آدم توز

الولايات المتحدة تفرض شروط السلام الاقتصادي على الصين

2 حزيران 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

إلى أي حد قد يوجّه تصاعد التوتر مع الصين السياسة الاقتصادية الأميركية؟ بعد فرض سلسلة من العقوبات والتشريعات المنحازة بكل وضوح، تزامناً مع التحضير للتحرك ضد الاستثمارات الأميركية في الصين، وفي ظل وفرة الكلام عن اندلاع حرب مرتقبة في الولايات المتحدة، تدرك إدارة جو بايدن اليوم أنها تحتاج إلى توضيح علاقاتها الاقتصادية مع البلد الذي يبقى أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة خارج أميركا الشمالية.

غداة اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي هذا الشهر، أدلت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين بأول تصريح بارز حول العلاقات الاقتصادية مع الصين منذ العام 2021. استناداً إلى الأسلوب الذي استعملته، تهدف رسالتها على ما يبدو إلى توضيح الوضع القائم وإخماد التوقعات والنقاشات المرتبطة بالدوافع والنوايا الأميركية. لكن إلى أي حد سيكون الوضوح كافياً لاسترجاع الهدوء في الظروف الراهنة؟

ترفض يلين السيناريو الذي ينذر باندلاع الحرب، لكن تبدو الأسباب التي تدفعها إلى تبنّي هذا الموقف لافتة. من وجهة نظرها، ترتكز الفكرة القائلة إن «الصراع بين الولايات المتحدة والصين يبدو حتمياً مع مرور الوقت» على أساس خاطئ. تقوم تلك النظرية على «المخاوف التي يتقاسمها بعض الأميركيين بشأن التراجع الذي تشهده الولايات المتحدة، ما يعني أن تتمكن الصين من التفوق عليها سريعاً وتنتزع مكانة أهم قوة اقتصادية في العالم، ما يؤدي إلى نشوء صدام بين البلدين». قد تحاول الولايات المتحدة في هذه الحالة خوض مواجهة عسكرية لإبطاء أي تحوّل لا يفيدها في ميزان القوى، نظراً إلى النمو الاقتصادي الاستثنائي الذي تسجّله الصين. لكن لا تعتبر يلين هذه المقاربة منطقية لأن الاقتصاد الأميركي لا يزال قوياً بفضل مؤسسات الحرية التأسيسية، وثقافة الابتكار، وحكمة فريق بايدن في إدارة شؤون البلد.

بحسب رأيها، لا تزال الولايات المتحدة تشمل الاقتصاد الأكثر حيوية وازدهاراً في العالم. لهذا السبب، تُصِرّ يلين على عدم حاجة واشنطن إلى محاولة «خنق مساعي التحديث الاقتصادي والتكنولوجي في الصين»، أو تكثيف الجهود لفك الارتباط عن البلد في معظم المجالات. تظن وزيرة الخزانة أن القوة الاقتصادية الأميركية «تتوسّع بفضل علاقات البلد مع أقرب أصدقائه وشركائه في كل منطقة من العالم، بما في ذلك منطقة المحيطَين الهندي والهادئ». نتيجةً لذلك، «لا تملك الولايات المتحدة سبباً وجيهاً كي تخشى المنافسة الاقتصادية الصحية مع أي بلد آخر». في النهاية، ختمت يلين تصريحها بموقف قوي، فقالت: «لا داعي كي يتعارض النمو الاقتصادي الصيني مع القيادة الاقتصادية الأميركية».

يستحق هذا الموقف التفكير. لن يصبح الصراع حتمياً لأن الولايات المتحدة تبلي حسناً، ما يعني أن الصين تستطيع متابعة نموها من دون تهديد القيادة الاقتصادية الأميركية. لكن ماذا لو كان الواقع مختلفاً؟ لا تتكلم يلين عن تداعيات هذا الوضع الذي تغفل عنه بكل وضوح، مع أن جميع الاحتمالات ستصبح واردة في هذه الحالة. حتى في المرحلة الراهنة التي تؤكد فيها إدارة بايدن على ثقتها بالآفاق الاقتصادية في الولايات المتحدة، تُصِرّ يلين على موقفها قائلة: «كما هو الوضع في جميع علاقاتنا الخارجية، يبقى الأمن القومي بالغ الأهمية في علاقتنا مع الصين».

إنه أمر بديهي من ناحية معينة. لا يمكن أن يصرّح أي مسؤول عام بعكس ذلك. يبقى الأمن الوظيفة الأساسية للدول. لكن يتوقف كل شيء على مستوى الثقة ونطاق الرؤية التي يحملها البلد في مجال الأمن القومي. وإذا برزت الحاجة إلى التعبير عن أهمية الأمن القومي في العلاقات الخارجية بهذا الشكل العلني، يعني ذلك أن البلد يواجه مشكلة.

من وجهة نظر يلين، يحق للولايات المتحدة أن ترسم معالم أمنها القومي على مستوى العالم. هي تزعم مثلاً أن الدفاع عن أوكرانيا في وجه العدوان الروسي يُعتبر من «أكثر المخاوف الأمنية إلحاحاً» بالنسبة إلى الولايات المتحدة. كل من يختار تجاهل العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا ويفضّل التعامل معها سيواجه عواقب خطيرة. وبما أن الولايات المتحدة قررت حرمان الجيش الصيني من تقنيات معينة أيضاً، من المنطقي أن تفرض العقوبات والقيود التجارية على البلد انطلاقاً من المبدأ نفسه.

بعبارة أخرى، لا تملك الولايات المتحدة القوية والواثقة بنفسها أي سبب وجيه لإعاقة مسار التحديث الاقتصادي والتكنولوجـــي في الصين، إلا في المجالات التي تعتبرها أوساط الأمن القومي الأميركية، وهي الأضخم في العالم، أساسية لحماية مصالح البلد الوطنية. يصعب ألا يعكس هذا الموقف شكلاً صريحاً من النفاق، إلا إذا افترضنا أننا نعيش في عالم مثالي حيث تُعتبر التكنولوجيا، والقدرات الصناعية، والتجارة التي تؤثر على الأمن القومي، جزءاً من حملات التحديث الاقتصادي والتكنولوجي عموماً.

تدعم يلين تلك الرؤية شفهياً، فتُصِرّ على اعتبار التدابير الأميركية ضد الصين مستهدفة لأقصى حد. لكن يدرك الجميع أن تلك التدابير المستهدفة تشمل حتى الآن جهوداً مكثفة لإعاقة مسار شركة «هواوي» الرائدة عالمياً في تكنولوجيا الجيل الخامس، وفرض عقوبات على جميع سلاسل إمدادات الرقائق، ووضع معظم الجامعات البحثية البارزة في الصين على قائمة الكيانات الأميركية التي تكبح العمليات التجارية عبر فرض قيود صارمة.

في غضون ذلك، يزداد الوضع إرباكاً لأن يلين تُصِرّ على عدم اعتبار العقوبات المرتبطة بالأمن القومي انعكاساً للنوايا الأميركية تجاه النمو الصيني، مع أنها تشيد في المقابل بالتشريعات التي صدرت تحت إشراف إدارة بايدن وشملت عناصر قوية ضد الصين، لا سيما قانون الرقائق الأميركي وقانون خفض التضخم. هي تعتبرها جزءاً من العوامل المُصمّمة لزيادة ازدهار الولايات المتحدة مستقبلاً.

باختصار، سترحّب الولايات المتحدة بالتحديث الاقتصادي الصيني وترفض الوقوع في فخ الحرب طالما يستمر النمو الصيني بطريقة لا تؤثر على دور الولايات المتحدة القيادي وأمنها القومي. كذلك، سيبقى موقف واشنطن تصالحياً كلما نجحت في تعزيز ازدهارها الوطني وفرض هيمنتها في تلك المجالات بالذات.

لكن من اللافت أن يحمل هذا الموقف المنطقي والتصالحي ظاهرياً كمّاً هائلاً من التناقضات. يجب أن تتقبل الصين إملاءات الولايات المتحدة للحفاظ على الوضع الراهن. وإذا لم تحترم الحدود التي ترسمها لها واشنطن بين الازدهار الحميد والتطور التكنولوجي البارز، يُفترض أن تتوقع حينها التعرّض لعقوبات هائلة.

يجب أن يشعر الجميع بالامتنان لأن يلين عبّرت عن هذا الموقف بكل وضوح. لكن كيف تتوقع واشنطن أن تردّ بكين على هذا التوجه؟ الصين لا تشبه اليابان أو ألمانيا بعد العام 1945. عند التطرق إلى مسألة «القيادة»، يبقى التكافؤ على الأقل المعيار الذي تصبو إليه بكين في علاقتها مع الولايات المتحدة. لكن لا يمكن أن يصبح الوضع الذي تتكلم عنه وزيرة الخزانة الأميركية وكأنه واقع حتمي شرعياً على المدى الطويل. سبق وأعلنت بكين أنها تطمح إلى إعادة ترتيب الشؤون العالمية بطريقة جذرية، بما في ذلك نسف أي كلام أميركي عن دور واشنطن القيادي إلى الأبد. الصين ليست القوة الآسيوية الكبرى الوحيدة التي تحمل هذا الرأي، إذ تتبنى الهند موقفاً مشابهاً.

يُقابَل هذا الموقف في واشنطن بسوء فهم واسع النطاق أو شكلٍ من الكبرياء المجروح. ألا تدرك الصين أنها تدين بنموها للنظام الذي تقوده الولايات المتحدة؟ تقول يلين صراحةً إن التمرد على هذا النظام لن يصبّ في مصلحة الصين. هي محقة حين تعتبر الصراع بين الصين والولايات المتحدة غير حتمي لأنه يتوقف فعلياً على التحركات التي يتخذها كل طرف منهما.

لكن يصعب أن تتحول رؤيتها إلى ركيزة للسلام، لأن تلك الرؤية تعطي الولايات المتحدة الحق بتحديد مسار النمو الاقتصادي الصيني، وهو توجّه غير مقبول. إذا كانت الولايات المتحدة تهتم حتى الآن بالنظام الاقتصادي والسياسي العالمي (يُفترض أن تتابع الاهتمام به)، فيجب أن تبدي استعدادها للتفاوض حول تغيير سلمي، وإلا سيشير موقفها بكل بساطة إلى رغبتها في القتال.


MISS 3