أندريه كوليسيكوف

القراءة...شكل جديد من المقاومة في روسيا

22 أيار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

حين أطلقت روسيا الحرب التي يُمنَع الروس من اعتبارها حرباً (يعتبرها الكرملين «عملية عسكرية خاصة»)، أدرك جزء كبير من الروس سريعاً الواقع الذي يواجهونه اليوم. استُبدِلت العبارات الممنوعة بتصريحات رسمية مُلطّفة، وأطلقت السلطات حملة قمع عنيفة ضد المعارضين، وشعر عدد كبير من الروس بأن الأحداث تُكرّر نفسها. فجأةً، أصبح كتاب جورج أورويل، 1984، الأكثر شعبية، علماً أن هذه الرواية البائسة كُتِبت خلال الأربعينات وتتمحور حول نظام توتاليتاري في حالة حرب دائمة. في العام 2022، شوهد هذا الكتاب بيد أشخاصٍ يتجوّلون في شوارع موسكو أو يتمدّدون بالقرب من المصطافين على شواطئ «كالينينغراد».

هذا الكتاب ليس الوحيد الذي يقرأه الروس في زمن الحرب، علماً أن قائمة الكتب المفضلة لدى الشعوب تعطي لمحة عن طريقة تعامل الرأي العام مع المنحى العسكري والتوتاليتاري الذي اتخذه البلد. تزامناً مع تخبّط الاقتصاد، وتشديد القوانين ضد المعارضة، وتلاحق الأخبار حول إخفاقات روسيا العسكرية في أوكرانيا، تراجعت نزعة الناس إلى شراء المجلدات المرتبطة بقطاع الأعمال أو تحسين الذات وباتوا يفضلون الروايات الخيالية. كما كان متوقعاً، ارتفع الطلب على المؤلفات التي تسمح بالهرب من الواقع، فزادت مبيعات الروايات الرومانسية، وقصص الخيال العلمي، وكتب الجرائم، بدرجة ملحوظة.

شهدت هذه السنة زيادة في شعبية الكتب والأفلام والبرامج التلفزيونية المتعلقة بالجواسيس والتجسّس. عادت الجوانب النفسية التي كانت سائدة في حقبة الحرب الباردة إلى الواجهة، بعدما أخبر الكرملين الروس بأنهم لا يحاربون أوكرانيا بل «الغرب ككل». تشير شعبية هذا النوع من المؤلفات أيضاً إلى هوس متزايد بقصص الجواسيس في روسيا خلال عهد الرئيس فلاديمير بوتين، حيث يسود ارتياب قوي من أعداء الداخل وعملاء الخارج.




لكن يتعلق جانب لافت في قائمة الكتب المفضلة لدى الروس راهناً بالمؤلفات الواقعية. طوال شهرين تقريباً بعد بدء الحرب في شباط 2022، تصدّرت الترجمة الروسية لكتاب Man’s Search for Meaning (بحـــث الإنسان عن المعنــى) لعالِم النفس النمساوي وأحد الناجين من محرقة اليهود، فيكتور فرانكل، مبيعات الكتب على موقع «أوزون». نُشِر الكتاب في الأصل في العام 1946، بالعنوان الألماني A Psychologist Experiences the Concentration Camp (تجربة عالِم نفس في معسكر اعتقال)، ويستكشف فرانكل فيه الطرق التي تسمح للناس باستجماع القوة والمرونة في أسوأ ظروف القمع والعداء. لن يُسَرّ النظام الروسي حتماً بعودة هذا الكتاب إلى الواجهة.




في الوقت نفسه، زاد اهتمام القرّاء الروس بألمانيا النازية، لكن لا تعكس هذه النزعة الإشادة الاعتيادية بالبطولات السوفياتية خلال الحرب الوطنية العظمى. بل تشمل الكتب التي يفضّلها الروس المثقفون أعمالاً تمّت ترجمتها حديثاً، مثل Defying Hitler: A Memoir (تحدّي هتلر: مذكرات) بقلم سيباستيان هافنر. يتطرق هذا الكتاب إلى التحوّلات التي شهدتها ألمانيا خلال الثلاثينات من وجهة نظر محامٍ شاب. تتعدّد المقارنات التي يسهل أن يلاحظها القراء الروس وهم يراقبون تحوّل نظام بوتين المستبد إلى نظام توتاليتاري هجين يقوم على اضطهاد المعارضين، والتنسيق التام بين الحياة العامة والنظام، واستعداد الناس العاديين للرضوخ، والنزعة إلى عزل الذات فيما يحاول الناس عيش حياة موازية وخفيّة في ظل الكابوس الذي يحيط بهم، والشعور بضياع الحياة بما يشبه إحساس والد هافنر في الكتاب.




في مقارنة أخرى مع التجربة الألمانية، يفكر عدد متزايد من الروس اليوم بالذنب الجماعي، والمسؤوليات المترتبة على النظام، والحرب، والأعمال الوحشية الشائعة التي يرتكبها الجنود الروس في أوكرانيا. في هذا السياق، نُشِر كتاب The Question of German Guilt (مسألة الذنب الألماني) في الوقت المناسب، وهو عبارة عن سلسلة محاضرات ألقاها الطبيب النفسي والفيلسوف الألماني كارل جاسبرز في العام 1945.




بدأ النقاش حول الذنب الجماعي أو حس المسؤولية يتوسّع وسط المفكرين في المجتمع الروسي فور بدء الغزو لأن الصدمة كانت قوية عليهم، ولم تتوقف تلك النقاشات منذ ذلك الحين. ما الفرق بين الذنب والمسؤولية؟ هل يُفترض أن يتبنى الروس الليبراليون الذين يحملون آراءً ديمقراطية موقفاً موالياً للغرب؟ وهل يجب أن يشعر الذين عارضوا بوتين طوال حياتهم بالذنب أم بالمسؤولية على الأقل تجاه ما يحصل؟ وهل كانوا يستطيعون بذل جهود إضافية للتصدي لبوتين؟ كان الكاتب الألماني توماس مان يهاجم القيود التي فرضتها الحكومة الأميركية على المنفيين من أمثاله، وقد ذكر في إحدى رسائله أنه بدأ يحارب أدولف هتلر قبل الأميركيين. ينطبق الوضع نفسه على المجتمع الروسي: حارب الكثيرون بوتين حين كانت الحكومات والشركات الأوروبية تُطوّر علاقات عمل حسنة معه.


يوضح جاسبرز طبيعة هذا النقاش بدرجة معينة. تُعتبر مجموعة من الأفراد مذنبة بموجب القانون بسبب دورها في الجرائم الروسية، ويتحمّل آخرون درجات مختلفة من المسؤولية الأخلاقية. في نهاية المطاف، يساعد هذا النوع من الكتب القرّاء على تحديد درجة مسؤوليتهم إزاء ما يحصل. في ظل استمرار الحرب وانعزال روسيا المتزايد عن الغرب، بدأت هذه الأفكار والنقاشات تزداد أهمية: يظنّ بعض الروس، كما يكتب هافنر، أن الدكتاتور يحتل وطنه قبل احتلال الأوطان الأخرى، بينما يرفض آخرون وضع الروس بمصاف الضحايا. ينقسم المجتمع المدني الروسي بين معسكر قرّر الرحيل وآخر قرّر البقاء، لكنه لا يُعتبر يائساً بقدر ما يظنّ البعض طالما يستمرّ هذا النوع من النقاشات ويتابع الناس قراءة مؤلفات مثل كتب جاسبرز وهافنر.


بعدما أصبح أي نوع من الاحتجاجات العلنية غير قانوني الآن ونظراً إلى سهولة تفريق المحتجين، تحوّلت القراءة أيضاً إلى شكل من المقاومة: من خلال شراء هذه الكتب، يقارن الروس نظام بوتين بأسوأ نماذج التوتاليتارية. هم يراجعون تاريخ ألمانيا النازية رغم وجود مقارنات هائلة بين حاضر روسيا وماضي بلدهم. شَهِد عهد الدكتاتور السوفياتي جوزيف ستالين، خلال الأربعينات وبداية الخمسينات، حالة من الارتياب الشديد واضطهاداً لمن اعتُبِروا خونة وجواسيس و»عالميين بلا جذور»، بما يشبه الصفات المنسوبة إلى المعارضين اليوم: «عملاء الخارج»، «طابور خامس»، «خونة الوطن».


يميل الروس إلى قراءة كتب عن هتلر، لا ستالين، نظراً إلى غياب أي مؤلفات أدبية روسية شهيرة عن تلك الحقبة من عهد الاتحاد السوفياتي. تنشر روسيا كتباً أكاديمية ممتازة حول التفاصيل التاريخية للحقبة السوفياتية (فضلاً عن أكاذيب تاريخية كثيرة). لكن تبقى الكتب الأكاديمية الذكية محصورة ضمن فئة متخصصة من القرّاء، وقد مرّ وقت طويل على الحقبة التي كان فيها فضح ممارسات الستالينية أمام الرأي العام شائعاً. على عكس ما يحصل في بعض البلدان الناشئة بعد العصر السوفياتي، مثل دول البلطيق وأوكرانيا، لا يفهم الكثيرون في روسيا اليوم الصفحات المظلمة من تاريخ بلدهم. لهذا السبب على الأرجح، يفضّل الرأي العام الاطلاع على تجارب دول أخرى. تجدر الإشارة إلى أن الكتب المتعلقة بالحياة اليومية في ألمانيا النازية لا تُحقّق أعلى المبيعات وسط شرائح واسعة من الناس، بل ضمن شريحة فكرية محدّدة في المجتمع.


لكن لا يقرأ الناس عن الأنظمة الدكتاتورية الأوروبية الغابرة لتحليل حاضر روسيا من باب اهتمامهم بألمانيا النازية فحسب. سبق وصدرت طبعات عدة من كتاب جديد بقلم ألكسندر بونوف من «مركز كارنيغي لشؤون روسيا وأوراسيا» الذي تم افتتاحه حديثاً في برلين. يحمل الكتاب عنوان The End of the Regime: How Three European Dictatorships Ended (نهاية النظام: كيف انتهت ثلاثة أنظمة دكتاتورية أوروبية)، وهو يستهدف الجمهور الروسي على وجه التحديد ويتطرق إلى تطور نظام فرانكو الدكتاتوري في إسبانيا وسقوطه، ونظام سالازار في البرتغال، والمجلس العسكري في اليونان. لا يذكر الكتاب شيئاً عن بوتين، لكن يجيد القراء الروس إقامة المقارنات. هم يحلمون بانتهاء نظام بوتين أيضاً أو انتقاله إلى شكل أقل صرامة من الحُكم. من الطبيعي إذاً أن يهتموا بالمسار الذي مهّد لسقوط الأنظمة الدكتاتورية أو انتقالها إلى شكل آخر من الحُكم. في كتاب بونوف، يبحث القراء عن أمثلة تفيدهم وعن بصيص أمل.



ربما أدت إحدى سياسات الكرملين عن غير قصد إلى زيادة مبيعات الكتب التي تكشف جوانب سلبية عن النظام. بموجب تعديل قانون الأجانب في العام 2022، يجب أن تُصنَّف جميع الكتب والمقالات وأي منشورات أخرى تصدر بمساعدة تمويل خارجي في خانة الأعمال الأجنبية. لكن يبدو أن مقولة «الممنوع مرغوب» تنطبق على هذه الحالة أيضاً، إذ من المتوقع أن يشكّل هذا التصنيف إعلاناً مجانياً لجذب شرائح محددة من القراء. نُسِب ذلك التصنيف إلى عدد من أفضل وأشهر كتّاب الروايات والأعمال الواقعية، بما في ذلك بوريس أكونين، وليودميلا أوليتسكايا، وديمتري غلوخوفسكي، وديمتري بيكوف.

تتعلق نقطة تشابه بارزة مع العصر السوفياتي بالدور السياسي المستجد للقراءة. يعجز الناس اليوم عن الاحتجاج على الوضع القائم علناً، لذا يُعبّرون عن نوع مختلف من المقاومة عبر قراءة مؤلفات أدبية ممنوعة أو كئيبة أو كتب تُركّز على جوانب قاتمة من النظام، حتى لو اكتفوا بإقامة المقارنات بين التجارب السابقة ووضعهم الراهن. للوهلة الأولى، قد لا يبدو هذا النوع من المقاومة مفيداً، لا سيما في ظل استمرار الحرب التي يُعبّر معظم الروس عن دعمهم لها. مع ذلك، يُفترض ألا يستخف أحد بنتائج قراءة هذه الكتب. ستؤثر نوعية المؤلفات التي يطالعها المواطنون الروس على مستقبل روسيا لأنها تُوجّه الرؤية العالمية التي يطوّرونها بعد قراءة تلك الكتب.