أفكارك تُغيّر طريقة استجابتك للطعام

02 : 00

بدأت مجموعة متزايدة من الأبحاث تستكشف التفاعل بين مشاعرنا تجاه المأكولات والاستجابة الفيزيولوجية التي يطلقها الجسم بعد تناولها، بما في ذلك الهرمونات التي ينتجها أو الأعراض الناشئة على مستوى الجهاز الهضمي. أطلق العالِم ديفيد روبسون تسمية «أثر التوقّع» على هذه الظاهرة في كتابه The Expectation Effect الذي حقق أعلى المبيعات في العام 2022، ويشير هذا المفهوم إلى قدرة أفكارنا على تغيير استجابة الجسم. أصبح أثر الدواء الوهمي معروفاً في مجال الأمراض، لكن يتوق العلماء إلى استكشاف دوره في الصحة عموماً والتغذية خصوصاً.



بدأت الفكرة القائلة إن موقفك من الطعام أهم من قيمته الغذائية تلقى رواجاً متزايداً، وهي محور بحث جديد نشرته «المجلة الأميركية للتغذية العيادية». لوحظ تباطؤ معدلات تفريغ المعدة لدى مشاركين كانوا مقتنعين بأن السائل يتحول إلى مادة صلبة عند هضمه، ما يعني تباطؤ حركة محتويات المعدة نحو الأمعاء والشعور بالشبع لفترة أطول. نتيجةً لذلك، استهلك هؤلاء على مر اليوم سعرات حرارية أقل بـ400 سعرة من الذين اعتبروا السائل مشروباً عادياً. يذكر روبسون في كتابه: «حين نفكر بالأمر، من الغباء أن نتجاهل الجوانب الفكرية والعاطفية والثقافية لما نأكله، مقابل التركيز بشكلٍ حصري على المحتويات الغذائية في المأكولات». ما هو العامل الذي كنا نغفل عنه إذاً؟

مشاعر معوية

يتعلق تفسير أولي بمحور الأمعاء والدماغ. تصدرت المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع عناوين الأخبار في السنوات الأخيرة نظراً إلى تأثير الجهاز الهضمي على المزاج. تُصنّع الأمعاء 95% من هرمون السيروتونين، وهذا ما يفسّر الرابط بين تنوّع الأمعاء وسعادة العقل. لكن يجب أن يكون التواصل بينهما متبادلاً. تقول آني كومبز، خبيرة تغذية ومديرة «عيادة صحة الأمعاء» في لندن: «يسهل التركيز على الحمية الغذائية ونسيان تأثير الدماغ الهائل على الأمعاء. في التجارب العيادية، نحن لا نسارع إلى حذف بعض الأغذية أو إحداث تغيرات غذائية أحياناً، بل نُركّز على استهداف محور الأمعاء والدماغ عبر ممارسات مثل التأمل المبني على الاسترخاء الذهني لتحسين الأعراض المعوية».

يعطي هذا المحور مفعوله عبر الجهاز العصبي الداخلي، وهو عبارة عن شبكة من الخلايا العصبية والأعصاب التي ترسل الإشارات إلى الأمعاء. تتعلق واحدة من أهم الإشارات التي يتلقاها الجسم بالضغط النفسي الذي يستطيع تنشيط الجهاز العصبي الودي (استجابة الهرب أو المواجهة) أو الجهاز العصبي السمبثاوي (الراحة والهضم). توضح كومبز: «عند تشغيل استجابة الهرب أو المواجهة، يعيد الجسم توجيه تدفق الدم بعيداً عن الأمعاء، ما يؤدي إلى وقف عملية الهضم. نتيجةً لذلك، يؤدي الأكل في تلك الحالة المضطربة إلى ظهور مشاكل هضمية تتراوح بين النفخة والإمساك أو الإسهال. من المستبعد أن تُسبّب لحظات الضغط النفسي الغريبة والعابرة (كأن ينزلق هاتفك مثلاً في المرحاض فجأةً) مشاكل كثيرة، لكنّ الضغط النفسي المزمن قد يُحدِث تغيرات دائمة في الجهاز العصبي. يؤدي الإجهاد المزمن في بعض الحالات إلى اختلال توازن الجراثيم في الأمعاء، فضلاً عن وقف إطلاق الأنزيمات الهضمية المسؤولة عن تفكيك المأكولات وامتصاصها».

لنحلل مثلاً تداعيات الضغط النفسي المرتبط بالزواج التعيس. تذكر دراسة من العام 2018 أن من يختبر زواجاً مضطرباً تصبح أمعاؤه أكثر قابلية للاختراق من الذين يعيشون علاقة زوجية سعيدة. وبما أن قابلية اختراق الأمعاء تعني إضعاف الجدران المعوية والسماح بتسرّب المغذيات والجراثيم، قد تؤثر هذه الحالة على المغذيات المشتقة من المأكولات. عندما راجع باحثون من جامعة «مردوخ» في أستراليا التقلبات الحاصلة في كمية المغذيات الدقيقة في الجسم بسبب مجموعة من العوامل النفسية والبيئية، اكتشفوا أن الضغط النفسي استنزف الفيتامينات والمعادن، بما في ذلك الزنك، والحديد، والمغنيسيوم، والكالسيوم، والنياسين. تتعدد أسباب هذا الخلل، منها طريقة استعمال الزنك في الجسم لتخفيف الالتهاب الناشئ خلال اللحظات العصيبة، لكن ينسب الباحثون هذه المشكلة أيضاً إلى التغيرات المعوية التي تؤثر على امتصاص المغذيات عند هضم الطعام.

الأكــــــل الــــــعـــــــاطــــــفــــــي

إذا كنت تريد امتصاص جميع المغذيات من البطاطا المشوية على الغداء مثلاً، يجب أن تتخلص أولاً من قلقك بشأن اللاكتوز الموجود في الزبدة التي أضفتها إلى هذا الطبق قبل بدء الأكل. تطرح حالات عدم تحمّل الطعام مشاكل حقيقية، لكنّ القلق من تأثير بعض المأكولات قد يزيد الانزعاج سوءاً. في دراسة إيطالية من العام 2012، أعطى الباحثون 15 غراماً من الحليب إلى مشاركين كانوا يظنون أنهم مصابون بعدم تحمّل اللاكتوز (بلغ عددهم الإجمالي 102)، ثم أخضعوهم لاختبار تنفّس يُستعمل لتشخيص سوء امتصاص اللاكتوز ومراقبة أعراض المشكلة. ظهرت أعراض عدم تحمّل اللاكتوز لدى 29% من المشاركين، لكن لم يكن أحد منهم مصاباً بسوء امتصاص اللاكتوز. نتيجةً لذلك، استنتج الباحثون أن إقناع الذات بوقوع مشكلة يكفي لإنتاج الأعراض الشائكة.

تدعم المعطيات العلمية أيضاً النظرية القائلة إن الاضطرابات الهضمية، مثل متلازمة القولون العصبي، ترتبط بالقلق من الطعام والأكل العشوائي. يذكر تقرير علمي من العام 2016 أن مراهقين مصابين بمتلازمة القولون العصبي كانوا أكثر ميلاً بكثير إلى الامتناع عن الأكل، واستهلاك سعرات أقل من غيرهم، واللجوء إلى سلوكيات غير صحية للسيطرة على الأعراض. لكن لا بد من التساؤل في هذه الحالة: هل يدفع القلق من تفاقم المشكلة إلى حصر المأكولات المستهلكة، أم أن الناس يجدون صعوبة في هضم بعض الأغذية لأنهم يقلقون من آثارها؟ لا يمكن طرح جواب جازم بناءً على الأبحاث الراهنة، لكن يستحيل إنكار الرابط بين العاملَين.

كيف يمكن تعديل الحمية الغذائية إذاً انطلاقاً من هذه الاستنتاجات؟ في المقام الأول، يحذّر معظم الخبراء الناس من اعتبار طبق الخس وحده وجبة مغذية. تقول الدكتورة نعومي ميدلتون، عالِمة نفس عيادية متخصصة بأمراض الجهاز الهضمي: «لن يستفيد أحد من إقناع نفسه بأن المأكولات قليلة السعرات ستكون كافية لإشباعه على المدى الطويل، بل إن محاولة خداع الجسم لن تكون طريقة فاعلة لمعالجة الذات، ويزيد هذا النوع من القيود مخاطر الإصابة باضطرابات غذائية. كذلك، يجب ألا نطبّق مقاربة متطرفة لتناول أغذية صحية بامتياز. تسود فكرة مفادها أن الصحة مرادفة للنحافة، ما يعني أن الغذاء لا يكون صحياً إلا إذا كان قليل السعرات الحرارية. لكنها مقاربة شائكة. قد تؤدي محاولة تطبيق هذا النوع من الأنظمة الغذائية إلى الشعور بالحرمان، فتصبح المأكولات الممنوعة مرغوبة وفاتحة للشهية أكثر من أي وقت مضى». تذكّر إذاً أن الهدف الحقيقي يتعلق بتقدير قيمة جميع المأكولات المستهلكة والتصالح مع فكرة استهلاكها.

تقضي خطوة أولية مفيدة بإعادة صياغة الصفات التي تنسبها في لاوعيك إلى الطعام، ما يعني الامتناع عن تصنيف الأغذية بين «جيدة» و»سيئة» والتركيز على منافعها. في هذا السياق، تقول إميليا تومسون، خبيرة تغذية متخصصة بالاضطرابات الغذائية: «أفضل ما يمكنك فعله هو التفكير بما يقوم به الطعام لتغذيتك، بدل معاقبتك. ابدأ بالتركيز على المتعة التي تشعر بها عند تحضير أطباق لذيذة، لأن شعور المتعة يرتبط بتراجع مستويات الغريلين (يكون انخفاض نسبته مرادفاً لتراجع الشعور بالجوع). إذا أردت تحضير السلطة مثلاً، أضف إليها كمية من الزيت المفضل لديك لتحسين النكهة، ووزع بعض الإضافات اللذيذة لتحسين تركيبتها. إنهما عاملان أساسيان. يكتب روبسون في كتابه: «نكهة الطعام وتركيبته مهمتان جداً لأنهما تزيدان متعة الأكل، ما يعني تعزيز الشعور بالشبع وتقوية الاستجابة الهرمونية تجاه الطعام».

كما يحصل عند تغيير أي نظام غذائي، لا يسهل تطبيق هذه القواعد دوماً. لكننا نستطيع التحكم بالقصص التي نُقنِع أنفسنا بها بشأن الطعام، وبالتالي يمكننا أن نتذكر إلى أي حد نحن محظوظون لأننا نستطيع الحصول على الأغذية التي نفضّلها ويمكننا أن نختار ما نريد استهلاكه.

باختصار، ثمة رابط واضح بين المأكولات التي تُشبِعك ومشاعرك تجاهها. حتى أن الثقافة التي تربيتَ عليها وطريقتك في طبخ الأطباق تؤثر على المغذيات المشتقة من المأكولات التي تستهلكها. لكن تبقى الفكرة القائلة إن تحسين الصحة لا يتعلق بنوعية المأكولات المستهلكة بكل بساطة بل بمشاعرك تجاه الطعام قوية ومؤثرة. اختر مأكولاتك إذاً بطريقة صائبة واحمل مشاعر إيجابية تجاهها دوماً. في النهاية، سينعكس رأيك بما تأكله على وضعك العام.


MISS 3