إيران لا تفهم معنى "الضغوط القصوى"!

11 : 00

لم تكتفِ إيران بإساءة تقدير الآثار السامة لعقوبات "الضغوط القصوى" التي فرضتها إدارة ترامب على النظام فحسب، بل إنها أساءت فهم المعطيات النفسية الكامنة وراء السياسة الأميركية تجاهها أيضاً. نتيجةً لذلك، تشهد نسبة البطالة في إيران ارتفاعاً فائقاً، تزامناً مع تراجع الناتج المحلي الإجمالي وتأجّج التضخم وانهيار أسعار النفط وانخفاض أعداد أصدقائها أكثر من أي وقت مضى. وللمرة الأولى منذ 40 سنة، يظن النظام أنه مضطر لاتخاذ مقاربة جذرية قبل انهياره بالكامل.



العام 2020 لا يشبه الأعوام 1979 ولا 1983 ولا 1986، كما أنه يختلف عن الفترة الممتدة بين 2004 و2007 وعن العام 2011: إنها السنوات التي فرضت فيها إيران ضغوطاً متنوعة على الولايات المتحدة عبر حجز الرهائن، وقتل أميركيين في لبنان والمملكة العربية السعودية والعراق، والتهديد بزعزعة قطاع النفط، والتخطيط لقتل السفير السعودي في العاصمة واشنطن. اليوم، بدأ الوضع ينقلب بالكامل لأسباب متنوعة، لكن يبدو أن النخبة الإيرانية الدينية الحاكمة تستخف بها حتى الآن.


1- لن تتأثر الولايات المتحدة بانقطاع إمدادات النفط من الشرق الأوسط كونها أكبر مُنتِجة للنفط والغاز الطبيعي في العالم. صحيح أنها تهتم بحرية التجارة عبر مضيق هرمز، لكن ليس بقدر مستوردين أساسيين من أمثال أوروبا ومصدّرين مثل الصين.

اليوم، لن تخوض الولايات المتحدة أي حرب ما لم تواجه الدول التي تتكل على النفط إيران في حال منعها من المرور عبر المضيق. ولن يرغب معظم الأميركيين طبعاً في أن يموت أبناؤهم وبناتهم للحفاظ على أمن التجارة الصينيـــة أو حتى الــــواردات النفطية الأوروبية.

عملياً، بدأت أسعار النفط العالمية تنهار نتيجة ظهور منتجين جدد في السوق والهلع السائد على خلفية تباطؤ الاقتصاد العالمي بسبب فيروس كورونا. ولا تستطيع إيران من جهتها أن تهدد إسرائيل بقطع إمدادات الوقود، لأن إسرائيل لديها ما يكفيها من الغاز الطبيعي والنفط. يريد العالم العربي وروسيا والولايات المتحدة (أي البلدان المسؤولة عن إنتاج أكثر من 60% من كميات النفط اليومية في العالم) سحب النفط الإيراني من السوق أو لا يهتمون بالموضوع أصلاً. باختصار، بدأت إيران تضخ كميات متناقصة من النفط بأسعار منخفضة بشكلٍ غير مسبوق في التاريخ الحديث.


2- إيران لم تفهم ترامب يوماً. هو لا يدين بشيء لأوساط السياسة الخارجية من الحزبَين الديمقراطي والجمهوري، كما يقول منتقدوه. بل إنه سياسي غريب وفريد من نوعه ويبدو أنه لا يهتم بمن يعتبره "متهوراً" أو "غير متوقع" أو "خطيراً" في صحيفة "نيويورك تايمز" أو في مجلس العلاقات الخارجية. لذا من المستبعد أن يتراجع وينهي العقوبات بشكلٍ أحادي الجانب، كما فعل الرؤساء السابقون مع إيران وكوريا الشمالية.

حتى الآن، نفّذ ترامب وعوده في ما يخص القضايا المحلية، وحتى في مسائل السياسة الخارجية الأكثر إثارة للجدل في هذا العصر، فقد نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وقطع معظم المساعدات الأميركية إلى الفلسطينيين، وانسحب من اتفاق باريس للمناخ والاتفاق الإيراني، وخاض مواجهة وجودية مع الصين على مستوى التجارة.

حين يقول ترامب إنه وضع لائحة افتراضية من الأهداف (أبرزها محطات توليد الكهرباء والقواعد العسكرية والمنشآت النووية طبعاً) ويعلن أن الطائرات بلا طيار أو الصواريخ أو الضربات الجوية الأميركية ستكون جاهزة للرد في حال بدأت إيران تقتل الأميركيين مجدداً عن طريق جماعات إرهابية تابعة لها تزامناً مع إنكار التهمة كما جرت العادة، قد يصدر ترامب أوامر بضرب إيران فعلاً. سيؤدي أي رد مماثل إلى أضرار بمليارات الدولارات في إيران، لكن من دون المجازفة بخسارة عناصر أميركيين أو التسبب بأضرار جانبية يقع ضحيتها المدنيون. باختصار، أصبحت إيران نموذجاً لتراجع أهمية الشرق الأوسط بالنسبة إلى الولايات المتحدة.

في الشرق الأوسط، تنحصر اهتمامات الأميركيين اليوم بمسألتين: يجب ألا تستعمل أي دول في هذه المنطقة عائدات النفط للتسلح نووياً، ويجب ألا يحصل الإرهابيون على أراضٍ مقدسة لإطلاق الاعتداءات منها ضد الولايات المتحدة. يمكن تحقيق الهدفين معاً عبر استخدام القوة الجوية، من دون الحاجة إلى نشر قواعد كبرى أو استعمال قوات ميدانية.





3- لم تعد المواجهة محصورة اليوم بين الغرب والإسلاميين. فقد تأججت الاضطرابات القديمة بين الشيعة والسنّة بسبب محاولات إيران التسلح نووياً، إذ تظن الدول الخليجية والأنظمة العربية المعتدلة أن تلك الأسلحة تستهدفها ولا مفر من أن تؤدي في نهاية المطاف إلى سباق تسلح نووي في الشرق الأوسط.

بعبارة أخرى، لم تعد إيران تواجه الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل فحسب، بل إن العالم المسلم السنّي كله يعارضها اليوم، كما لم يفعل في آخر ثلاثة عقود. كان هجوم طهران على منشآت النفط السعودية كفيلاً بتذكير المنطقة بأن إيران دولة عدائية وانتهازية، بمعنى أنها تفضّل مهاجمة الخصوم المسلمين الضعفاء بدل إسرائيل التي كانت لتردّ عليها بطريقة غير متكافئة.

باختصار، بدأت إيران تقترب من مكانة كوريا الشمالية، ما يعني أن تصبح دولة منبوذة إقليمياً ودولياً، فلا يستفيد منها إلا الإرهابيون والصين وروسيا والحكومات الخارجة عن القانون، كما في بيونغ يانغ. كما أنها باتت تفتقر الآن إلى جهات داعمة على غرار الصين النووية، وقد خسرت دعم تركيا ومصر وباتت عبئاً على الفلسطينيين.


4- تتخذ استراتيجيات الضغوط القصوى طابعاً تفاعلياً. تجبر السياسة الأميركية إيران على أداء دور المعتدي ظاهرياً، أو تسمح لها على الأقل باتخاذ قراراتها الخاصة حول مسار مستقبلها. لم تعد القوات الأميركية الميدانية قريبة ومعرّضة للخطر في العراق، كما كانت في العامين 2005 و2006، حين استهدفتها إيران بالمتفجرات. ولم تعد الولايات المتحدة عالقة في حرب محتدمة في العراق، وليست غارقة في ركود اقتصادي كما حصل بعد العام 2008. لا وجود لأي سفارة أميركية في طهران، ولا تريد الولايات المتحدة تنفيذ غزو استباقي أو بناء الأوطان عبر إطلاق محاولات انقلاب. في الوقت نفسه، بدأ "حزب الله" و"حماس" يفتقران إلى المال وبلغ مستوى التعاطف مع قضاياهما أدنى مستوياته.

لطالما اعتبــرت السياســة الأميركية الرسمية أن ملاييـن المحتجين الذين يرفعون شعارات معاديــــة للأميركيين في الشوارع الإيرانية لا يمثلون أغلبية الشعب، وأن سبب صمود حكم الفرد المطلق في إيران طوال 40 سنة لا يتعلق بتأييد الشعب الإيراني لحكومته المعادية للولايات المتحدة. قد لا تكون هذه الفرضية صحيحة، لكنها محور السياسة الأميركية المدعومة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي.

على صعيد آخر، يعمد المسؤولون في البنوك والخزانة الأميركية إلى مضاعفة الضغوط بوتيرة ثابتة وضمنية ومن دون لفت الانتباه، على اعتبار أن الاقتصاد والجيش الأميركيَين لم يكونا بهذه القوة يوماً، ما يُصعّب على الجهات الحيادية التصدي للعقوبات الأميركية.

في ظل الضغوط القصوى، يزيد النظام الديني يأساً مع مرور كل يوم. يسهل أن نلحظ هذا التخبط حين أقدم النظام الإيراني على قتل 1500 محتج حديثاً، وأطلق الأكاذيب حول إسقاط طائرة الركاب الأوكرانية، وعجز عن قول الحقيقة حول تفشي مرض "كوفيد-19" وتراجع نسبة المشاركة في الانتخابات المحلية. في ما يخص فيروس كورونا تحديداً، تُذكّرنا إيران بأن النظام الاستبدادي المخادع قادر على نشر الأوبئة نظراً إلى انعدام ثقة الشعب به، وإخفاقه في تقييم الموارد المتاحة، وميله إلى التضحية بالقوى الخارجية بسبب قلة كفاءته.

في مرحلة معينة، ستضطر إيران، عاجلاً أم آجلاً، إلى عقد تسوية والعودة إلى الاتفاق الإيراني، فتقدم تنازلات مثل تسليم الصواريخ والإرهابيين، والسماح بإطلاق عمليات تفتيش ميدانية شاملة، والموافقة على عدم التسلح نووياً لأي سبب.

أو تستطيع إيران أن تتباهى بكونها نسخة جديدة من ألبانيا أو الصين في عهد ماو تسي تونغ، بما أنها أنشأت اقتصاداً إسلامياً مستقلاً بالكامل ومتحرراً من فساد الولايات المتحدة المكروهة. أو يمكنها أن تلجأ مجدداً إلى الجماعات الإرهابية المتعطشة للمال لقتل الأميركيين، على أمل ألا يكون دونالد ترامب جدياً بكلامه حين تعهد بإحداث أضرار بقيمة مليارات الدولارات في البنى التحتية الإيرانية إذا بدأ الإرهابيون بقتل الأميركيين.

عملياً، لن تتحمل إيران كلفة تصعيد الوضع (وتجازف بمواجهة ضربات جوية مدمّرة) ولا كلفة التراجع (فتخسر ماء وجهها وهيبتها وسط العالم الإسلامي والإرهابي). كما أنها لا تستطيع أن تحافظ على وضع المراوحة المبني على العقوبات وتراجع أسعار النفط (ما يعني العودة تدريجاً إلى اقتصاد ما قبل الحقبة المعاصرة). لن يتحرر النظام إذا بدأ بقتل الأميركيين، بل إنه سيخسر بناه التحتية الوطنية وثرواته، وتعجز إيران طبعاً عن إنشاء اقتصاد مكتفٍ ذاتياً.

على مر تاريخ البلدين المشترك طوال 40 سنة، لم يسبق أن كانت الولايات المتحدة قوية وإيران ضعيفة بقدر ما هما عليه اليوم. لقد أصبحت الكرة في ملعب إيران الآن، وكأن الولايات المتحدة تدعوها إلى القيام بأسوأ ما تريده كي تردّ عليها بأفضل طرق ممكنة. في مطلق الأحوال، سيخسر النظام الديني في هذه المعضلة التي جلبها لنفسه. للمرة الأولى منذ 40 سنة، يظهر بصيص أمل صغير للشعب الإيراني: يبدو أن نهاية كابوسه المأسوي تلوح في الأفق!


MISS 3