما يسمح بكشف المكلفين المتحايلين و/أو المكتومين.

- تطبيق قواعد الحكومة الرقمية (e-government) لتسريع المعاملات وتبسيطها وتفادي الرشوة والفساد.

- وضع الخوارزميات وآليات الحوسبة عن بعد لمعالجة البيانات الحسابيّة للمكلّفين من خلال واجهات الكترونيّة تسمح بكشف الثغرات وملاحقة المتهرّبين (artificial intelligence).

- إستعمال آلية الـ Name and Shame التي أظهرت فعاليتها في العديد من البلدان.

- إعتماد نظام وتكنولوجيا قواعد البيانات المتسلسلة (Blockchain) لخفض إمكانيات التستر والتهرب وتعزيز الشفافية؛ بحيث يتم ربط الحواسيب في ما بينها مع قاعدة إحصائية متلازمة.

- إنشاء رابط إلكتروني بين وزارة المالية وسائر الإدارات.

- الإنتقال من نظام الضرائب النوعية (scheduled taxes) - الذي يتيح للعديد من الأشخاص تفادي التصريح عن إيرادات مخفية ومستترة وغير ملحوظة في المنظومة - إلى نظام الضريبة الموحدة على الدخل؛ وذلك من خلال سلّةٍ من الإجراءات يتم اقتراحها واعتمادها بموجب قوانين خاصة.

- إكمال الإجراءات المحددة في قانون الموازنة رقم 144 تاريخ 31/7/2019 بالنسبة للمسح الميداني الذي تجريه البلديات للمؤسسات التجارية والصناعية والتجارية الواقعة في نطاقها والمرخص لها وإفادة وزارة المالية بأسماء المسجلين وغير المسجلين لدى وزارة المالية، باعتماد آلية عملية لذلك وتحفيز مالي للبلديات (بحيث يخصص لها نسبة من المبالغ المحصلة من المخالفين و/أو المتهربين) بالإضافة إلى تدابير وإجراءات لمعاقبة المخلّين أو المتقاعسين.