أناستاسيا إيديل

داخل إمبراطورية بوتين التلفزيونية السّريالية

3 حزيران 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

من برنامج "أمسية مع فلاديمير سولوفيوف" التلفزيوني

قد تكون الآلة الدعائية التابعة للكرملين الجانب الوحيد الذي حافظ على مستويات ما قبل الحرب مقارنةً بالأدوات الاستبدادية الأخرى التي يملكها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. يمكن اعتبار الحملات الدعائية بمثابة مكافأة مجازية وسط سيل العقوبات التي تتعرّض لها روسيا المعاصرة، فهي تسمح بإقناع الرأي العام بأجندة الحرب التي تطبّقها الدولة. يتابع 82 مليون روسي يومياً شبكة واسعة من القنوات التلفزيونية التي تسيطر عليها الدولة وتطرح نسخة موحّدة من أحداث العالم، فتُصوّره كمكان عدائي ومخيف، حيث تشنّ روسيا معركة مُحِقّة ضد قوى الشرّ.



لا تزال القنوات التلفزيونية، لا الإنترنت، الوسيلة الإعلامية الطاغية في روسيا. يشاهد المواطن الروسي العادي التلفزيون طوال أربع ساعات يومياً. لا تُعتبر هذه النسبة استثنائية بالأرقام المطلقة، إذ يشاهد الأميركيون التلفزيون مثلاً لساعات إضافية. لكن تتعلّق الميزة الاستثنائية في روسيا بحرص جميع القنوات والبرامج، بدءاً من نشرات الأخبار وصولاً إلى المسابقات الموسيقية، على نقل خطاب الكرملين على مدار الساعة.

تُحدّد نشرة أخبار الخامسة صباحاً أجندة اليوم كلّه. في صباح أحد أيام الجمعة من شهر نيسان، كان الخبر الرئيسي على «القناة الأولى» (أقدم قناة وأكثرها تأثيراً في الاتحاد الروسي) يتعلّق بـ»محاربة النازيين الأوكرانيين» بالقرب من «بخموت». ثم تلاحقت التقارير المرتبطة بزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الصين، وزيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى تركيا، وعيد البشارة الأرثوذكسي. تتكرّر هذه الصيغة، مع تعديلات بسيطة، كل 30 دقيقة خلال البرنامج الصباحي الممتدّ على ثلاث ساعات. وحتى نشرات الطقس تشارك في هذه الحملة قدر الإمكان عبر ذكر المدن الأوكرانية المحتلة كجزءٍ من الأراضي الروسية.

على «القناة الأولى»، تمتدّ الأخبار (والبرامج التي تناقشها) على ثماني ساعات من البثّ اليوميّ. ليس مفاجئاً أن يُخصَّص أكبر جزء من هذه المدة لتغطية «العملية العسكرية الروسية الخاصة»: إنها العبارة التي يستعملها الكرملين لوصف حربه المشينة ضد أوكرانيا.

مع تقدّم ساعات النهار، تطول مدة البرامج الإخبارية التي تعرض قصصاً متلاحقة تبلغ ذروتها في الساعة التاسعة مساءً مع برنامج Vremya (الزمن). يهدف هذا البرنامج إلى عرض الأخبار المحلية والدولية من منظور صحيح إيديولوجياً.

في فصول أخرى من الحملة اليومية، يتمّ تصوير الحرب عبر مجموعة من الشخصيات المتكرّرة التي تعتبر الصراع قائماً بين معسكرين: «نحن» و»هم»، حيث تشير كلمة «نحن» إلى «الأبطال» أو جنود بوتين. يكون «وَرَثة محاربي الجيش الأحمر» طِوال القامة وعيونهم زرقاء، أو ملتحين وذوي بشرة فاتحة على الأقل. عندما يوقف هؤلاء محاربة النازيين، هم يسترخون في ثكنات نظيفة ودافئة ويقرأون رسائل دعم من الطلاب الروس. كذلك، تتحقّق ممرّضات جميلات من صحتهم على الخطوط الأمامية. قد لا يبدو هذا المشهد واقعياً لكل من اختبر حرباً حقيقية لكن يملك الروس «أسلوبهم الخاص»، كما يقول الناس على الشاشة.

على صعيد آخر، يُصِرّ المذيعون الذين اعتادوا تمضية العطلة في فرنسا أو سويسرا على عدم اعتبار روسيا بلداً معزولاً، بل العكس صحيح. حتى أنهم يدعون البلدان الأخرى للانضمام إلى تحالف جديد يقوم على انعدام الليبرالية، والنزعات التقليدية، ومعاداة الولايات المتحدة، حيث تتولّى العاصمتان التوأم، موسكو وبكين، رسم معالم العالم الذي أصبح متعدّد الأقطاب اليوم.

بالإضافة إلى التركيز على الأحداث الخارجية، تُستعمَل الأخبار المحلية لإثبات قدرات الرئيس الروسي ومعارفه الشاملة. يُعرَض مثلاً اجتماع بوتين مع وزير الصحة لمناقشة التقدّم الحاصل في قطاع الرعاية الصحية في روسيا، أو تذكر النشرات أن بوتين أَمَر حكومته بمساعدة العائدين من «العملية العسكرية الخاصة» عبر منحهم الوظائف والمساكن، أو تتطرّق الأخبار إلى زيارة بوتين لمصنع سكة الحديد في «تولا» لمناقشة خيار استبدال الآلات الغربية بتُحَف محلية أفضل منها.

في المقابل، تبدو اللمحات البسيطة عن حياة الروس العادية التي لم تخضع لأي تنقيح كئيبة بامتياز. يتطرّق البرنامج الحواري Male/Female مثلاً إلى قصص «مواطنين في ظروف معقّدة». في ذلك اليوم من شهر نيسان، أجرى مقدّم البرنامج وفريقه تحقيقاً عن قاتل في إحدى القرى (أُعيد تمثيل الجريمة وناقشها أهل الضحية والمتّهمون)، فكانت الحلقة مليئة بمراجع على صلة بحالات ضرب، وجلسات الاستجواب، ومذكّرات التوقيف. كذلك، تعرض مقاطع من البرنامج الاجتماعي السياسي Man and Law عمليات خارجة عن القانون من تنفيذ عدد من الروس الحقيقيين (مخادع يقوم بزيجات مزيّفة، مُبيّض أموال أصمّ ومتقاعد، مستأجرون يديرون مصنع مفروشات في مبنى سكني، امرأة تضايق عائلة جيرانها بعنف، امرأة تدير قن دجاج داخل منزلها...). هذه القصص تجعل المشاهدين يخافون من العالم الجنوني الذي يعيشون فيه.

في ذلك العالم العدائي، تلعب القوى الماورائية دوراً خاصاً. وفق البرنامج الحواري السياسي The Big Game (اللعبة الكبرى)، يرفض الرئيس الصيني شي جين بينغ التكلم مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لأن هذا الأخير ملعون: كل زعيم يقابله يواجه أزمة سياسية أو حادثة جسدية. يكفي أن ننظر إلى مصير رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون، أو رئيسة الوزراء الفنلندية سانا مارين (ترك كلاهما منصبيهما)، أو حتى سلطان عمان، قابوس بن سعيد، الذي توفي بعد أيام على زيارة الرئيس الأوكراني بلده. لطالما كانت إثارة الخوف جزءاً من أهداف الحملة الدعائية الروسية. لكن حين كان بوتين مسؤولاً في الاستخبارات السوفياتية، فرض الموقف السوفياتي الداعم للعلم والمعادي للدين بعض القيود على النزعة الظلامية. تلاشت تلك القيود الآن، وتُستعمل جميع أنواع الخرافات في الوقت الراهن خدمةً للأجندة الإيديولوجية. تذكر قنوات التلفزة أننا نعيش اليوم في نهاية الأزمنة، ويجب أن يستعدّ الجميع إذاً للمواجهة الأخيرة بين الخير والشرّ.

لم يستعمل أحد هذه الرؤية القاتمة عن اقتراب النهاية بقدر البرنامج الحواري السياسيEvening With Vladimir Solovyov (أمسية مع فلاديمير سولوفيوف) على قناة «روسيا الأولى». يظهر سولوفيوف وهو يرتدي بذلة سوداء بأطراف حمراء وبتصميم مشابه لأزياء القرون الوسطى. هو يملك عدداً من الفيلات الإيطالية الخاضعة لعقوبات الاتحاد الأوروبي بسبب دوره في الغزو، وهو مشهور بسمعته السيئة وسط عدد كبير من منظّمي الحملة الدعائية الخاصة بالحرب الروسية. خلال برنامجه الذي يمتدّ على أكثر من ساعتين وتبثّه القناة بشكلٍ شبه يومي، يتكلّم سولوفيوف عن الصراع الراهن بكلمات قاتمة وتشاؤمية، على اعتبار أنها حرب مقدسة ومحتدمة حيث يحارب القديسون الروس شياطين أوكرانيا. لا يُعتبر التحريض المباشر على القتل جريمة على التلفزيون الروسي. استنكر سولوفيوف مثلاً إقدام السلطات الأوكرانية على تفتيش «دير الكهوف» (معقل تاريخي للكنيسة الأرثوذكسية في كييف)، فسأل: «إلى متى سنترك دماء أبطالنا بلا انتقام؟ ومتى سندمّر المقرّ الحكومي في كييف ورئيس النازيين زيلينسكي؟».

إذا أردنا تصديق ضيوف هذا البرنامج، يبدو أن الانتقام سيحصل قريباً. بحسب قول مارغريتا سيمونيان، رئيسة تحرير شبكة «روسيا اليوم» التي تطلق الحملات الدعائية وتستهدف جماهير خارج روسيا، وهي ضيفة متكرّرة في البرنامج، سبق وبدأت الضربات العشر التي يذكرها الكتاب المقدس ضد «الفرعون زيلينسكي».

تعليقاً على دمار أوكرانيا الذي أغرق الكثيرين في ظلمة قاتمة، تقول سيمونيان: «الرعد والبَرَد! هذا ما كُتِب على الأرجح عن قاذفات صواريخنا». يصعب ألا نعتبرها سادية حين نشاهد ابتسامتها وهي تتفوّه بهذه الكلمات.

يُعبّر بقية ضيوف البرنامج، معظمهم من أعضاء البرلمان والأكاديميين الذين يمثّلون «النخبة» الروسية، عن دعمهم الكامل لنزعات سولوفيوف المَرَضيّة. هم يُجمِعون على اعتبار الولايات المتحدة مصدراً للشر. قال أستاذ من جامعة موسكو الحكومية إن المحكمة الجنائية الدولية يمكن التعامل معها بسهولة عبر إطلاق ضربة نووية. بدأ «الخبراء» المشاركون في البرنامج يقهقهون عند سماع هذا الكلام. ثم أنهى سولوفيوف برنامجه الذي يُعرَض يوم الأحد طوال 170 دقيقة بعبارة مدوّية، فقال: «دمّروا أوكرانيا! أحرقوها بالحديد الساخن. نحن لا نستطيع التفاوض مع الشيطان».

في يوم الأحد اللاحق، طالب سولوفيوف بإعادة تفعيل عقوبة الإعدام للتعامل مع «الخونة». هو يفضّل الشنق على وجه التحديد. حين تفوز روسيا، قد توافق على التفاوض مع الغرب، أو «ما تبقى من الغرب» كما يقول سولوفيوف. إنه جزء من تهديدات مُقنّعة كثيرة تنذر بتدمير أعداء روسيا بالأسلحة النووية. يُعبّر أحد ضيوفه، وهو سياسي أوكراني سابق أصبح مطلوباً الآن في أوكرانيا، عن الرأي نفسه فيقول: «نحن نملك الوسائل اللازمة لتدمير الأميركيين. حان الوقت لاستعمالها».

يصعب أن يقتنع أحد بهذه الحملة الدعائية خارج الأراضي الروسية، ومع ذلك لا يُعتبر الرأي العام الروسي الجمهور الوحيد الذي تستهدفه هذه الحملة. لكن فيما يقرأ القادة الغربيون تقارير عن «أبواق» بوتين الذين يهدّدون بتحويل الولايات المتحدة وأوروبا إلى «رماد إشعاعي» أو يفكّرون بتوجيه إنذار ضد روسيا التي تستعدّ للفوز في حرب نووية، هم يواجهون في الوقت نفسه حملة دعائية خارجية بقيادة الكرملين، ولو أنها أقل وضوحاً، بهدف إضعاف وحدتهم ونشر الشكوك بينهم بشأن صوابية دعم أوكرانيا.

وراء تلك الابتسامات المريبة والرسوم البيانية المعاصرة، يستعمل رجل تافه الخوف لتحويل أنظار الناس عن مظاهر الوحشية والإخفاقات الكبرى التي سبّبتها هذه الحرب على مستوى العالم. لكن على غرار من عاشوا ليشاهدوا الجانب الآخر من الحقبة السوفياتية، سيدرك الروس يوماً أكاذيب بوتين وسيكتشفون أنها مجرّد أداة لتوريطهم في جرائم دولتهم. لكن لا أحد يعرف حتى الآن عدد الأوكرانيين الذين سيخسرون حياتهم قبل بدء الصحوة الروسية المقبلة.


MISS 3