جورج بوعبدو

عملٌ مبتكر وفؤاد يمّين مُبهرٌ كعادته

"أرنب أبيض أرنب أحمر" للإيراني نسيم سليمانبور على مسرح "مونو"

8 حزيران 2023

02 : 01

مشهد من نهاية العرض

من قصد مسرح «مونو» لحضور أمسية من «مهرجان ربيع بيروت» في دورته الخامسة عشرة التي تقدّمها مؤسسة سمير قصير لمس بأمّ العين أهمية وجود مساحة تحتضن شباب لبنان المحروم من أدنى مقوّمات الحياة الكريمة.



من أجواء المسرحية




الدخول مجاني طبعاً أما المسرحية فعرض أول لمسرحية «أرنب أبيض أرنب أحمر» للمخرج الإيراني نسيم سليمانبور، برعاية مؤسسة فريديريك ناومن. أما البطولة فمشتركة لفؤاد يمّين و... لا داعي للهلع: للحضور.

كان طبيعياً أن تكتظّ الصالة لمجرّد وجود اسم يمّين على ملصق الحدث، كثر جاؤوا من بعيد لحضوره، فالرجل البارع والمحبوب جماهيرياً قادر وحده على تحريك المئات فيتركون أشغالهم ويخصّصون وقتاً ثميناً من أمسيتهم لمشاهدته على المسرح. الأعداد الكبيرة كانت متوقّعة إذاً، لكن ما لم يكن في الحسبان هو ألا تسع المقاعد كمية المتدفّقين الى الصالة فرأيتهم أفواجاً متجمهرة أمام باب الدخول كأنهم أمام مركز إعاشة يتسابقون على رغيف خبز. امتلأت المقاعد بسرعة البرق. أين يجلس الباقون إذاً؟ معظمهم يحمل بطاقة عرضٍ وبعضهم امتعض لحضوره باكراً وعدم إيجاده مكاناً للجلوس: «أتينا باكراً قبل ساعتين من العرض فقالوا لنا إنّ الصالة فوّلت» تصيح سيدة بصوتٍ عالٍ. تتدخّل مديرة «مونو» النشيطة جوزيان بولس لإنقاذ الموقف طالبةً من الناس الجلوس على الأدراج، «المشهد هذا يثلج الصدر» تصرخ جوزيان بابتسامةٍ عريضة. تعطي تعليماتها بوضع بعض المقاعد للجمهور على المسرح بحدّ ذاته فحلّت بعضاً من المشكلة. جميلة كانت هذه الظاهرة. كأنها صفعة لأتباع نظرية «الجمهور عايز كده» من مناصري المسلسلات المبتذلة والأعمال دون المستوى التي تبرر بترّهات «الرايتينغ». أجمل ما في تلك الليلة هي إعادتها ثقتنا بجيل الشباب اللبناني المسؤول وحده عن إعادة البلاد الى السكة الصحيحة، فقد اختار المسرح بدل التسكّع في الحانات أو مشاهدة مسلسلات تافهة، اختار بساطة المسرح وعمقه على بريق الشاشات وأضواء الملاهي. لم يكن الأمر غريباً فقد برهنت بولس أساساً للجميع منذ استلمت «المونو» أن المسرح نابضٌ في لبنان، شرط وجود ربّان يقود السفينة الى الوجهة الصحيحة، وشرط التحلّي بالعزم والنشاط وهو ما لا تخلو منهما ابنة جان كلود بولس المحترفة.



نسيم سليمانبور




لم يكن العرض تقليدياً. فيمّين لا يتّكل على نصّ تمرّن عليه قبل العرض وهو ما يحصل عادة في العروض المسرحية. فهذه ليست ليلة تقليدية ولا مسرحية كالمتعارف عليها. فيها ابتكارٌ ممتع ولذيذ. لم يقل المخرج ليمّين سابقاً كيف يتصرّف أو يتحكّم بلغة الجسد أو نبرة الصوت. لم يكمل الكاتب الرؤيوي سليمانبور التجنيد فحُرم من جواز السفر. يقرّر كتابة نصّ يرسله الى جميع أنحاء العالم بدلاً منه كونه مقيّد الحرية. هو فعل تمرّد إذاً بانتقاله بقوّة المسرح من بقعة الى أخرى. يطلب سليمانبور من يمّين التقيّد بتعليماته. سيقرأ إذاً نص السيناريو تلك الليلة فقط، أمام الجمهور مباشرة، ومن دون تحضير مسبق. لم يفشل الممثل الموهوب طبعاً في المهمة فهو يبرهن في كل مرة بأنه ممثل من الدرجة الأولى لا سيّما من حيث دهاؤه في حسن انتقاء ما يقدّمه من أعمال، فكلّ ما يحمل توقيع يمّين أو بصمته المميّزة يترك صدىً إيجابياً. يشرح يمّين للحاضرين أنه لا يعرف محتوى السيناريو طالباً إليهم التصفيق له إن أعجبهم أداؤه والمغادرة إن لم يرق لهم ما يقدّم. ومن تعليمات المخرج أن يأخذ يمّين علماً بوجود كأسين على طاولة على المسرح تحتوي إحداهما على سمّ دُسّ فيها سيختار هو بينهما في نهاية المسرحية فيحدّد مصيره باختياره. يشرك يمّين تفاعلياً الناس في اللعبة فيطلب من حاملي البطاقات مراجعة الرقم المدوّن على بطاقاتهم منادياً أصحاب الأرقام للصعود الى المسرح كلّ بحسب رقمه للمشاركة في العرض، فتحوّل البعض الى أرنبٍ أو دبّ أو مدوّن ملاحظات، هكذا من دون «إحمّ ولا دستور»، وكان الجمهور في كلّ ما يطلبه إليه يمّين مستمتعاً وملبّياً بلا تردّد.



يقرأ يمّين النص على نحو ارتجالي، بسرعة وسلاسة منقطعة النظير، مترجماً إيّاه فورياً على شكل حوارٍ بينه وبين الحاضرين جاعلاً الجميع يتساءل عمّا إذا كانوا من الممثلين أم مجردّ مشاهدين للعرض وكل ذلك مع ترجمة للنص بالانكليزية في خلفية المسرح. وهكذا يستمرّ العرض على نحو ساعة وربع وسط جوّ من الترقّب والمتعة الى حين انتهاء النص وقراءة الورقة الأخيرة من السيناريو، ليختتم بعدها يمّين العرض بشرب كوب الماء، بناء على طلب الجمهور غير العالم بدوره عمّا إذا كان السمّ في الكوب الأول أم في الثاني. وفي نهاية المشهد يتمدّد يمّين على الأرض، تماماً كما طلب إليه المخرج. «لن تتحرّك قبل مغادرة آخر الحضور الصالة»، يوصيه المخرج. وهكذا فعل فلم يحرّك ساكناً لأكثر من ربع ساعة محيّراً الجمهور في ما إذا كان الأمر جزءاً من اللعبة أم إذا كانت تلك النهاية فعلاً، ولم يستفق لحين خروج الجميع من الصالة!




مع مشاركة الجمهور



ملصق المسرحية




MISS 3