المطران عودة: السفينة لا تسير بلا ربّان والتعطيلُ لم يَعُدْ يُجدي

13 : 20

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة خدمة قداس عيد العنصرة في كاتدرائية القديس جاورجيوس.



بعد قراءة الإنجيل المقدس ألقى المطران عودة عظة اعتبر فيها ان السَّفينَـةَ لا تَسيـرُ بِـلا رُبَّـان، وتُصْبِـحُ قـابِلَـةً لِلغَـرَقِ فـي أَيَّـةِ لَحْظَـة، فَكَـمْ بِـالحَـرِيِّ سَفينَـةُ لُبنـانَ الَّتـي تَفتَقِرُ إلى ربّانٍ، وإلى طاقمٍ ذي اختصاصٍ يُعاونُه".


واضاف: "نحن بحاجةٍ إلى رجاحةِ العقلِ وبُعْـدِ النظر، إلى حُسْنِ النِيَّةِ وسِعَةِ الصدر. التعطيلُ لم يَعُدْ يُجدي والإستعلاءُ والهيمنةُ لا تَقودان إلى مكانٍ آمنٍ بل تُوَلِّدان ردّةَ فِعْلٍ سلبيةٍ ضارة. من هنا ضرورةُ التَعَقُّلِ وتقديمُ المصلحةِ العامةِ على كلِّ مصلحة".




وجاء في عظة الأحد للمطران عودة:


"بِاسْمِ الآبِ والإبْـنِ والـرّوحِ القُـدُس، آميـن.

أحبَّـائـي، وَصَلْنـا اليَـومَ إلـى العيـدِ الخَمسينِـيِّ المُقَـدَّس، أي العَنْصَـرَة، الَّتـي نُعَيِّـدُ فيهـا لِلثَّـالـوثِ القُـدُّوس وكَمـالِ عَمَلِـهِ مَـعَ البَشَـرِ عَبْـرَ حُلـولِ الـرُّوحِ القُـدُسِ علـى التَّـلاميـذِ، وتـالِيًـا نُعَيِّـدُ لِتَـأسيـسِ الكَنيسَـةِ الحَيَّـةِ وانْطِـلاقِ بِشـارَتِهـا فـي هَـذا العـالَـم.


عيـدُ العَنْصَـرَةِ هُـوَ آخِـرُ أَعْيـادِ التَّـدْبيـرِ الإِلَهِـيّ. كـانَ هَـدَفُ تَجَسُّـدِ المَسيحِ أَنْ يَنْتَصِـرَ علـى المَـوْتِ، ويُحِلَّ الـرُّوحَ القُـدُسَ فـي قُلـوبِ البَشَـر. كـذلـك، هَـدَفُ الحَيـاةِ الكَنَسِيَّـةِ والـرُّوحِيَّـةِ أَنْ نُصْبِحَ أَعْضـاءَ فـي جَسَـدِ المَسيحِ، ونَكْتَسِبَ الـرُّوحَ القُـدُس.


تُسَمِّـي التَّسـابيـحُ عيـدَ العَنْصَـرَةِ آخِـرَ الأَعيـادِ المُتَعَلِّقَـةِ بِـإِصـلاحِ الإِنْسـانِ وتَجَـدُّدِهِ. فـإِذا كـانَـتْ بِشـارَةُ والِـدَةِ الإِلَـهِ بِـدايَـةَ تَجَسُّدِ الكَلِمَـةِ والتَّـدبيـرِ الإِلَهِـيّ، فَـالعَنْصَـرَةُ هِـيَ الخِتـام، إِذْ فيهـا يَصيرُ الإِنسـانُ، بِـالـرُّوحِ القُـدُس، عُضـوًا فـي جَسَـدِ المَسيـحِ القـائِـم. بِحَسَـبِ القِـدِّيـسِ نيقـوديمـوسَ الآثـوسِـيّ، بَـدَأَ خَلْـقُ العـالَـمِ فـي اليَـوْمِ الأَوَّل، أَي يَـوْمَ الأَحَـد، وبَـدَأَ تَجَـدُّدُ الخَليقَـةِ يَـوْمَ أَحَـدٍ مَـعَ قِيـامَـةِ المَسيـح، وحَـدَثَ إِتْمـامُ الخَلْـقِ يَـوْمَ أَحَـدٍ بِنُـزولِ الـرُّوحِ القُـدُس. الآبُ أَتَـمَّ الخَلْـقَ بِمُعـاوَنَـةِ الإبْـنِ والـرُّوحِ القُـدُس، والإبْـنُ أَتَـمَّ التَّجـديـدَ بِـإِرادَةِ الآبِ ومُعـاوَنَـةِ الـرُّوحِ القُـدُس، والـرُّوحُ أَكْمَـلَ الخَلْـقَ مُنْبَثِقًـا مِـنَ الآبِ ومُـرْسَـلًا مِـنَ الإبْـن، وهَـذا مـا يَجْعَـلُ العَـنْصَـرَةَ عيـدًا لِلثَّـالوثِ الـقُـدُّوس. كَلِمَةُ اللهِ صارَ إِنسانًـا بِـإِرادَةِ الآبِ الصَّـالِحَة، وبِالتَّعـاوُنِ مَـعَ الـرُّوحِ القُـدُس. حُبِـلَ بِـالمَسيـحِ بِالـرُّوحِ القُـدُس، ثُمَّ، بَعْـدَما قـامَ الـرَّبُّ مِـنْ بَيْـنِ الأَمـواتِ، أَرْسَـلَ الرُّوحَ القُـدُسَ عَلـى تَـلاميذِهِ وجَعَـلَ مِنْـهُم أَعضاءَ جَسَـدِه أي الكَنيسَة.



خِـلالَ حَيـاتِـهِ بَيْنَهُـم، كـانَ المَسيـحُ يَشفـي قُلـوبَ الـرُّسُـلِ ويُطَهِّـرُهـا بِتَعـالِيمِـه، وبِـإِعـلانـاتِ أَسـرارِهِ، وبِمُعْجِـزاتِـه. لِهَـذا، قـالَ لَهُـم فـي النِّهـايَـة: «أَنْتُـم الآنَ أَنْقِيـاءُ بِسَبَـبِ الكَـلامِ الَّـذي كَلَّمْتُكُـمْ بِـه» (يـو 15: 3). يَصِـفُ القِـدِّيـسُ يـوحَنَّـا الـدِّمَشقِـيُّ الـرُّوحَ القُـدُسَ كَعَـلامَـةٍ لـلإبْـنِ المَـولـودِ مِـنَ الآب، لأَنَّـهُ يَكْشِـفُ كَلِمَـةَ اللهِ ويُظْهِـرُهُ، إِذْ «مِـنْ دونِ الـرُّوحِ القُـدُسِ لا يُفْهَـمُ الإبْـنُ المَـولـودُ الـوَحيـد» علـى حَسَـبِ قَـولِ القِـدِّيـسِ غـريغـوريـوس النّيصصـيّ. أمّـا الـرَّسـولُ بـولُـس فـيَقـولُ: «لَيْـسَ أَحَـدٌ يَقْـدِرُ أَنْ يَقـولَ: يَسـوعُ رَبٌّ، إِلَّا بِـالـرُّوحِ القُـدُس» (1كـو 12: 3).


لَقَـدْ أُعْطِـيَ الـرُّوحُ القُـدُسُ عِـدَّةَ أَسمـاء، مِنهـا «المُعَـزِّي»، وهُـوَ الاسـمُ الَّـذي يُظْهِـرُ عَمَلَـهُ فـي الكَنيسَـةِ، كَمـا فـي حَيـاةِ البَشَـر. لَقَـد قـالَ الـرَّبُّ يَسـوع: «أَمَّـا المُعَـزِّي، الـرُّوحُ القُـدُس، الَّـذي سَيُـرْسِلُـهُ الآبُ بِـاسْمِـي، فَهُـوَ يُعَلِّمُكُـم كُـلَّ شَـيْءٍ، ويُـذَكِّـرُكُـمْ بِكُـلِّ مـا قُلْتُـهُ لَكُـم» (يـو 14: 26)، وإِذْ نَحْـنُ واثِقـونَ بِـأَنَّ الـرُّوحَ القُـدُسَ هُـوَ المُعَـزِّي، نُصَلِّـي إِلَيْـهِ قـائِليـن: «أَيُّهـا المَلِـكُ السَّمـاوِيُّ المُعَـزِّي روحُ الـحـق... هَلُـمَّ وَاسْكُـنْ فينـا وطَـهِّـرْنـا مِـنْ كُـلِّ دَنَـس...». الـرُّوحُ القُـدُسُ يُعَـزِّي الإِنْسـانَ المُجـاهِـدَ ضِـدَّ الخَطيئَـة، الَّـذي يَسْعَـى إلـى حِفْـظِ وَصـايـا المَسيـحِ فـي حَيـاتِـه. هَـذا الصِّـراعُ صَعْـبٌ لأَنَّـهُ حَـرْبٌ ضِـدَّ الأَرواحِ الشِّـرِّيـرَة. لِهَـذا، فَـالـرُّوحُ القُـدُسُ هُـوَ المُعَـزِّي، الَّـذي يُـريـحُ النَّـاس، بِحَسَـبِ قَـوْلِ القِـدِّيـسِ يـوحَنَّـا الـذَّهَبِـيِّ الفَـم. إِنَّـهُ العَـلامَـةُ عَلـى أَنَّ اللهَ يُـواسـي الـبـشـر.


قـالَ الـرَّبُّ لِتَـلامِيـذِه: «أَقيمـوا فـي مَـدينَـةِ أُورَشَليـمَ إلـى أَنْ تُلْبَسـوا قُـوَّةً مِـنَ العَـلاء» (لـو 24: 49). لَـمْ يَقُـلْ لَهُـم إِنَّهـمْ سَيَحصُلـونَ علـى الـرُّوحِ القُـدُسِ فَقَـط، بَـلْ إِنَّهُـم سَيُلْبَسـونَـه، كَمِثْـلِ لِبـاسٍ روحِـيٍّ مِـنَ الـدُّروعِ لِمُـواجَهَـةِ العَـدُوّ وغَلَبَتِـه. لا يَتَعَلَّـقُ الأَمْـرُ بِـاسْتِنـارَةِ أَذْهـانِهِـم، بَـلْ بِتَحَـوُّلٍ كـامِـلٍ لِكِيـانِهِـم. فـي المَعمـودِيَّـةِ المُقَـدَّسَـة، نَحـنُ نَصيـرُ أَعْضـاءَ فـي جَسَـدِ المَسيـح، بِلِبْسِنـا إِيَّـاه، كـمـا يـقَـوْلُ الـرَّسـولِ بـولُـس: «لأَنَّ كُلَّكُـم الَّـذيـنَ اعْتَمَـدْتُـم بِـالمَسيـحِ، قَـدْ لَبِسْتُـم المَسيـح» (غَـل 3: 27). إِنَّ لِبْـسَ الـرُّوحِ القُـدُس لَيْـسَ خـارِجِيًّـا أَو سَطْحِيًّـا، بـل داخِلِـيٌّ كَـاتِّحـادِ الحَـديـدِ بِـالنَّـار، حَيـثُ يَكـونُ الحَـديـدُ المُحَمَّـى مُشْتَعِـلًا بِكُلِّيَّتِـه. هَكَـذا الَّـذيـنَ يَحْصَلـونَ علـى الـرُّوحِ القُـدُس، يَشْعُـرونَ بِـهِ يَمْـلأُ قُلـوبَهُـم، ويُنيـرُ أَعْيُنَهُـم، ويُقَـدِّسُ آذانَهُـم، ويُخْمِـدُ أَفْكـارَهُـم السَّيِّئَـة، فَيُمْنَحـوا الحِكْمَـةَ ويَمْتَلِئـوا بِالنِّـعمَة. يُـعَلِّمُ القِـدِّيـسُ ذِيـاذوخـوس أَنَّنـا بِالمَـعمـودِيَّـةِ نَحصـلُ علـى الـرُّوحِ القُـدُسِ فـي قَلْبِنـا، ونُصْبِـحُ أَعضـاءً فـي جَسَـدِ المَسيـح، لَكِـنَّنـا نَحْجُـبُ هَـذِهِ النِّعْمَـةَ بِـالأَهـواء، دونَ أَنْ نَفقُـدَهـا كُلِّيًّـا. لـذلـك عَلَينـا أَنْ نَـرمِيَ رَمادَ الأَهـواءِ ونَلْتَهِـبَ كالجَمـرِ بِتَطْبيـقِ الـوَصـايـا. ولِكَـيْ يَـلْتَـهِبَ الـجَمرُ بِـشَرَارَةِ النِّعمَـةِ المُقَـدَّسَـة، عَلَيْنـا أَنْ نَنفُـخَ بِقُـوَّةٍ قـائِليـنَ: «رَبِّـي يَسـوع المَسيـح ارْحَمنـي».


يـا أَحِبَّـة، فـي هَـذا العيـدِ المُبـارَك، نَسـأَلُ الـرُّوحَ القُـدُسَ أَنْ يُنيـرَ عُقـولَ مَسـؤولـي بَلَـدِنـا لكي يَعـرِفـوا أَنْ يُمَيِّـزوا بين الخَيـرِ والشَّـرّ، ويَعمَلوا مِنْ أجلِ الخيرِ والحقِّ والعدلِ والصلاح. دُعـاؤُنـا أَنْ يَفْهَمـوا أَنَّ السَّفينَـةَ لا تَسيـرُ بِـلا رُبَّـان، وتُصْبِـحُ قـابِلَـةً لِلغَـرَقِ فـي أَيَّـةِ لَحْظَـة، فَكَـمْ بِـالحَـرِيِّ سَفينَـةُ لُبنـانَ الَّتـي تَفتَقِرُ إلى ربّانٍ، وإلى طاقمٍ ذي اختصاصٍ يُعاونُه. مَـنْ يَعـمَلُ على إنقاذِ البلد، ومَـنْ يَدفَعُ نـحـو الإصـلاحـاتِ الـضَـروريـةِ، ومَـنْ يُطَبِّقُـهـا، إنْ لـم يـكُـنْ هـنـاك رئـيـسٌ وحـكـومـة؟


الأحداثُ تَتَسارَعُ فـي المنطقة، والدولُ تَستجيبُ لمصالِحِها ولحاجاتِ أبنائِها. وحدَه لبنانُ محكومٌ بالفراغِ والضَياعِ والغُموض، فيما شعبُه يعاني ومَوارِدُه تُستَنْزَفْ. نحن بحاجةٍ إلى رجاحةِ العقلِ وبُعْـدِ النظر، إلى حُسْنِ النِيَّةِ وسِعَةِ الصدر. التعطيلُ لم يَعُدْ يُجدي والإستعلاءُ والهيمنةُ لا تَقودان إلى مكانٍ آمنٍ بل تُوَلِّدان ردّةَ فِعْلٍ سلبيةٍ ضارة. من هنا ضرورةُ التَعَقُّلِ وتقديمُ المصلحةِ العامةِ على كلِّ مصلحة. لَـولا نعمةُ الرُّوحِ القُـدُسِ المُعَـزِّي لَكـانَ وَضْـعُ النَّـاسِ أَسـوَأَ مِمَّـا هُـوَ عَلَيْـه. إِنَّنـا مُؤمِنون، لا بَل واثِقـون بِأَنَّ يَـدَ الـرَّبِّ تَعْمَـلُ بِقُـوَّةٍ فـي هَـذا البَلَـدِ، لَكِـنَّ الـرَّبَّ يَنْتَظِـرُ مِـنّـا الـعَـمَـلَ الـدؤوبَ والـسَـعـيَ نـحـو الـخـلاص، كـمـا يـنـتـظِـرُ عَـوْدَتَنا إِلَيْـهِ، بَعْـدَ سقـوطِ الغَشـاوَةِ عَـنْ عُيـونِنا وإدراكِنا أنّ الخلاصَ بِهِ وحدَه.


حَفِظَكُـم اللهُ، الثَّـالـوثُ القُـدُّوسُ، بِنِعْمَتِـهِ الإِلَهِيَّـةِ كُـلَّ حيـنٍ، وأَغْـدَقَ عَلَيْكُـم بَـرَكـاتِـهِ، وأَنـارَ عُقـولَكُـم وقُلـوبَكُـم وكُـلَّ كِيـانِكُـم، لكي تَـسيروا بِمُقْتَضى وَصـايـاه، عـامِليـنَ لِخَـلاصِ نُفـوسِكُـم بِتَـوْبَـةٍ وتَـواضُـعٍ ومَحَبَّـة، بِهَـدْيِ الـرُّوحِ القُـدُس، آميـن". 

MISS 3