روبي غرامر

محاسبة روسيا على جرائم الحرب أصعب ممّا توحي به

30 أيار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

يحاول الأوكرانيون وحلفاؤهم الغربيون تحقيق هدف غير مسبوق في الحروب المعاصرة، فهم يسعون إلى محاسبة مجرمي الحرب بطريقة منهجية تزامناً مع استمرار الحرب.

في ظل تراكم الأدلة على ارتكاب القوات الروسية أعمالاً وحشية جديدة وجرائم حرب مزعومة في أوكرانيا، وافق جميع الزعماء الغربيين على ضرورة إيجاد طريقة لمحاسبة روسيا على أفعالها. لكن يصعب تحديد المقاربة التي تسمح بتحقيق هذا الهدف. يخوض كبار المسؤولين الأميركيين نقاشاً حاداً مع نظرائهم الغربيين والأوكرانيين منذ أشهر حول كيفية تحقيق العدالة ومحاسبة المرتكبين في أوكرانيا، وقد احتدم ذلك النقاش في أنحاء العواصم الأوروبية خلال الأسابيع الأخيرة. قد يؤثر مسار تطور ذلك النقاش على طبيعة الحروب المستقبلية. برأي المسؤولين والخبراء، ستتمكن أوكرانيا من تحقيق سابقة عالمية جديدة ومؤثرة على مستوى محاكمة مجرمي الحرب في الصراعات المستقبلية إذا لجأت إلى المقاربة المناسبة، حتى أنها قد تمنع القادة والجنود الميدانيين من ارتكاب جرائم حرب إضافية في أوكرانيا اليوم. لكن إذا فشلت أوكرانيا في هذه المساعي، يظن هؤلاء الخبراء أنها قد تزيد جرأة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الحروب المستقبلية ضد جيران موسكو وتحرم الضحايا الأوكرانيين من العدالة.

تقول عقيلة راداكريشنان، محامية متخصصة بمجال حقوق الإنسان ورئيسة مركز العدل العالمي: «يجب أن يدرك الجميع أن أفعالهم تترافق مع عواقب دولية جدّية. نحن نوجّه رسالة إلى بوتين تحديداً، لكن ستصل هذه الرسالة أيضاً إلى الضباط الروس المنتشرين في أوكرانيا خلال هذه الحرب».

تزامناً مع احتدام الجدل في واشنطن، وبروكسل، وكييف، وأماكن أخرى في أوروبا، تتلاحق الأدلة التي تثبت ارتكاب جرائم حرب على يد الجنود الروس في ساحات المعارك والمدن الأوكرانية التي تحتلّها روسيا. تشير تلك الأدلة إلى إعدام المدنيين، وحفر مقابر جماعية، واللجوء إلى ممارسات الاغتصاب والتعذيب، وترحيل الأولاد قسراً. حتى أن أحد الفيديوات يشمل جنوداً روساً وهم يقطعون رأس أسير حرب أوكراني. تجري تحقيقات حول هذه الجرائم كلها عبر مجموعة معقدة ومتداخلة من مبادرات العدالة الوطنية والدولية، لكن ما من طريقة شاملة وواضحة لزيادة التنسيق بين تلك التحقيقات.

يقول المدعي العام الأوكراني، أندريـــه كوستين، إن البلد فتح تحقيقات عن أكثر من 80 ألف جريمة حرب حتى الآن. أنشأ الاتحاد الأوروبي قاعدة بيانات لجمع الأدلة التي تثبت ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، وقد جمعت ست دول من أوروبا الشرقية (رومانيا، سلوفاكيا، بولندا، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) مواردها ضمن «فريق تحقيق مشترك» لمعالجة هذه المشكلة ومساعدة أوكرانيا على جمع أدلة عن الجرائم المرتكبة خلال الحرب.

يظن ناشطون من المجتمع المدني الأوكراني أن المعركة القانونية في أوكرانيا ستؤثر بشدة على طريقة محاسبة روسيا في مناطق حرب أخرى حيث اتُّهِمت قواتها بارتكاب جرائم حرب وأعمال وحشية مختلفة. تقول أولكساندرا ماتفيتشوك، رئيسة مركز الحريات المدنية (منظمة غير حكومية في أوكرانيا فازت بجائزة نوبل للسلام في العام 2022): «نحن نناضل في سبيل العدالة، لا من أجل الأوكرانيين فحسب، بل لتحقيق العدالة ومنع ارتكاب أعمال وحشية أخرى مستقبلاً». هي تطرقت إلى الجرائم الروسية السابقة في الشيشان، وجورجيا، ومالي، وسوريا، وليبيا، أثناء مشاركتها في قمة كوبنهاغن للديمقراطية في الأسبوع الماضي، وأكدت على عدم معاقبة روسيا على أفعالها يوماً.

سبق وأحرزت أوكرانيا بعض التقدم لمحاكمة عدد من جنود المشاة الروس. لكنّ محاسبة القادة الروس، بدءاً من بوتين وصولاً إلى كبار مساعديه في موسكو وضباط عسكريين في مناصب عليا أو متوسطة، قد تطرح عائقاً غير مسبوق، إذ تتعدد الأسئلة العالقة حول إمكانية أن تلقي أوكرانيا أو أي محكمة دولية القبض على هؤلاء المسؤولين. مع ذلك، يظن الأوكرانيون وحلفاؤهم أن محاكمة المرتكبين، ولو غيابياً، يوجّه رسالة مهمة عن العدالة والمساءلة حول العالم.

بشكل عام، يفكر المسؤولون الغربيون بمحاسبة روسيا على أعمالها الوحشية في أوكرانيا بثلاث طرق محتملة، وتحمل كل طريقة منها مجموعة من المنافع والانتكاسات.

تقضي الطريقة الأولى باللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهي الأهم في العالم. يحصد هذا الخيار أكبر إجماع دولي على ما يبدو، لكن يبرز عائق كبير في هذا المجال: لا تملك المحكمة الجنائية الدولية في الوقت الراهن صلاحية التحقيق بجرائم العدوان الروسية، علماً أن هذه المقاربة تُعتبر (نظرياً) أفضل مسار قانوني لمحاسبة بوتين مباشرةً على إصدار قرار الحرب. يتطلب توسيع صلاحيات المحكمة تعديل معاهدتها التأسيسية المعروفة باسم «نظام روما الأساسي»، وهي عملية فوضوية ومعقدة جداً. لا يثق الدبلوماسيون الأوروبيون بقدرتهم على تحقيق هذا الهدف. يتعلق عامل شائك آخر بعدم مصادقة أوكرانيا على نظام روما الأساسي وعدم انتسابها إلى المحكمة الجنائية الدولية حتى الآن، مع أنها تعترف بأن المحكمة تملك صلاحية التحقيق بجرائم الحرب في أراضيها عبر إجراء قانوني خاص.

سبق وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق بوتين ومفوضة حقوق الطفل في روسيا، ماريا لفوفا بيلوفا، في شهر آذار، نتيجة ادعاءات مرتبطة بإقدام روسيا على خطف وترحيل أطفال أوكرانيين تزامناً مع متابعة حربها. بموجب القانون الدولي، يدخل نقل الأطفال بالقوة من مجموعة إلى أخرى في خانة الإبادة الجماعية. تقول داريا زاريفنا، مستشارة في مكتب الرئيس الأوكراني، إن 20 ألف طفل أوكراني «تم ترحيلهم بطريقة غير شرعية» إلى روسيا. وبحسب معلوماتها، تمكنت أوكرانيا حتى الآن من إعادة 364 طفلاً منهم فقط. يعتبر الأوكرانيون وداعموهم الغربيون مذكرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية مجرّد بداية لسلسلة خطوات مرتقبة، لكن يجب أن يواجه بوتين تُهَماً أخرى، بما في ذلك ارتكاب جريمة عدوان.

يقضي الخيار الثاني بإنشاء محكمة خاصة جديدة لها معاهدة تأسيسية منفصلة عن المحكمة الجنائية الدولية. لا يستلزم هذا الخيار تعديل المعاهدة التأسيسية للمحكمة الجنائية الدولية، ويمكن تصميم المحكمة الجديدة على شكل محاكمات نورمبرغ التي نشأت لمحاسبة القادة النازيين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن تطرح هذه المقاربة أنواعاً جديدة من التحديات العمليّة: ما هو عدد الدول المستعدة للمشاركة في هذه المحكمة؟ وهل ستشارك دول من خارج أميركا الشمالية وأوروبا لمنح المحكمة شرعية دولية كافية؟ من سيموّل هذا المشروع، ويبني المحكمة، ويختار المدعين العامين والموظفين والقضاة؟ سيكون إنشاء هذا النظام في بلدٍ يقع داخل منطقة حرب ناشطة كفيلاً بتعقيد الأجوبة على هذه الأسئلة.

أما الخيار الثالث، فهو يقضي بإنشاء «محكمة هجينة» حيث يساعد الأميركيون وداعمون آخرون النيابة العامة الأوكرانية على محاكمة المسؤولين والجنود الروس في المحاكم الأوكرانية، على أن يتم استدعاء قضاة ومدعين عامين أجانب لتقديم المساعدة على الأرجح. تحاول واشنطن فرض هذه المقاربة كخيار أولي، على اعتبار أنها أسرع طريقة لمحاسبة مجرمي الحرب الروس وتجنب عقبات قانونية أكثر تعقيداً قد تحول دون تعديل نظام المحكمة الجنائية الدولية أو إنشاء محكمة جديدة بالكامل.

ألقت المبعوثـــة الأميركية للعدالة الجنائية العالمية، بيث فان شاك، خطاباً في الجامعة الكاثوليكية الأميركية في شهر آذار الماضي، فقالت: «نحن نظن أن المحكمة الدولية التي تنبثق من النظام القضائي الأوكراني وتشمل عناصر دولية ستطلق أوضح مسار لإنشاء محكمة جديدة وتحسين فرص محاسبة المرتكبين».

لكنّ هذا الخيار قد يحمي بوتين شخصياً من المساءلة لأن أوكرانيا، على غرار معظم بلدان العالم، تمنح رؤساء الدول حصانة قضائية. فرض البرلمان الأوكراني تعديلاً استثنائياً لملاحقة بوتين، لكن قد لا يتماشى هذا الإجراء مع القانون الدولي الراهن.

باختصار، يواجه المعنيون معضلة قانونية شائكة. قد لا تحصد أسرع طريقة لتحقيق العدالة في أوكرانيا أكبر دعم دولي وقد لا تكون أفضل مقاربة لملاحقة بوتين شخصياً. في المقابل، يتطلب المسار الذي يحصد أكبر دعم دولي ويسمح بالقبض على بوتين وقتاً طويلاً.

يقول المفوض الأوروبي للعدالة، ديدييه ريندرز: «يجب أن نحاول اللجوء إلى أكثر الحلول فاعلية، لكن يُفترض أن يحصد هذا الحل أكبر دعم ممكن. يسعى الاتحاد الأوروبي إلى إشراك بلدان من أميركا اللاتينية، وأفريقيا، وآسيا، لكسب دعم إضافي لإجراءات محاسبة مرتكبي جرائم الحرب في أوكرانيا. قد تكون المحكمة الجنائية الدولية الخيار الأفضل، تليها المحكمة الخاصة، ثم المحكمة الهجينة. لا تزال النقاشات مستمرة للقيام بالخيار المناسب».

أخيراً، صرّحت سولوميا بورشوش، المديرة التنفيذية للمعهد الأوكراني (منظمة معنية بالدبلوماسية الثقافية)، خلال قمة كوبنهاغن للديمقراطية: «لن تُحقق أوكرانيا العدالة إلا عبر محاسبة جميع المرتكبين، لكن تبدو هذه المهمّة شاقة في ظل الصراع المستمر الذي أسفر حتى الآن عن مقتل أكثر من 350 ألف شخص. التكلم عن العدالة ليس مرادفاً لعرض الإحصاءات. نحن نهتم بحياة كل إنسان بلا استثناء».


MISS 3