أنجان سوندارام

ما سبب الإغفال عن أكثر الحروب دموية في العالم؟

6 حزيران 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

بلدة يسيطر عليها المتمردون في غورديل في شمال جمهورية أفريقيا الوسطى | 12 كانون الأول 2007

في العام 2013، حين سافرتُ إلى جمهورية أفريقيا الوسطى وتجوّلتُ هناك بصفتي صحافياً خلال الحرب الأهلية، اكتشفتُ مجازر غير معروفة على بُعد 5 كيلومترات من مكان تنفيذها. بعد قتل مئات المدنيين بسبب الاشتباه بدورهم في مساعدة الثوار في غرب البلد، تبيّن أن الجنود حطّموا هوائيات الراديو منعاً لانتشار الخبر. وخوفاً من إطلاق ردود انتقامية أخرى، لم يجرؤ السكان على فضح تلك الجرائم. نتيجةً لذلك، لم يوثّق أحد المجازر طوال أشهر.



رغم تلقينا أخباراً عن الحرب في أوكرانيا على مدار الساعة وتجوّل عشرات المراسلين الدوليين في أنحاء البلد، يعجز الصحافيون حتى الآن عن تغطية معظم أحداث عالمنا. لا تظهر أخبار الحرب الحاصلة في جمهورية الكونغو الديمقراطية على الصفحات الأولى إلا بشكلٍ عابر، مع أنها الأكثر وحشية في العالم منذ الحرب العالمية الثانية. وفي أميركا اللاتينية، قُتِل مئات الناشطين البيئيين حين كانوا يدافعون بكل شجاعة عن غابات وجبال وأنهار قيّمة، لكن يمرّ جزء كبير من أخبار قتلهم في أسفل الشاشات خلال نشرات الأخبار. يحصل ذلك لأسباب معروفة: لا يهتمّ الغرب بأماكن يعتبرها بعيدة أو بأعمال العنف التي يتحملها أشخاص لا يشبهوننا. بعبارة أخرى، نحن لا نحزن على جميع الناس بالقدر نفسه.

تتعلق مشكلة أخرى بمرور الأخبار الآتية من أماكن مثل جمهورية أفريقيا الوســـطى والكونغو بلندن أو نيويورك قبل وصولها إلى بلدان مثل نيجيريا والهند، ما يعني أن العالم الغربي يغربل معظم الأنباء الدولية أو يتجاهلها بالكامل. أدى غياب شبكات الأخبار الدولية في الجنوب العالمي إلى ظهور ثغرات كثيرة في التغطية الإعلامية رغم مقتل ملايين الناس خلال أكثر الحروب وحشية في العالم.

يتطلب نقل الأخبار مستوىً هائلاً من الشجاعة الفردية. حين كنتُ أغطي أحداث مدينة «بوار» في غرب جمهورية أفريقيا الوسطى (موقع عسكري استعماري فرنسي سابق)، في العام 2013، قابلتُ رئيس دير محلي، وهو كاهن بولندي اسمه ميريك. أخبرني بأن بلدة «بوهونغ» في أقصى الشمال تعرّضت للهجوم حديثاً، فقد أطلق الجنود النار باتجاه الكنيسة وسرقوا بابها لأخذ الخشب منه. ينام كاهن «بوهونغ» الآن من دون بابٍ يحميه. كان ميريك يخطط للتوجه إلى «بوهونغ» عبر أرضٍ خطيرة يسيطر عليها الثوار لنقل باب جديد إلى ذلك الكاهن. طلبتُ منه أن أرافقه.

في طريقنا إلى هناك، توقف ميريك في مجموعة من القرى وأطلق بوق السيارة. كانت القرى خالية من الناس، فقد هرب السكان إلى الغابات عند سماع صوت المحرك لأنهم اشتبهوا بأننا جنود قَدِموا لنصب كمين لهم.

رداً على صوت بوق السيارة، خرج شخص من وراء المنازل واتجه نحونا ورمى ورقة من النافذة عليّ. يتكرر هذا الموقف في جميع القرى.

نظرتُ إلى الورقة ووجدتُ فيها أسماء مرضى والأدوية التي يحتاجون إليها، فضلاً عن أسماء أشخاص ماتوا أو قُتِلوا، والمواد الغذائية والمياه والمعدات الطبية التي تحتاج إليها القرية. جمع ميريك حوالى ست أوراق مماثلة من القرى وحملها معه إلى «بوار» حيث قدّمها إلى جمعيات غير ربحية ومنظمات دولية غير حكومية أرادت أن تعرف الجماعات التي تحتاج إلى مساعدتها.

انتظرت بلدات كثيرة في جمهورية أفريقيا الوسطى أن يهرب منها الناجون من المجازر لإبلاغ العالم بما حصل هناك. لكن يخشى السكان التكلم حتى لو نجحوا في الهرب. لهذا السبب، لم يعرف أحد بحقيقة المذابح التي شهدتها تلك القرى. حين صدرت تقارير عن تلك الأحداث بفضل شخصٍ نجا من المجازر وكان شجاعاً بما يكفي لإخبار الآخرين بما حصل، انتشرت الأخبار بعد أسابيع على عمليات القتل، ما يعني أن الأوان فات على تقديم المساعدة. رغم التقدم التكنولوجي الذي يشهده العالم، لا تزال الصراعات التي تشبه ما يدور في جمهورية أفريقيا الوسطى غامضة وغالباً ما نجهل هوية مرتكبي الجرائم، أو من يتعرّضون للاعتداءات، أو سبب الصراع الأصلي.

يتعلق إهمال هذا النوع من مناطق الحرب بنظام الأخبار الدولية الذي لا يزال يرتكز على العلاقات الاستعمارية القديمة. يسافر المراسلون الأجانب من عواصم عالمية مثل واشنطن ولندن إلى أماكن متشابهة بدرجة معينة وفي الأوقات نفسها تقريباً لتغطية قصص مشتركة. في المقابل، يجد الصحافيون والمراسلون المحليون صعوبة في بيع تقاريرهم الإخبارية المهمة. في معظم الحالات، يصل مراسل أجنبي إلى مكان لا يعرف عنه معلومات كثيرة ويتلقى راتباً ضخماً مقابل تسليط الضوء على صراع معيّن وتحويله إلى حدث مهم بالنسبة إلى الجمهور الغربـــــي. لكن تكثر شوائب الأخبار التي ينقلها المراسلون المشاهير من حيث النوعية ونطاق التغطية.

كتبت الفيلسوفة الأميركية جوديث باتلر أن وسائل الإعلام تُصوّر بعض الحروب وكأنها لا تستحق التعاطف والسخط بقدر غيرها. تدمّرت شعوب كاملة في أماكن معينة، لكنها تكتب أن «أحداً لا يشعر بوقوع أعمال مشينة أو تكبّد خسائر فادحة هناك». تُجسّد صحافة «الباراشوت» العشوائية اللامساواة العالمية التي تتكلم عنها باتلر. هي ترسّخ ظاهرة إهمال الصراعات وتزيد صعوبة تغطية جرائم القتل البعيدة.

بما أن وسائل الإعلام المحلية في جمهورية أفريقيا الوسطى تتلقى معلومات قليلة من المناطق الريفية وتعجز عن تمويل نفقات سفر المراسلين، كان يصعب تحديد مكان جبهة القتال هناك. أخبرني مراسل من أفريقيا الوسطى اسمه تييري ميسونغو عن حصول مجزرة محتملة على بُعد 250 كيلومتراً من العاصمة بانغي. لكنه لم يكن يملك سيارة. لذا قصدنا المكان معاً وشاهدنا هناك وصول جنرال من الجيش إلى الأدغال لمهاجمة الثوار المختبئين في بلدة نائية.

احتجتُ إلى بضعة أيام للوصول إلى تلك البلدة على دراجة نارية والتوغل في الغابات. أضرم ذلك الجنرال النار في البلدة، وسرعان ما تفحمت أسقف المنازل المصنوعة من قش. بقي الطعام الدافئ في الأطباق، وتناثرت الملابس عشوائياً أثناء هرب الناس من الغابة. بدت البلدة فارغة. صرخ تييري أننا لسنا جنوداً كي يتمكن سكان البلدة من الخروج بكل أمان.

خرجت امرأة ترتدي قميصاً أحمر اللون من الغابة. شاهدها الآخرون وهي تهرب، وعندما لاحظوا أننا لم نؤذها، لحقوا بها وخرجوا من مخبئهم. كان لافتاً ألا يطلبوا مني الطعام أو الدواء فور رؤيتي، بل إنهم سألوني إذا كان الناس يعرفون بظروفهم. إنه السؤال الذي طرحه الناجون من محرقة اليهود على الجنود الأميركيين والحاخامات الذين حرروا معسكرات الاعتقال.

كان تأمين الطعام مهماً بقدر نقل المعلومات على ما يبدو. إذا عَلِم الآخرون بجرائم القتل، يأمل السكان أن يتلقوا المساعدة من شخصيات مؤثرة. هذه هي قوة الصحافي الذي يكتفي بالحضور إلى مكان الصراع. لا يستطيع المراسلون أن يضعوا حداً لعمليات القتل أو ينهوا الحرب، لكنهم يستطيعون تخفيف حدّة جرائم الحرب لمجرّد أن يشاهدوا مرتكبي تلك الفظائع. يمنع حضورهم استغلال السلطة ويُسهّل محاسبة أصحاب النفوذ.

لكن لن يكون حضور الصحافيين وحده كافياً. يجب أن نغيّر الأساليب الاستعمارية المستعملة لنشر الأخبار الدولية. ويُفترض أن تزيد ثقة الجنوب العالمي بأهمية أخباره وأحداثه بالنسبة إلى العالم. كذلك، يجب أن ترسل البلدان الأفريقية الغنية، مثل نيجيريا وكينيا وجنوب أفريقيا، مراسلين إلى جمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو. ويستطيع المراسلون البرازيليون مثلاً أن يجروا تحقيقات حول المدافعين عن البيئة في المكسيك، علماً أن نشرات الأخبار المحلية هناك تغفل عن جرائم القتل التي يتعرضون لها.

في المقابل، يجب أن يتمتع المسؤولون عن نشرات الأخبار الغربية بالتواضع كي يعترفوا بنقاط ضعفهم، فيتمكن المراسلون المستقلون الذين يذهبون لتغطية صراعات بعيدة من إيجاد وسائل أكثر سهولة لنشر أخبارهم بدل التخبط بسبب قرارات محررين لم يعتادوا على تغطية هذا النوع من الحروب ثم يفضّلون لاحقاً الاستخفاف بأهمية تلك الأحداث. بعبارة أخرى، تبرز الحاجة إلى التشكيك بقوة الأخبار العالمية وموضوعيتها أو حتى تفكيكها لإعادة بنائها.

زادت أهمية هذا العامل تزامناً مع اندلاع صراع أساسي آخر. وفق معطيات المنظمة الدولية غير الربحية «غلوبال ويتنس»، قُتِل 1700 مدافع عن البيئة حول العالم خلال العقد الماضي. يتركّز ثلثا تلك الجرائم في أميركا اللاتينية. يخوض هؤلاء أكبر صراع في هذا العصر من خلال الدفاع عن البيئة. قد يكون هذا الصراع من أهم الأحداث التي يُفترض أن ينقل الصحافيون أخبارها لحماية أشخاص شجعان يجازفون بحياتهم لحماية الأنهار والغابات والتنوع البيولوجي في كل مكان.

حتى الآن، لا يزال نظام الأخبار الغارق في اللامساواة الاستعمارية يخذلنا في هذا المجال أيضاً، فهو يغطي أخبار هؤلاء الأبطال بطريقة محدودة نسبياً. هذا الوضع يجب أن يتغير. بدأت تغطية الحروب المعاصرة تطرح المخاطر اليوم أكثر من أي وقت مضى لأنها تؤثر على صمودنا الجماعي. يجب أن نغطّي جميع الصراعات الكبرى حول العالم إذاً، فلا نكتفي بحماية المعرّضين للخطر بل ندافع أيضاً عن عالم طبيعي له دور أساسي في ضمان استمراريتنا.


MISS 3