كريغ سينغلتون

بايدن والرئيس الصيني...تواصلٌ مقطوع

23 أيار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو | روسيا، 21 آذار ٢٠٢٣

أوقف الرئيس الصيني شي جين بينغ تواصله مع نظيره الأميركي جو بايدن، فقد تكلم الزعيمان آخر مرة منذ ستة أشهر. خلال هذه الفترة، اعتبرت بكين كثرة انشغالاتها، أو حتى مناطيد التجسس، وراء غياب التواصل بين الرئيسَين طوال هذه المدة. لكن وجد شي الوقت الكافي لمقابلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو واستضافة وفود دبلوماسية رفيعة المستوى من فرنسا، وألمانيا، والبرازيل. بعد استنزاف جميع الأعذار الممكنة، اعترفت الصين حديثاً بأنها قد لا ترغب في أي شكل من التواصل، فقال وزير الخارجية الصيني، وانغ ونبين، في شهر آذار: «التواصل (مع الولايات المتحدة) يجب ألا يحصل لمجرّد أن نتابع التواصل». بعبارة أخرى، لا تريد الصين أن يتصل بها الأميركيون، حتى أنها قد لا تتواصل معهم مطلقاً.



يُفترض ألا يتفاجأ أحد بانقطاع التواصل بين واشنطن وبكين، فقد كان هذا الحدث مرتقباً منذ سنتين، وهو مجرّد دليل على تدهور العلاقات الأميركية الصينية. من المتوقع أن تزداد هذه العلاقات سوءاً إذا بقيت سياسات البيت الأبيض مبنية على شعارات رنانة في مجال السياسة الخارجية، مثل «المنافسة للتعايش» مع الصين، مع أن شي جين بينغ يخوض المنافسة بكل وضوح لتحقيق الفوز. إذا أرادت واشنطن استرجاع الأمل بمنع تدهور العلاقات، حان الوقت كي تفكر باستبدال الخطابات المليئة بأمنيات غير واقعية، مثل التعايش وإقامة «حواجز حماية»، باللغة الوحيدة التي تفهمها بكين: المعاملة بالمثل.

لا تلتزم إدارة بايدن بسياسة معينة تجاه الصين للأسف، بل إنها تطبّق سياسات متنوعة ومتضاربة في معظم الأوقات. لم يُلْقِ بايدن مثلاً أي خطاب يُحدد فيه رؤيته بشأن العلاقات الأميركية الصينية، بل إنه أوكل هذه المهمة إلى مسؤولين آخرين، منهم وزراء الخارجية والتجارة والخزانة، فأطلق هؤلاء مواقف عشوائية تعكس وجهة نظرهم الضيقة. نتيجةً لذلك، أصبحت صناعة السياسة عملية مفككة وأنتجت تصريحات متناقضة لا تكف عن نشر الارتباك بدل توضيح المواقف.

يُعتبر الرد الأميركي المفتعل على حادثة منطاد التجسس الصيني هذه السنة أفضل مثال على مقاربة واشنطن المربكة تجاه الصين. لا تعكس هذه التناقضات عدم الكفاءة في نقل الرسائل فحسب، فقد هاجم وزير الخارجية أنتوني بلينكن الصين بسبب «انتهاكها للسيادة الأميركية»، بينما استخف بايدن بتلك الحادثة ولم يعتبرها «خرقاً كبيراً».

الأسوأ من ذلك هو إقدام إدارة بايدن، خلال الأشهر التي تلت حادثة التجسس، على اقتراح إرسال وفود رفيعة المستوى إلى بكين مراراً، على أمل أن تعالج النوايا السلمية والمتبادلة في البلدين الاختلافات الجوهرية بين الطرفين. طُرِحت هذه الاقتراحات التي رفضها شي جين بينغ من دون حصول أي تغيير مؤثر في تصرفات بكين، أقلّه التزام البلد بالتوقف عن اختراق المجال الجوي الأميركي. يبدو الرئيس الصيني مقتنعاً بأنه لا يرتكب الأخطاء، لذا لم يكن مفاجئاً أن يستعمل طلبات إدارة بايدن بتجديد التواصل كسلاح بحد ذاته. لجأ المسؤولون الصينيون، بما في ذلك وزير الخارجية كين غانغ، إلى الألاعيب الجيوسياسية، فأوحوا بأن واشنطن بالغت في ردة فعلها على الخرق الصيني الجريء وأن «الصراع» سيصبح حتمياً إذا لم تغيّر الولايات المتحدة (لا الصين) مسارها.

لكن لا يتعلق أكبر خطأ في استراتيجية بايدن المتخبطة تجاه الصين بسعيه إلى تجنب أزمة محتدمة بين القوى العظمى بأي ثمن أو اتكال استراتيجيته على شعارات فارغة المضمون، بل تكمن المشكلة الحقيقية في عجز واشنطن عن تحديد أهداف شي جين بينغ الجيوسياسية. يفترض بايدن مثلاً أن التعايش بين البلدين على المدى الطويل يتماشى مع رؤية الرئيس الصيني للنظام العالمي الجديد الذي يتمحور حول الصين، وأن السياسات الأميركية شديدة الحذر هي التي تمنع النتائج الكارثية. لكنها فرضيات غير دقيقة بأي شكل. عملياً، أدى تركيز الإدارة الأميركية على تثبيت حواجز الحماية إلى نشوء الدينامية الشائبة اليوم بين القوى العظمى، حيث يعيق الجمود الصيني عملية صناعة القرار في الولايات المتحدة. من خلال التعامل مع الصين كقوة طاغية وثابتة، تبنّت إدارة بايدن موقفاً ينمّ عن استعداد دائم للتفاوض، ما يعني التكيّف مع التصرفات الصينية وإعطائها طابعاً عادياً. هذه المقاربة تتعارض بشدة مع استراتيجية المعاملة بالمثل، حيث تثبت واشنطن صرامتها تزامناً مع التأكيد على استعدادها لتنسيق الجهود إذا أثبتت الصين رغبتها في التعاون.

في المقابل، تبدو حسابات شي جين بينغ واضحة: يجازف التواصل مع واشنطن، لمجرّد الحفاظ على شكلٍ من الحوار بين الطرفين، بإطالة صلاحية ما تبقى من النظام العالمي الليبرالي. بعيداً عن مزاعم إدارة بايدن في هذا المجال، لا يمكن أن ينتهي الصراع الإيديولوجي الراهن بين نظامَين سياسيَين واجتماعيَين واقتصاديَين مختلفَين لأقصى حد بإرساء حالة من الجمود أو التعايش. ولن يطول هذا الصراع بالضرورة. تزداد ثقة شي بِحَسْم نتيجة المعركة على الهيمنة الجيوسياسية خلال السنوات (لا العقود) المقبلة. بدل تقبّل التعايش التنافسي والمجازفة بالعودة إلى الأفخاخ التي وقع الاتحاد السوفياتي ضحيّتها، بدأ الرئيس الصيني يتّخذ الخطوات اللازمة لضمان تفوّق الصين في أقرب فرصة. اتّضحت نزعة شي جين بينغ إلى اتخاذ الخطوة الأولى حين أخبر بوتين حديثاً عن حصول «تغيرات جيوسياسية غير مسبوقة منذ مئة سنة» واعتبر الصين وروسيا أبرز من يحرّك تلك التغيرات. تتضح طبيعة النظام العالمي الجديد، الذي يدعمه شي جين بينغ ويقوم على الماركسية بقدر اللينينية، عبر التوسّع الصيني المستمر، وهذا ما يفسّر نزعة شي القوية إلى جذب أكبر عدد ممكن من البلدان إلى المحور الصيني.

انطلاقاً من هذه العقلية، بدأ شي جين بينغ يسوّق هندسة دولية بديلة تتجنّب القيم العالمية وتستبعد الولايات المتحدة على نحو مقلق. تتّضح رؤيته الناشئة في مبادرات صينية مثل «الحضارة العالمية»، و»التنمية العالمية»، و»الأمن العالمي»، وهي تبتعد عن نظام القواعد العالمية الذي يقوده الغرب وتفضّل نظاماً تُحدّده الحكومات الوطنية. بدل أن «تفرض البلدان قِيَمها أو نماذجها الخاصة على الآخرين»، يُشدد نظام الرئيس الصيني على احترام القيم الوطنية والتقاليد الثقافية في كل بلد، بالشكل الذي تجسّده الحكومات. يحظى هذا النموذج، الذي اختبرته بكين طوال عقدَين من الزمن في منظمة شنغهاي للتعاون، بدعمٍ واسع من حكام مستبدين آخرين في جميع أنحاء الجنوب العالمي ووسط بعض شركاء واشنطن، مثل الهند وتركيا. هذا الوضع قد يؤدي إلى استبدال نظام معاهدات الأمم المتحدة بمجموعة من الاصطفافات الإيديولوجية التي تتماشى مع قيم الصين ومصالحها. يُفترض أن يدرك الجميع أن هذه الجهود تعكس حرباً دبلوماسية لاستنزاف نفوذ واشنطن.

في غضون ذلك، سرّع شي جين بينغ الخطط الرامية إلى فك الارتباط عن الولايات المتحدة، وهي استراتيجية كشف عنها للمرة الأولى في العام 2012، حين حذّر من إقدام واشنطن على خطف الاقتصاد الصيني. بحجّة تعزيز «الاتكال على الذات»، منح شي حديثاً صلاحيات غير مسبوقة إلى وكالات الأمن القومي الصينية لإجراء التحقيقات التي تسمح باستهداف الشركات الأجنبية ومصادرة الملكية الفكرية، ما أدى إلى إطلاق حملة مبكرة ضد الشركات الغربية. كذلك، منع شي أي أطراف خارجية من الوصول إلى قواعد بيانات متنوعة تشمل معلومات عن تسجيل الشركات، أو التراخيص، أو المجلات الأكاديمية، أو حتى السجلات الإحصائية السنوية الرسمية. هذه التدابير تبني جداراً واقياً حول الاقتصاد الصيني وتتكل على إجراءات أخرى سمحت بإنشاء بيئة خطيرة وعدائية للشركات الغربية الناشطة في الصين. بعبارة أخرى، يريد شي جين بينغ أن يُحصّن بلده من النفوذ الأميركي، بغض النظر عن المخاطر المطروحة على الاقتصاد الصيني.

من المتوقع أن تحاول بكين في هذه المرحلة إقامة التوازن الذي يناسبها. سيسمح الرئيس الصيني بإجراء حوار ثنائي محدود في المجالات التي تهمّ بكين، لكنه سيرفض في المقابل تكثيف التواصل حول أي مسألة تهمّ واشنطن. يبدو أن شي جين بينغ يراهن على استعداد إدارة بايدن لتقبّل شروط الصين، من دون فرض أي تكاليف عليها، كونها تُصِرّ على سياسة الانفراج وتتوق إلى تجديد التواصل. على مستويات عدة، بدأ رهان شي يعطي النتائج المنشودة على ما يبدو. راح المسؤولون الأميركيون، بما في ذلك السفير الأميركي في الصين نيكولاس بيرنز، يطلبون من بكين التنازل للتواصل مع الولايات المتحدة، وهي خطوة لا ينوي شي اتخاذها إلا إذا أبدت واشنطن استعدادها لوقف الحوار حول مسائل أساسية بالنسبة إلى تنمية الصين على المدى القريب، مثل متابعة الوصول إلى أسواق الرساميل الأميركية.

عملياً، لا يستطيع شي جين بينغ أن يتجنب بايدن إلى الأبد، ولا مفر من أن يتواصل الرئيسان عاجلاً أو آجلاً. لكن طالما يرتبط هذا التواصل المفتوح بسياسة التعايش بدل المعاملة بالمثل، يزيد احتمال توسّع الشرخ الذي تحاول إدارة بايدن تجنّبه بأي ثمن. لتحسين المكاسب الأميركية، يجب أن تحدّ واشنطن من الحوار مع بكين بدل تكثيفه، ما يعني الامتناع عن مناقشة أكثر المسائل التي تهمّ الصين لتسهيل إعادة شي جين بينغ إلى طاولة المفاوضات والتطرق إلى جميع المواضيع الأخرى هناك.


MISS 3