جوزيف حبيب

السعودية تُنشّط محركات ديبلوماسيتها وتُفعّل مبادراتها

23 أيار 2023

02 : 00

ولي العهد السعودي خلال ترؤسه "قمّة جدة" الجمعة الماضي (واس)

قطار المملكة العربية السعودية نحو "رؤية 2030" وما بعدها انطلق منذ فترة من الزمن، والقيادة السعودية مصمّمة على الوصول إلى المحطّة المرجوّة بأقلّ قدر من الخسائر وأكبر عائد من المكاسب. وضعت الرياض نصب عينيها خطّة عمل شاملة واضحة المعالم لتعبيد الطريق أمام تحقيق مشاريعها الضخمة لنقل الاقتصاد السعودي من مكان إلى آخر، الأمر الذي يتطلّب "تحييد" كلّ ما من شأنه عرقلة هذه الغاية، خصوصاً التهديدات الخارجيّة التي تطال أمن المملكة ورفاه شعبها. ومن هنا، انطلقت الجهود السعودية في تفعيل "محرّكات" ديبلوماسيّتها بأقصى طاقاتها للعمل على "تصفير مشكلاتها" الخارجيّة، بالتزامن مع "اقتحامها" عالم الوسطاء الموثوق بهم وطرح المبادرات الخارجيّة لمعالجة الملفات الشائكة والساخنة التي تُلقي بظلالها على البشريّة جمعاء.

باتت أروقة وزارة الخارجية السعودية خليّة نحل تواكب مقرّرات الديوان الملكي وخطواته المتسارعة على أكثر من جبهة. وبعد تطبيع علاقاتها مع الدوحة وأنقرة، تنشط الديبلوماسية السعودية اليوم لإنجاح تطبيع العلاقات مع إيران برعاية بكين، وإعادة التمثيل الديبلوماسي معها على مستوى السفراء قريباً، بينما عيّنت وزارة الخارجية الإيرانية أمس علي رضا عنايتي سفيراً لطهران في السعودية. وتسعى الرياض عبر ذلك بالدرجة الأولى إلى "كف شرّ" الجمهورية الإسلامية عن أمنها وأمن الخليج، فضلاً عن وضع الحرب في اليمن على مسار الحلّ أو أقلّه "تبريد الصراع" في "حديقتها الخلفيّة"، وبالتالي "تعطيل أزرار" ميليشيا "أنصار الله" الحوثيّة الموالية لإيران ومنعها نهائياً من إطلاق الصواريخ والمسيّرات في اتجاه الأراضي السعودية.

قد لا يشهد اليمن إنفراجة حقيقيّة في المدى المنظور، لكنّ المملكة تسعى إلى إبطال مفاعيل تحوّله إلى منصّة أو بؤرة تُهدّد الأمن القومي السعودي. وهذا الأمر ينطبق على كافة الدول حيث تسرح الميليشيات التي تدور في فلك "فيلق القدس" التابع لـ"الحرس الثوري" الإيراني وتهتك سيادة تلك الدول وتُهدّد من خلالها وعبرها الجوار الإقليمي. "الواقعيّة السياسيّة" ذاتها دفعت الرياض للذهاب نحو إعادة تطبيع العلاقات مع دمشق، بغية السعي لتأثير أكبر في حلّ المعضلة السوريّة مستقبلاً، إضافةً إلى وضع القيادة السوريّة مباشرةً عند مسؤوليّاتها في إطار حرب المملكة المُعلنة على المخدّرات التي تتدفّق من سوريا إلى أراضيها. وكلّ ذلك يأتي في إطار مقاربة "خطوة مقابل خطوة"، ما يجعل السعودية في "موقع استراتيجي" يتلخّص بـ"ليس لديها شيء لتخسره".

فاجأت المملكة الحاضرين من القادة العرب والمراقبين الدوليين بدعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى قمّة جامعة الدول العربية في جدة الجمعة الماضي. فرفعت السعودية بتلك الخطوة مستوى القمّة إلى العالميّة، فيما برزت الرياض عند محطّات مختلفة كلاعب جيوسياسي وديبلوماسي نشط و"متحرّر" ومرن على الساحة الدوليّة المضطربة في خضمّ تشكّل نظام عالمي جديد. المملكة أصبحت تحتلّ مكانة مرموقة بين القوى المتنافسة أو المتصارعة عالميّاً، وتطرح نفسها كـ"جسر للتلاقي"، إذ تستطيع استثمار علاقاتها التاريخيّة والاستراتيجيّة مع واشنطن من جهة وعلاقاتها الوثيقة والمتينة مع بكين وموسكو من جهة أخرى، لتكون بمثابة "وسيط معتمد" و"دولة سلام" حاضراً ومستقبلاً.

وبالفعل، توسّطت الرياض سابقاً بين كييف وموسكو لتبادل أسرى حرب وما زالت تتوسّط بينهما لإطلاق المزيد من الأسرى، وربّما السعي لاحقاً لتأدية دور بنّاء كـ"قوّة سلام" والدفع نحو إنهاء الحرب الضروس على الأراضي الأوكرانية. وكما برز اسم جدة إلى العالميّة مع حضور زيلينسكي القمة العربية، حيث سرق الأضواء من رئيس النظام السوري بشار الأسد، يبرز اسم جدة مع احتضانها للمحادثات بين ممثلي طرفَي النزاع الدموي في السودان، حيث تسعى المملكة بالتعاون مع الولايات المتحدة إلى وضع حدّ للاقتتال الداخلي على السلطة ومنع تحوّله إلى حرب أهليّة وتسبّبه بمأساة إنسانيّة كارثيّة تطال تداعياتها المنطقة برمّتها.

قدّمت السعوديّة صورة مميّزة أمام المجتمع الدولي بإشراف قوّاتها البحريّة على عمليّة إجلاء منظّمة وناجحة للرعايا الأجانب من السودان مع تفجّر النزاع في الخرطوم وتمدّده كالنار في الهشيم في معظم أنحاء البلاد. بيد أنّها في المقابل لم تعُد تُقدّم "شيكات على بياض" حتّى لأقرب حلفائها التقليديين. تعتبر الرياض أن مسار النهوض الاقتصادي والتقليل من اعتمادها على عائدات النفط بحاجة إلى جهود ديبلوماسيّة جبّارة تبدأ بـ"تصفير المشكلات" الخارجيّة واعتماد مقاربات سياسيّة عميقة وطرح مبادرات تسوويّة بين قوى متصارعة، للإنخراط أكثر فأكثر في عالم تتسارع فيه التطوّرات الدراماتيكيّة والتحوّلات الجذريّة، لحجز مقعد ثابت حول طاولة الكبار في النظام الدولي قيد التبلور.


MISS 3