بقلم الشيخ زهير الدبعي

إلى روح وليد صلَيبي.. عهدٌ ووعد

9 حزيران 2023

15 : 39

جرى نقاش مع إخوتي في مجموعتنا المقاومة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1969 حول موقفي بعدم استهداف المدنيين الإسرائيليين خلال مقاومتنا للآلة الحربية الإسرائيلية التي احتلت مزيداً من وطننا وفرضت القوانين العسكرية وسيطرت على مياهنا وعرقلت وأربكت حياتنا اليومية. ولما فشلت في إقناعهم بعدم استهداف المدنيين الإسرائيليين بعد أن تمسّكوا برأيهم القاضي بعدم وجود مدنيين إسرائيليين لأن كل إسرائيلي -حسب رأيهم- هو عسكري في إجازة، وجدت نفسي أؤكد موقفي قائلاً: "إذن لن نستهدف العسكريين المجازين". كنت في العام 1969 شاباً في مقتبل العمر، ولم أسمع بعد عن غاندي ولا تولستوي ولا مارتن لوثر كينغ ولا بالراحل الكبير وليد صلَيبي1 ورفيقة دربه الدكتورة أوغاريت يونان، ولا أي من المفكرين اللاعنفيين من كافة الأعراق والأديان وفي مقدمتهم الشيخ الأزهري المفكر جودت سعيد.


ولدى دعوتي إلى لبنان في العام 2004 للتدرب على اللاعنف مع متدربين من مصر وسوريا والعراق ولبنان والأردن، شاركت في محاضرات وتدريبات عميقة وغنية، ومع ذلك بقيت كلمة (لا عنف) غير مستوعبة بالقدر الكافي لدي، وفضلت استخدام ما وجدته في حينه مصطلحاً أفضل وهو (المقاومة المثمرة). بقيت أمام عالم كنت أجهل أعماقه وتفصيلاته وكثير من الحقائق التي خطط لها وأشرف على تنفيذها الراحل الكبير وليد صلَيبي. ولم تبق العلاقة الطيبة معه علاقة التلميذ بالأستاذ، لأن روحه وشخصيته الودودة المؤثرة الجذابة جعلت من علاقته مع أوساط كثيرة ومتنوعة علاقة صديق ورفيق درب، وأصبحت المقاومة اللاعنفية مكونا أساسيا من مكونات شخصيتي وتفكيري، ما جعلني أدرك بدرجة أعمق الأهمية البالغة لانتفاضة العام 1987 التي تواصلت بقوة ووعي وعنفوان لعدة أعوام قبل نجاح المحتلين في عسكرتها وحرفها عن مسارها.


عاش وليد صلَيبي مناضلاً من أجل العمال والنقابات والفقراء وكل القضايا العادلة في العالم وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي خصص لها كتابا بعنوان" نعم للمقاومة لا للعنف"، واختار الطريق الأصعب بعيدا عن المناصب والمسميات التي كان ليحصل عليها بكل سهولة لو أرادها، لتكون حياته كلها تعبير عن رؤيته للحياة وانتمائه للإنسانية، إلى أن توّج نضالاته في تأسيس جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان "أونور" في لبنان في العام 2014، لإحداث إصلاح في تفكير وقيم وسلوك طليعة من النساء والرجال الذين أدركوا خطورة الطائفية والعنف والإذعان، لأن اللاعنف يعني أولا "لا" كبيرة لعنف الاحتلال والطاغية ومشعلي الحروب ولا ثانية ضد طغيان النفس البشرية، حيث يقول مفكرنا الكبير:" فيما قد يستخدم كل من العنف واللاعنف في مواجهة طغيان الآخرين، وحده اللاعنف يستطيع مواجهة طغيان الذات". وهذه الحكمة رددتها عشرات المرات خلال خطبي في المساجد لقناعتي أن رسالة الدين لا تتوقف عند حدود الصدق والأمانة والزهد والتواضع فقط، لأن لها مكونات أساسية أخرى كالوعي والمعرفة والحكمة وسعة الأفق ويجب أن تكون وقودا لمواجهة الاحتلال والفساد والآفات الاجتماعية أيضا.


وبقدر أهمية اللاعنف للفلسطينيين وغيرهم من ضحايا الاحتلال والعدوان والعنصرية في هذا الكون، فإن معظم من لهم مصلحة حقيقية في اللاعنف لا يدركون حقيقة أن عنف المظلومين يشرعن لا بل يقويّ عنف الظالمين ويمنحهم فرصا إضافية لإشعال الحروب وتأجيج الطائفية.


ولقيت جهودي في توعية المظلومين خلال خطب الجمعة والدروس في المساجد صعوبات، لأن من يقولبون الخطاب الديني مسخوا الجهاد في السيف والبندقية، رغم أن معظم آيات الجهاد في القرآن الكريم تعني آفاقا واسعة كمقاومة الاحتلال والظلم والفساد بأسلحة قوة الايمان والشجاعة والرباط.


وكما أن السدود وفّرت للناس والحيوانات والأشجار فرصا للنمو والحياة، فإن جامعتنا "أونور" الفريدة في رسالتها التي أسسها الراحل وليد صليبي ورفيقة دربه الدكتورة أوغاريت يونان، ستسهم في تحقيق غايتين كبيرتين في آن، هما: رفض العنف والظلم الذي طحن أجيالا في وطننا والعالم، ورفض الإذعان للعنف والظلم سواء كان داخليا أو احتلالا خارجيا. سيأتي يوم يدرك فيه جيل أولادنا وأجيالنا القادمة أهمية الرسالة التي جاهد لتحقيقها وليد صليبي، كي يتخلص كل إنسان من الطائفية والاحتلال والفساد.


سلامٌ على تلك الروح العظيمة، سلامٌ على شجاعتك ونضالاتك، سلامٌ على معلّمنا المناضل وليد صلَيبي وعلى كل من ساروا على الدرب.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 وليد صلَيبي، المفكر والمناضل اللاعنفي، الذي رحل في 3 أيار 2023 بعد صراع مع المرض لعشرين سنة؛ هو من روّاد تجديد المجتمع المدني في لبنان منذ الثمانينات، مؤثر في أجيال على مدى أربعة عقود، ومؤسِّس جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان الأولى من نوعها عالميًا.

MISS 3