البروفسور أنطونيوس أبو كسم

البطريركية المارونيّة والرئاسة الفرنسيّة والهواجس المشروعة

30 أيار 2023

02 : 00

يكتسب اللقاء الذي سيجمع البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أهمّية قصوى كون الدعوة الفرنسيّة أتت في توقيت حرج للطرفين، بسبب التبدّل الجذريّ في التحالفات الإقليمية في الشرق الأوسط في وقت ما زالت أوروبا تغرق مرغمة في وُحول الحرب الروسية الأوكرانية. تأتي الزيارة على إيقاع شغورٍ مقلق في موقع الرئاسة اللبنانية جرّاء الانقسام السياسي الحاد، حيث تنهار فيه الدولة اقتصادياً وتكوينيّاً. وعليه، يُتوَقّع أن يُفصِحَ البطريرك الماروني عن الهواجس لاستعادة الثقة ما بين البطريركية وفرنسا ولاسترجاع امتيازات فرنسيّة للمؤسسات التربويّة والاستشفائيّة، كانت مخصّصة حصرياً للموارنة كحليفٍ سياسي وثقافي وليس كحليفٍ دينيّ. كونها زيارة زعيم أمّة وليست زيارة رئيس طائفة، وزيارة تاريخيّة على خطى المثلّثَي الرحمات البطريرك الحويّك والبطريرك عريضة، فهي تستدعي الدعوة إلى اجتماع طارئ لمجلس المطارنة للتباحث بمضمون الزيارة الاستثنائيّة وأهدافها دعماً للسيّد البطريرك المؤتمن على لبنان الكبير وسط مخاض المتغيرات الإقليمية.

هواجس سياسية

وسط التغيرات في المنطقة والعالم، لدى البطريركية هواجس سياسية حول دور لبنان المستقبلي ورسالته، وما إذا كان سيشكّل ساحة لتصفية الحسابات أم واحةً حياديّة للحوار. إنّ أيّ تهميش دوليّ للبنان سيؤدّي مستقبلاً إلى خسارة دوره. إنّ لقاء البطريرك الماروني والرئيس الفرنسي، سيشكّل مناسبة للتذكير بثوابت بكركي التي لا مساومة عليها من موقعها المؤسّس لمشروع لبنان الكبير والراعية له: لبنان وطنٌ سيّدٌ مستقلٌ لكلّ أبنائه، فهي كانت وما زالت تقاوم التقسيم وتناهض الفيدراليّة، إيماناً منها بالشراكة والعيش المشترك. تخشى بكركي وضع لبنان تحت وصاية جديدة من متطلّباتها رئيس تسووي خاضع غير ميثاقي لا يحظى بثقة المسيحيين، بدلاً من السّعي لتنفيذ قرارات مجلس الأمن المتعلّقة بسيادة لبنان الداخلية واستقلاله الخارجيّ.

هواجس رئاسيّة

من الطبيعيّ أن تكون للبطريركية هواجس تتعلّق بالموقف الفرنسي من الرئاسة اللبنانية، خصوصاً وأنّ المعطيات تشير إلى تغليب الإدارة الفرنسية حلفها مع السلاح والنفط على حساب الحلف التاريخي والثقافي. فمن المستحيل أن تتعاطى الإليزيه مع السيّد البطريرك كلاعب سياسيّ داخلي، ومن المستحيل وضع البطريرك أمام معادلة الفرصة الأخيرة: رئيس الأمر الواقع مقابل الشغور في الرئاسة! إنّ نظرة البطريركية للموضوع ليست من باب الأشخاص، بل من زاوية موقع المرشّح وبرنامجه وثوابته السياديّة. فموقف البطريركيّة يصبّ في اتجاه ألّا تسعى فرنسا مع دولٍ مؤثرة إلى تغليب فريق على آخر والإتيان برئيسٍ إمّا ذات مشروع مناقضٍ للسيادة أو صاحب مشروع مناقض للميثاق الوطني. فحريّ بالبطريرك الماروني أن يطلب من الرئيس الفرنسي، رعاية حوارٍ وطني ما بين المكوّنات اللبنانيّة من دون استثناء تحت مظلّة خليّة الدول الخمس الخاصة بمساعدة لبنان، بهدف تسهيل انتخاب رئيس للبنان. فإنّ إعادة استنهاض العلاقات الفرنسية المارونية، تحتّم عدم مصادرة قرار الموارنة، ليس كطائفة بل كمكوّن لبنانيّ مؤسّس.

هواجس وجوديّة

إنّ السياسات الأوروبية بشأن الأزمة في سوريا، لم تأخذ بالاعتبار الكيان اللبناني. فلا يستطيع السيّد البطريرك إلّا وأن يطرح أزمة المهجّرين والمهاجرين السوريين في لبنان، التي تؤدي إلى خللٍ ديموغرافي والتأسيس لعقدٍ اجتماعي جديد مناقض للطائف يقوم على اختزال دور الأقليات المستجدّة. إنّ تداعيات هذه الأزمة الوجودية تؤدّي إلى تفجير لبنان وتفريغه من مكامن قوّته وتغيير هويّته. لا بدّ من التذكير، أنّ البطريركية المارونيّة ضحّت بالصلاحيات الإجرائية لرئيس الجمهورية الماروني في اتفاق الطائف مقابل ضمان السلم الأهلي، هذا الموقف لم يكن استسلاماً أو تسليماً بخسارة المسيحيين الحرب، بل فضّلت البطريركيّة عدم خسارة لبنان، إلا أنّ أمراء الحرب لا يؤمنون بالدولة.

هواجس ثقافية

من واجب الرئاسة الفرنسية، حماية الهوية الثقافية اللبنانية حيث تشكّل الفرنكوفونيّة جزءاً منها، خصوصاً وأنّ مستقبل الفرنكوفونيّة أصبح على المحكّ في لبنان، وحتّى المدارس والجامعات الكاثوليكية ذات النواة الفرنكوفونية تتّجه تدريجياً نحو المنهاج الأميركي. حريٌّ بفرنسا الحفاظ على التعددية اللبنانية كنموذج للحوار بين الحضارات، كأرضيّة مشرقيّة طبيعيّة غير اصطناعيّة للحوار المسيحي - الإسلامي؛ خصوصاً وأنّ التعددية الفرنسية تتحول إلى تعصبٍ وشغب وسط تراجع واضح لوهج الثقافة الفرنسية في المشرق العربي. تشهد التجارب السياسية الحديثة، أنّ أحلاف باريس مع غير المسيحيين في لبنان لم يكتب لها النجاح، كونها تقوم إمّا على المصالح التجاريّة أو المصالح السياسيّة. لا يمكن للإليزيه أن يتناسى إرث بكركي في باريس، فتبقى فرنسا في الوجدان اللبناني الأمّ الحنون والدولة الكبرى الصديقة، ولم ينسَ أحدٌ زيارتَي الرئيس ماكرون للبنان بعد انفجار المرفأ جرّاء تفجيره.

هواجس دينيّة

لا تعارض ما بين مشروع البطريركيّة المارونيّة والدولة الفرنسيّة العلمانيّة. فإنّ أوّل من أطلق رسمياً فكرة الدولة المدنيّة هو الكنيسة المارونية من خلال المجمع البطريركي الماروني. هناك تعارض ما بين قِيَم الدولة الفرنسيّة والحلفاء الجدد لباريس الذين يقوم مشروعهم على الدولة الدينيّة وعلى العددية. يبقى مشروع الموارنة في لبنان مشروع دولة قانون مدنيّة وحوار، دولة ديمقراطيّة تحترم حقوق الجميع، دولة قيم مجتمعيّة قائمة على مبدأ السيادة والعيش معاً، ولم تكن نظرة الموارنة للبنان وطناً من دون المسلمين. فثوابت الفاتيكان بشأن العالم العربي معبّر عنها في الإرشادين الرسوليين وفي وثيقة الأخوّة الإنسانية التي تقوم على مبدأ الحوار المسيحي الإسلامي من أجل الإنسان وكرامته. إنّ المثال اللبناني لفرنسا هو حماية الشعائر الدينيّة واحترام الطوائفية قبل أن تفتك الطائفية بأنسجة المجتمع الفرنسي.

(*) محامٍ دوليّ وأستاذ جامعي


MISS 3