ركود اقتصادي مرتقب بسبب فيروس كورونا

12 : 03

سيغرق الاقتصاد العالمي في حالة ركود هذه السنة، وسيكون التراجع مفاجئاً وحاداً. قد تسمح أي خطة بنّاءة من جانب صانعي السياسة والشركات والأُسَر بالحد من مدة المشكلة، لكنّ آثارها ستستمر طوال العقود المقبلة. كانت معظم التوقعات الاقتصادية للعام 2020 تشير إلى تحقيق نمو ثابت أو حتى مرتفع. ثم ظهر فيروس كورونا الجديد! في ظل الصدمة الاقتصادية المرافقة للأزمة الصحية المنتشرة في أنحاء العالم، يتخبط خبراء الاقتصاد اليوم لإعادة النظر بتوقعاتهم. خفّضت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية توقعاتها لهذا العام إلى النصف، من 2.9 إلى 1.5%، وأعلن صندوق النقد الدولي أنه سيصدر مراجعة شاملة لتقييماته قريباً.



قبل ظهور الوباء الجديد، كانت أنظمة اقتصادية كبرى، على غرار ألمانيا وإيطاليا واليابان، غير مجهّزة أصلاً للتعامل مع أي صدمات خارجية معاكسة مهما كانت صغيرة. في المقابل، كان زخم النمو أقوى في اقتصادات أخرى، مثل الصين والولايات المتحدة، لكن حتى هذا المنحى الإيجابي قد لا يكون كافياً لمنع التراجع. بدأت النزعة المفرطة إلى أخذ المجازفات وسياسات البنك المركزي التي تقمع ظاهرياً التقلبات المالية تزرع بذور الفوضى منذ سنوات. ولو لم يظهر فيروس كورونا الجديد، كان عامل آخر ليؤدي حتماً إلى انهيار "المعيار الجديد" الذي ارتكز عليه التعافي البطيء وغير المتكافئ منذ الأزمة المالية العالمية في العام 2008.

عاصفة جارفة

يبدو الاضطراب الاقتصادي المفاجئ الذي سبّبه فيروس كورونا مدمّراً على نحو خاص لأنه يزعزع أو يقضي على عمليات العرض والطلب في حالات كثيرة. يكون هذا النوع من الصدمات شائعاً في الدول والبلدان الهشة أو الفاشلة حين تجتاحها كوارث طبيعية كبرى، لكنه وضع غير مألوف في الاقتصادات المتقدمة. لنفكر مثلاً بأثر المشكلة على قطاع الطيران، وهو مؤشر أساسي بالنسبة إلى قطاعات أخرى كثيرة وليس استثناءً عن القاعدة. أدت مخاطر انتقال العدوى على متن الطائرات إلى إلغاء أعداد ضخمة من الرحلات. وشكلت التوجيهات الحكومية بإغلاق الحدود ضربة موجعة أخرى على مستوى حجم الطلب. في المقابل، تعمد شركات الطيران إلى تقليص الرحلات الجوية فيما تحاول الصمود على المستويين التشغيلي والمالي. سيؤدي تسريح الموظفين وتخفيض المدفوعات للموردين إلى خسائر إضافية في المداخيل، ما يُخفّض حجم الطلب بدرجة إضافية ويطلق ما يسمّيه خبراء الاقتصاد "التأثير المضاعف السلبي".

قد تكون المرحلة الأولية من الاستجابة الصحية أساسية لإنقاذ حياة الناس، لكنها ستزيد الوضع الاقتصادي سوءاً. لا تتماشى تدابير "التباعد الاجتماعي" وفصل الناس وعزلهم مع العوامل التي تحرك عجلة النمو الاقتصادي والعمل والاستقرار المالي. صُمّمت الأنظمة الاقتصادية والحكومات المعاصرة لتعزيز مظاهر الترابط والتكامل. أما الاستجابة الصحية المستجدة، فستغلق قطاعاً اقتصادياً تلو الآخر. لن تقتصر التداعيات على اضمحلال العولمة وإلغاء التقسيم اللامركزي للمناطق، بل سيحصل انهيار اقتصادي هائل على المستويين الوطني والمحلي.

في القطاع الخاص، ستتأثر بيانات دخل الشركات والميزانيـات العمومية من جميع النواحي وبقوة تفوق خطط الطوارئ المرتبطة بأخطـر الصدمات السلبية. كذلـــك، ستتراجع العائدات بشدة مقابل ارتفاع التكاليف، وستُسـتعمَل الوسائد النقدية وتُسحَب خطوط الائتمان، وسيصبح إصدار السندات الجديدة شبه مستحيل، لا سيما في الشركات المضطرة لإعادة تمويل ديون كبرى. أخيراً، ستشهد أسواق الأسهم تقلبات هائلة وتتخذ منحىً تنازلياً.

في ظل هذا السيناريو، سيتخبط المستثمرون والتجار في خضم محاولاتهم إعادة تسعير الأسهم (أي المبالغ التي يستطيعون دفعها الآن مقابل تدفق مداخيل الشركات مستقبلاً) ومخاطر الائتمان (إلى أي حد يأخذون مخاطر التخلف عن السداد على محمل الجد). ستتضخم الصدمة المترتبة عن هذا الوضع، على مستوى الأسهم وموارد مالية أخرى محفوفة بالمخاطر، بسبب الهشاشة البنيوية: اقتنع عدد كبير من المستثمرين بإيجابيات ضخ كميات كبيرة ومتوقعة من السيولة من جانب البنك المركزي وبالغوا في مشاريعهم على مر سنوات بحثاً عن العائدات، وتأقلم النظام القائم مع مجازفاتهم المفرطة. كما يحصل حين يسارع حشد من الناس للخروج عبر باب صغير، سيفرض تهافت المستثمرين للعودة إلى بر الأمان ضغوطاً ضخمة على عمل الأسواق. وتترافق هذه الضغوط مع زيادة مخاطر الاضطراب المالي، ما يزيد الانكماش الاقتصادي سوءاً على أرض الواقع.

يجب ألا يسبب فيروس كورونا الجديد أزمة مالية مفاجئة أو مسيئة بقدر ما حصل في العامَين 2007 و2008. النظام المصرفي ليس سبب المشكلة هذه المرة. في عدد من الاقتصادات الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة، تحسّنت طريقة رسملة البنوك والتحكم بها. وزادت اليوم قوة نظام الدفع والتسوية، وهو عصب القطاع المالي الذي يضمن سلامة جميع العمليات الأخرى. لكن لن تكون إعادة إطلاق اقتصاد عالمي مترابط ومعاصر مهمّة سهلة بعد تجاوز التهديد الصحي الأولي. سيبدأ التعافي الحقيقي حين يستطيع خبراء الصحة طمأنة الناس حول نجاحهم باحتواء فيروس كورونا الجديد وزيادة المناعة ضد مرض "كوفيد-19" الذي سبّبه ذلك الفيروس (يسمح اللقاح الفاعل بتحقيق هذين الهدفَين معاً). سيكون التعافي سريعاً على الأرجح لكن غير فوري. لاسترجاع مستويات طبيعية من الموظفين والمخزونات وسلاسل الإمدادات، تحتاج الشركات إلى الوقت بعد أسابيع أو حتى أشهر من الجمود. كذلك، يتطلب تنفيذ السياسات الحكومية المُصمّمة لتحريك عجلة الاقتصاد العالمي مجدداً فترة من الزمن.

نحو التعافي

من الناحية الإيجابية، تستطيع أي خطط ناجحة من جانب الحكومات والشركات والأفراد أن تحدّ من الانهيار المقبل وتُقَصّر مدته وتطلق مساراً ثابتاً وقوياً ومستداماً من التعافي. يُفترض أن تشمل المرحلة الأولى من الاستجابة مقاربات حكومية مستهدفة ومناسبة لحماية أضعف فئات المجتمع، والحفاظ على القطاعات الاقتصادية المحورية (بدءاً من الرعاية الصحية حيث يُعتبر التقدم السريع أساسياً لأي قاعدة اقتصادية)، وضمان أن تتابع الأسواق المالية عملها بشكلٍ سليم. كذلك، يجب أن تمتنع الحكومات قدر الإمكان عن الاتكال على أدوات السياسة العامة، مثل تخفيض معدلات الفائدة وزيادة الحوافز المالية، خلال المرحلة الأولى من خطة الاستجابة للأزمة.

سيكون الضغط السياسي للاستفادة من هذه الأدوات هائلاً (سبق وخفّض الاحتياطي الفدرالي الأميركي المعدلات أصلاً إلى نسبة تقارب الصفر)، لكن ستبقى فاعليتها في ظروف مماثلة محدودة. في النهاية، هل سيقرر كل من يشعر بالهلع من الوباء استئناف السفر أو الذهاب في رحلات بحــرية إذا حــصل على إعفاءات ضريبيـــة أو قروض رخيصة؟

يجب ألا تُستعمَل أدوات السياسة العامة بوتيرة مكثفة كجزءٍ من مرحلة التعافي الثانية إلا بعد احتواء الفيروس الجديد وتحصين الناس منه. في الحالة المثلى، يجب أن تستهدف هذه المرحلة أيضاً القطاعات والنشاطات التي تُحسّن الإنتاجية والنمو على المدى الطويل، مثل البنى التحتية والتعليم. ولا مفر من اتخاذ قرارات صعبة حول القطاعات التي تحتاج إلى الإنقاذ وكيفية تطبيق الخطط.

على الحكومات أن تنسّق عملها داخلياً لتفعيل المبادرات الحكومية ككل، وخارجياً على المستويين الإقليمي والعالمي. يمكن تحسين مقاربات الحكومات وسياسات البنك المركزي عبر عقد شراكات مدروسة ودقيقة بين القطاعين العام والخاص. ويمكن توسيع أثر هذه الشراكات وتسريعه، لا سيما في الأسواق المالية، عن طريق التواصل الواضح والشفاف والمتماسك بين الأطراف المعنيّة.

فيما تتجه الحكومات إلى تجديد استقرار الأنظمة الاقتصادية والأسواق المالية، تستطيع البنوك والشركات الخاصة أن تسهم في تقليص حدة الركود المرتقب وتقصير مدته عبر بذل قصارى جهدها كي لا تصبح مشاكل السيولة مرتبطة بالملاءة المالية. ستكون الضوابط المصرفية وحتى مساحات التمويل الخاصة للشركات الصغيرة والمتوسطة مفيدة جداً.

المعيار الجديد


فرض الركود العظيم بعد الأزمة المالية العالمية في العام 2008 "معياراً جديداً" يرتكز على نمو منخفض واستقرار مالي ظاهري وتفاقم مظاهر اللامساواة (انعكس هذا الوضع على المداخيل والثروات والفرص). وأصبحت الطبقة الوسطى والشركات المتوسطة، وحتى المراكز السياسية، مجوّفة تدريجاً خلال العقد اللاحق، ما أجّج الاستياء السياسي وأطلق حركات مناهضة للسلطة. نتيجةً لذلك، حصلت سلسلة تطورات كانت غير متوقعة أو شبه مستحيلة قبل الركود العظيم: معدلات فائدة سلبية في أوروبا واليابان، والانتقال من تأييد التجارة الحرة إلى سياسة حمائية صارمة في الولايات المتحدة، فضلاً عن مفاجآت أخرى.

من المتوقع أن تغيّر صدمة فيروس كورونا معالم الاقتصاد العالمي، ما يؤدي إلى فرض "معيار جديد". لا مفر من تسارع اضمحلال العولمة وإلغاء التقسيم اللامركزي للمناطق، ما يعني تعديل سلاسل الإنتاج والاستهلاك عالمياً. حين يُركّز القطاعان العام والخاص على تقييم التكاليف مقارنةً بالفاعلية وعلى خطوط الإمدادات العالمية الفعالة، من الأسهل تجنب المجازفات والتحكم بمسار التعافي. على صعيد آخر، ستصبح الأدوات الاقتصادية، لا سيما تلك المرتبطة بالتجارة والاستثمار، أشبه بأسلحة في حالات كثيرة لأن مسائل الأمن القومي تتفوق على المخاوف الاقتصادية. باختصار، سيبدو مشهد الاقتصاد العالمي مختلفاً بعد تجاوز صدمة فيروس كورونا الجديد. لكن عند إطلاق مبادرات جماعية مناسبة، يمكن الحد من الألم المرافق للركود المرتقب.


MISS 3