توفيق شمبور

إنتهاكات مصرف لبنان لقانون النقد والتسليف وقانونَي التجارة والعقوبات... والدستور

28 مخالفة فاقعة أسّست للإنهيار النقدي والمصرفي... وفاقمت تداعياته

12 حزيران 2023

02 : 00

* فرّط مصرف لبنان باستقلاليته وانصاع لطلبات الدعم، وهو يعلم ان الأموال عرضة للضياع التام

* أي محاكمة للسياسيين ستضمن إشراكه هو ايضاً لأنه تدخّل لمساعدتهم في ارتكاباتهم ومفاسدهم

* موّل الدولة من دون توفر الشروط اللازمة لذلك، ومن دون أي عقد واضح أقره مجلس النواب

* فرض ليلرة الودائع والهيركات وسقوف السحوبات من دون أي مسوّغ قانوني... لا بل خالف الدستور

* لا يحق له إصدار شهادات إيداع على النحو الذي أصدره وأغرى به المصارف بفوائد عالية

* عرّض المصارف لمخاطر منح الاعتمادات لشخص واحد بما يتعدّى حدّاً معيناً من الأموال الخاصة

* لا يحقّ لمصرف لبنان ان يفرض على المصارف توظيفات إلزامية بالعملات الأجنبية

* الشيخ ميشال الخوري رفض المقامرة بأموال الناس للدفاع عن الليرة، أما سلامة ففعلها 

* تحكّم بالتسليف للقطاعين العام والخاص على نحو لا ولم ولن يعرفه أي مصرف مركزي معاصر

* منح المصارف قروضاً لتيسير حالات الدمج من دون أن تكون هناك عمليات دمج فعلية

* شجّع المصارف على تحويل الأموال للنافذين وكبار المساهمين ومديري المصارف وغيرهم

* توقّف 10 سنوات عن إصدار ونشر التقارير السنوية ثم نشرها مجتزأة من دون توقيع مفوّض الرقابة



يرى Paul Volcker أن القوة الفريدة للمصرف المركزي هي القدرة على خلق النقد. بالمقابل القدرة على الخلق هي قدرة ايضاً على التدمير. ومؤشرات الامر الاخير تتجلى عند البدء بمخالفة الاحكام القانونية التي ترعى عمل المصرف المركزي. المتتبّع لأداء مصرف لبنان خلال العقود الثلاثة الماضية يلفته كمّ التجاوزات الفاقعة للعديد من مواد قانون النقد والتسليف وغيرها يمكن عرضها كالتالي:

المادة 13

تذكر هذه المادة ان مصرف لبنان هو شخص معنوي من القانون العام ويتمتع بالاستقلال المالي. وتوضح الاسباب الموجبة لقانون النقد والتسليف في شروحاتها للمادة المذكورة انه «عند وضع قانون المصرف المركزي ونظامه كان أول همّ للحكومة إستقلال هذه المؤسسة وفعاليتها كي يتسنّى لها القيام بمهمتها بتجرد وفي اتجاه مصالح البلاد الدائمة· فلا منح الامتياز ولا منح الرأسمال من قبل الحكومة يجب ان يجعلا من المصرف المركزي مصلحة تابعة للحكومة»· للأسف لم يتم التقيد بهذه الاستقلالية والدليل الفاقع انصياع مصرف لبنان لطلبات الدعم التي املتها عليه مختلف الحكومات مع علمه اليقين بان اموال الدعم عرضة للضياع في حال تسجيل عجوزات وازنة ومتتالية في ميزان المدفوعات، وانهيار نظام Ponzi المعتمد بحيث لن يكون هناك امكانية لردها للمصارف وبالتالي لأصحابها المودعين.

المادة 81

تشير هذه المادة فقط الى اصدار شهادات ايداع مقابل الذهب الذي يتم ايداعه لدى مصرف لبنان. وقد استند الاخير في القرار الاساسي رقم 7534 على الفقرة 6 من هذه المادة لاصدار شهادات ايداع بكثافة بالعملات الاجنبية لاستقطاب ودائع المصارف علماً ان نص الاخيرة لا يجيز هذا الامر. إذ يشير الى «فتح حسابات لمصارف مركزية ولمصارف اجنبية ولمؤسسات دولية وان يكون عميلاً لهذه المصارف والمؤسسات».

والفقرة 7 التي تليها والتي هي ما يمكن التأسيس عليها تتناول حالتي اقراض واستقراض مصرف لبنان بالعملات الاجنبية من المصارف المركزية والمصارف والمؤسسات المالية الاجنبية والمؤسسات المالية الدولية، شرط ان يكون الاستقراض (1) لمدة قصيرة الاجل و (2) وضمن نطاق مهامه كمصرف مركزي من دون اية اشارة الى الاستقراض من المصارف اللبنانية وهي المعنية الاساسية بموضوع اكتساب شهادات الايداع.

ما يظهر بوضوح ان عملية استجرار مصرف لبنان لودائع المصارف من العملات الاجنبية قد حصل، ما خلا حالات الـ Euro CD، خلافاً للقانون وبتفسير مشوّه لاحكام النص القانوني الذي تمّ الاستناد اليه.

المادة 98

تنص هذه المادة بوضوح ان مصرف لبنان لا يمنح فوائد على ايدعات المصارف لديه. مع استثناء وحيد تذكره المادة (76 – فقرة و) يتعلق بالايداعات بالليرة اللبنانية حصراً. والذي حصل ان مصرف لبنان لم يتقيد بالحظر السابق اذ اقرن هندساته المالية واصداراته لشهادات الايداع بالعملات الاجنبية بفوائد جد مرتفعة. وقد ذكر عضو جمعية المصارف تنال الصباح بالصوت والصورة ان مصرف لبنان قال للمصارف: يللي بيجيب 100 مليون دولار من زبائنه بعطيه فوراً 35 مليون دولار وكل سنة 5 أو 6 ملايين دولار. وحصلت الامور بآلية Ponzi التي اعتبرها الرئيس ماكرون في مؤتمره الصحافي الذي عقده في 27 ايلول 2020 ترتيباً مالياً احتيالياً un montage financier frauduleux يقوم على ايفاء المستحقات من الاموال الجديدة المستقدمة. ومعروف ان الغش والاحتيال يفسد كل شيء حسب القاعدة اللاتينية الشهيرة Fraus Omnia Corrumpit وترجمتها الى الفرنسية.la fraude corrompt tout

المادة 121

تهافت المصارف على الهندسات المالية وعلى اكتساب شهادات الايداع من مصرف لبنان مقابل تجميد ودائع بالعملات الاجنبية لديه لآجال مديدة، ونظير معدلات فوائد مجزية، أفضى الى تشوه خطير وهو تركيز ما نسبته ما بين 70 و80% من الودائع المذكورة لدى مصرف لبنان. الامر الذي يخالف المادة 121 من قانون النقد والتسليف التي تنص على ان موضوع المصرف التجاري استعمال الودائع التي يتلقاها من الجمهور في عمليات تسليف، لا توظيف في الاصدارات. وايضاً خلافاً لمنطوق المادة 2 من القرار 649 الذي يحظر على المصارف التجارية منح الاعتمادات لشخص واحد في ما يتعدّى حدّ معين من الاموال الخاصة، وغيره من القرارات المتعلقة بالتحوط من المخاطر على رأسها مخاطر السيولة والتعثر. أمر تلمسته باكراً فروع المصارف الاجنبية التي تطالب اداراتها منها الالتزام بسقوف محددة للانكشاف على الديون السيادية وتكوين المؤونات العالية لهذا الامر. فكان قرار هذه الفروع الانسحاب من السوق اللبناني وكان هذا اول رد فعل للتشوه المحكي عنه.

قانوناً كان من المفروض احالة الامر الى الهيئة المصرفية العليا سنداً للمادة 208 من قانون النقد والتسليف لإنزال العقوبات المناسبة على المخالفات المرتكبة من قبل المصارف. لكن المضحك المبكي بالموضوع ان مصرف لبنان كان وراء اغراء المصارف بفوائد مجزية لارتكاب هذه الانحرافات.

المادة 76(الفقرة و) والمادة 77

إضافة الى شهادات الايداع بالدولار استحدث مصرف لبنان بعد مؤتمر باريس 2 اداة جديدة لاستقطاب ودائع المصارف بالعملات الاجنبية من خلال الزام المصارف بـ»توظيفات الزامية» لديه بهذه العملات بشكل مخالف للقانون. فقد أسس لذلك بالقرار الاساسي رقم 7926 تاريخ 19 ايلول2001 وبالاستناد الى المادة 76 (الفقرة و). فالمادة 76 (الفقرة د) تتحدث عن «احتياطي الزامي» بالليرة اللبنانية و/اوبالعملات الاجنبية تودعه المصارف لدى مصرف لبنان بدون اي فوائد مقابلة وليس عن «توظيف الزامي». والفقرة (و) من هذه المادة تتحدث عن ايداعات «حرة» لا «الزامية» للمصارف لدى مصرف لبنان نظير فوائد يحددها المصرف. ما يعني ان التأسيس على المادة 76(فقرة و) لفرض مصرف لبنان توظيفات الزامية بالعملات الاجنبية هو تأسيس واضح الخطأ وفيه مخالفة صريحة للنص. والأنكى ان القرار الاساسي رقم 7926 قد استند ايضاً في حيثياته على المادة 77 من قانون النقد والتسليف ليفرض جزاءات على المصرف المتخلف عن تكوين «التوظيف الالزامي». في حين ان الجزاء المفروض بمقتضى المادة 77 هو عن التخلف عن تكوين «الاحتياطي الالزامي» لا «التوظيف الالزامي» الذي لا وجود له في مواد قانون النقد والتسليف.

المادة 65 من الدستور واعراف المادة 75

الأموال بالعملات الاجنبية التي استقطبها مصرف لبنان من المصارف بصورة مشوهة أنفق قسماً مهماً منها ايضاً بصورة مشوهة في سوق القطع حسب ورقة الحكومة عن خطة التعافي. في هذا المضمار يشار الى ان المادة 75 تنص على استعمال «المصرف» الوسائل التي يرى ان من شأنها تأمين ثبات القطع. ومن اجل ذلك يمكنه خاصة ان يعمل في السوق بالاتفاق مع وزير المالية مشتريا أو بائعاً ذهباً او عملات اجنبية مع مراعاة احكام المادة 69. وتقيد عمليات «المصرف» على العملات الاجنبية في حساب خاص يسمى «صندوق تثبيت القطع».

الحكام السابقون كانت لهم تفسيرات مختلفة للوسائل التي يمكن اعتمادها لتأمين ثبات القطع

الحاكم إدمون نعيم عمل على تنشيف محفظة المصارف من الليرات اللبنانية للحد من قدراتها على المضاربة على الدولار بفرض احتياطات الزامية اضافية حدية marginale بالليرات اللبنانية على التزامات المصارف بهذه الليرات بعد تاريخ او حجم معين. وقد أثار الامر في حينه حفيظة جمعية المصارف فنازعت مصرف لبنان امام القضاء بثلاث دعاوى بخصوص التعاميم ذات الصلة. وقد حفظت سياسته موجودات المصارف بالعملات الاجنبية لدى المصارف المراسلة بنسبة فاقت الـ 90%. الحاكم الشيخ ميشال الخوري أعلن توقفه عن التدخل في سوق القطع بعد نضوب موارد صندوق التثبيت ما اطلق موجة ارتفاع حادة في سعر صرف الدولار. وكان رده على فكرة استجرار ودائع المصارف بالعملات الاجنبية من الخارج للتدخل في سوق القطع بانه ليس هو من «يقامر» بودائع الناس في عمليات هذا السوق. الحاكم رياض سلامة لم ير من جهته غضاضة في إتيان ما احجم عنه الحاكمين نعيم والخوري. إذ عمد الى استعمال قسم مما امكنه استقطابه من ودائع الناس لدى المصارف بالعملات الاجنبية لتثبيت سعر صرف اداري زائف، تحدد على نحو مخالف لما تنص عليه المادة 65 من الدستور التي تتحدث عن دور لمجلس الوزراء في السياسات العامة يستوجب النقاش مع مصرف لبنان حول سعر الصرف المستهدف والأهم تكلفته ليبنى على الشيء مقتضاه.

المادتان 91 و95

عمل مصرف لبنان ايضاً على تأمين تمويل مشوه لاحتياجات الدولة للعملات الاجنبية من الاموال التي استقطبها من ودائع المصارف مثل دفع اقساط سندات اليوروبوندز وفوائدها المستحقة واثمان المشتقات النفطية، وإيجار البواخر المنتجة للكهرباء وغيره وذلك من خلال آليات مختلفة. منها ما كان يتمّ اداؤه مباشرة بالعملات الاجنبية للخزينة ومنها ما كان يتم من خلال اقراض الاخيرة بالليرة اللبنانية مقابل تسلمه منها سندات يوروبوندز يقوم بتسويقها لدى المصارف لصالحه وتعود الخزينة لتشتري منه ما تحتاجه من عملات اجنبية. الركن الاساسي في العمليات السابقة هو تقديم مصرف لبنان التمويل للخزينة بشكل مخالف للقانون بالتحديد المادتين 91 و95 من قانون النقد والتسليف.

فالاولى تتحدث عن ظروف استثنائية الخطورة وحالات ضرورة قصوى يمكن ان تدفع مصرف لبنان، ودون ان يكون ملزماً، الى اقراض الحكومة. أما الثانية فتستلزم ان يحصل التمويل من خلال عقد يناقشه مجلس النواب ويوافق عليه. والذي حصل ان جميع عمليات التمويل للدولة خلال ولايات الحاكم سلامة تمت بدون اي عقد ودون توافر الظروف الاستثنائية او الضرورية على الدوام، وطوال ثلاثة عقود خلافاً للقانون وللمتبع قبل ولايته.




المادتان 85 و97

تحدّد هاتان المادتان اطار العمليات التي يجريها مصرف لبنان مع القطاع العام. وتذكر الاولى ان مصرف لبنان يدفع ويجري تحويل المبالغ التي يأمر بصرفها القطاع العام حتى قيمة موجودات هذا الاخير لديه. وتشير الثانية الى ان المصرف هو العميل المالي للقطاع العام، وبهذه الصفة يساعد مجاناً على ترويج قروض القطاع العام ودفع فوائدها وايفاء اقساطها من المؤونات التي تكون قد اودعت لديه قبل الاستحقاق بعشرة ايام على الاقل.

واضح مما سبق ان مصرف لبنان غير ملزم بتقديم اي مساعدة او تمويل لعمليات دعم قد تقررها الحكومة:

(اولاً) لان القانون لا يفرض على مصرف لبنان اي موجب من هذا النوع، و(ثانياً) لان نتيجة الدعم على الاخص الاستهلاكي هي صفر بالنهاية او حتى سلبية على حد قول الاقتصادي joseph Stiglitz. وهذا ما حصل في لبنان إذ قام مصرف لبنان بالعديد من عمليات الدعم المتنوعة التي بددت قسماً كبيراً من موجوداته بالعملات الاجنبية والتي هي اساساً اموال المودعين، على نحو آل فيه قسم مهم منها الى جيوب نافذين في السياسة والمال وعلى الارض دون التمكن من تغيير واقع متمادٍ ومستمر. فكان الدعم بجوهره دعماً سياسياً للسلطة الرسمية وسلطات الامر الواقع.

المادتان 219 و220 من قانون العقوبات

مصرف لبنان بتقديمه التمويل المخالف للقانون للدولة خالف قواعد راسخة وبديهية في التعامل وردت ليس فقط في القوانين المالية والمدنية والجزائية، بل اساساً وقبل ذلك في التعاليم الدينية منها الآية الكريمة «ولا تؤتوا السفهاء أموالكم»، وشروحات هذه الآية كما شروحات «المجلة» العثمانية التي أخذت بهذه القاعدة، تشير إلى عدم جواز تسليم الأموال للمبذّرين والمسرفين (بتعبير أعمّ للفاسدين).

لم يتقيد مصرف لبنان بهذا النهي عند إقراضه الدولة بالرغم من ثبوت فساد الاخيرة باقرار اعلى المرجعيات اللبنانية: السياسية مثل رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي اقر في 20 آذار 2019 ان «الفاسد الاكبر هو الدولة»، والمصرفية مثل رئيس جمعية المصارف السابق الدكتور فرنسوا باسيل الذي لفت الانتباه في عام 2014 إلى خطورة استمرار المصارف بتمويل فساد السلطة السياسية القابضة على الحكم، فجوبه بحملات تجريح وتقريع وبدعوى حرّكت ضدّه أمام القضاء من قبل النائب هاني القبيسي وممن؟ من حركة «أمل» التي يرأسها السيد نبيه بري بالذات.

أيضاً فساد الدولة لفتت اليه جهات خارجية عدة اهمها البيان الذي صدر في 20 كانون الأول 2019 من قبل وزير الخارجية الفرنسي Jean-Yves Le Drian باسم بلاده والدول الأوروبية والولايات المتحدة، وتضمّن أعنف إنذار ضد الطبقة السياسية اللبنانية اذ سمّاهم صراحة «بمجموعة من الفاسدين والسارقين نهبوا أموال الشعب، ويجب إزاحتهم وجلب الذين سرقوا أموال اللبنانيين إلى محكمة دولية، لاستعادة الأموال المنهوبة».

كذلك ذكرت الـ Foreign Affairs في عددها الصادر في 18 نيسان 2022 ان «مصرف لبنان استعمل لسنوات ودائع المودعين في المصارف لتمويل فساد واسراف انفاقات الحكومات المتعاقبة».

كل هذه الامور لم تستوقف مصرف لبنان لكي يستدرك ويحجب التمويل عن المسؤولين الفاسدين ما يضع القيمين على المصرف الذين اجازوا التمويل في موقع المتدخل، بتوصيف المادة 219 من قانون العقوبات والتي تحدده بانه «من ساعد الفاعل أو عاونه على الأفعال التي هيأت الجريمة أو سهلتها»، وعقاب المتدخل هو ذات عقاب الفاعل سنداً للمادة 220 التي تبرر الامر بانه «لولا مساعدة المتدخل ما ارتكبت الجريمة ويعاقب الاخير كما لو كان هو نفسه الفاعل».

حاكم مصرف لبنان اعلن مؤخراً بانه «ينصح القضاء بالبدء بملاحقة السياسيين». نصيحة طريفة لانه في حال الاستجابة لها فانها ستتضمن حكماً اشراكه هو ايضاً لانه تدخل لمساعدتهم بتقديم المال لهم وهو العنصر الاساس في ارتكاباتهم ومفاسدهم المالية ولولاه لما حصلت الارتكابات والمفاسد.

المادة 79

التشوّه الذي حصل باستقطاب مصرف لبنان ما بين 70 و 80% من ودائع المصارف بالعملات الاجنبية استلحقه الاخير باصدار قرارات اعاد بموجبها اقراض المصارف جزءاً من الودائع المتحصلة منها، مشترطاً عليها ان تقوم بدورها بتقديم تسليفات لاشخاص معينين او مشاريع محددة وضمن شروط تفصيلية، تتضمن مفاضلة بين المستفيدين لا يملك مصرف لبنان تقريرها.

القرار الاول الذي صدر بهذا المضمار هو القرار الاساسي 6116 وتضمن 109 صفحات في دلالة على عمق التشوه الذي حصل وجعل من مصرف لبنان القابض الفعلي على تفصيلات قرارات التسليف في القطاعين العام والخاص، على نحو لا ولم ولن يعرفه أي مصرف مركزي معاصر.

وآخر قرار صدر بهذا المضمار هو القرار الوسيط رقم 12697 تاريخ 19/10/2017 وقضى من جملة ما قضى «بامكانية افادة المصارف كافة من تسليفات بالليرة اللبنانية مجموعها الاجمالي يوازي /000 000 000 750/ل.ل. وبالدولار الاميركي مجموعها الاجمالي يوازي /000 000 500/د.أ. «يقدمها مصرف لبنان للمصارف المعنية بالاولوية وفقاً لتاريخ تقديم الطلبات المستكملة الشروط ولغاية استنفاذ الحدين الاجماليين الآنفي الذكر، مقابل قروض تمنحها المصارف لعملائها على مسؤوليتها وفقاً لشروط حددها القرار الوسيط وتغطي شرائح واسعة من اللبنانيين مقيمين ومغتربين وايضاً نشاطات متنوعة.

يمنح مصرف لبنان التسليفات بالليرة اللبنانية للمصارف المعنية بفائدة 1%، وبالدولار الاميركي بفائدة تساوي أعلى حد من معدل (Federal Fund Rate upper Limit) (FFR).

القرار الوسيط 12697 يخالف القانون لجهة تفسيره المغلوط والمشوه للمادة الاساسية التي استند اليها وهي المادة 79. فهذه الاخيرة تعطي مصرف لبنان صلاحية «تحديد حجم التسليف الذي تمنحه المصارف لانواع معينة او لاغراض معينة او لقطاعات معينة وبتنظيم شروط هذا التسليف»، لا «حجم التسليف الذي قد يمنحه هو للمصارف مجتمعة وحسب الاولوية بتاريخ تقديم طلبات الاقتراض.

علماً ان مصرف لبنان غير مجبر على اقراض المصارف ابتداء عملاً بالمادة 99 الا عندما يرى ان مساعدته تخدم المصلحة العامة. وفي هذه الحالة يعين حسب المادتين 102 و 104 الحد الأقصى لمساعدته لكل مصرف اياً كان شكلها وخاصة بالنسبة لأهمية هذا المصرف وحسن تسيير أعماله، لا للأولوية بتقديم الاخير لطلبات الاستقراض منه. ولا يجوز لمصرف لبنان التمييز بين الافراد والشركات المستفيدة بالنهاية من قروضه، لانه لا يملك هكذا صلاحية فهو يدير امتيازاً عاماً يقتضي منه معاملة الجميع على قدم المساواة.

المادتان 105 و 106

تحدّد المادتان 105 و106 اطار تعامل مصرف لبنان بالسندات العامة، فتنص الاولى على ان بامكان الاخير حسم او شراء سندات عامة مصدرة من الدولة او بكفالتها تحت نظام عقد امانة شرط ان لا تتجاوز مدة استحقاقها 180 يوماً. وأيضاً ان يحسم او ان يقبل رهناً عن قروضه سندات حكومية او سندات مصدرة بكفالة الحكومة، لا تتجاوز مدة استحقاقها خمس سنوات.

وتنص الثانية اي المادة 106 ان بامكان مصرف لبنان شراء وبيع السندات الحكومية والسندات المصدرة بكفالة الحكومة والتي لا تتجاوز مدة استحقاقها السنة من تاريخ شرائها.

الاحكام السابقة وردت ضمن «العمليات التي بامكان مصرف لبنان اجراءها مع المصارف للتأثير على السيولة المصرفية وحجم التسليف».

القرار الاساسي رقم 6116 تجاوزالاطار والهدف السابق من العمليات على السندات العامة بتمكين المصارف الاقتراض من مصرف لبنان لتوظيف متحصلاته في عمليات مالية مغايرة لما سبقت الاشارة اليها، منها اقراض المصارف لتمكينها من اكتساب شهادات ايداع صادرة عنه بفوائد اعلى ما يحقق ارباح فورية وخيالية للمصارف المقترضة، وذلك ضمن اطار الهندسات المالية التي تم اطلاقها.




المادتان 99 و 102

يذكر نص المادة 99 ان مصرف لبنان ليس مجبراً بمبدأ الزامي على منح قروض للمصارف، انما هو يقوم بذلك على قدر ما يرى ان مساعدته تخدم المصلحة العامة.

ويذكر نص المادة 102 انه يمكن لمصرف لبنان ان يمنح قروضاً بالحساب الجاري في حالات الضرورة لمرة واحدة على ان تكون مكفولة بسندات تجارية لا تتجاوز مدة استحقاقها السنة، او بذهب او بعملات اجنبية او بسندات قيم او بسندات لا تتجاوز مدة استحقاقها ثلاث سنوات، اذا كانت تتعلق بعمليات تمويل زراعي او صناعي او تعهدات اشغال عامة او تصدير منتجات لبنانية الى الخارج.

إلا انه في ظروف استثنائية الخطورة، او في حالات الضرورة القصوى، يمكن لمصرف لبنان ان يقرر منح تسليفات استثنائية، مؤمنة على قدر الحاجة بضمانات عينية مقدمة اما من المصرف المستقرض نفسه، او من اعضاء مجلس ادارته، او من زبائنه.

أحكام المادة 102 السابقة لم يتم التقيد بها فقد تم خرقها مراراً وتكراراً وبصور عدة وخارج الشروط والظروف والحالات الاضطرارية التي تذكرها. مثل: منح مصرف لبنان المصارف قروضاً استناداً الى احكام تيسيرية تخص حالات الدمج المصرفي من دون ان يكون هناك عملية دمج فعلية، او اقراضها عملاً بالقرار الاساسي 6116 وتعديلاته لتمويل اكتسابها للمساهمات في الشركات لآجال مديدة تصل للسبع سنوات وفي أوراق مالية (سندات خزينة، شهادات ايداع...)، وحسابات أو عمليات بالدولار الاميركي يعرضها مصرف لبنان عليها ضمن هندسات وغايات متنوعة مثل تحقيق المعيار الدولي للتقارير المالية (IFRS9)، وايضاً لتعزيز فرص تحقيق ارباح استثنائية للمصارف...

المادة 76 (الفقرة د)

تنص المادة 76 في فقرتها (د) على تخويل مصرف لبنان صلاحية الزام المصارف بأن تودع لديه اموالاً (احتياطي ادنى بالليرة اللبنانية او بالعملات الاجنبية) حتى نسبة معينة من التزاماتها الناجمة عن الودائع والاموال المستقرضة التي يحددها، باستثناء التزاماتها من النوع ذاته تجاه مصارف أخرى ملزمة ايضاً بإيداع الاموال الاحتياطية هذه.

ويمكنه، أي مصرف لبنان، ان يعتبر، اذا رأى ذلك مناسباً، توظيفات المصارف في سندات حكومية او سندات مصدرة بكفالة الحكومة كجزء من الاحتياطي حتى نسبة معينة يعود له امر تحديدها...

مصرف لبنان لم يتقيد بالفقرة السابقة اذ وسع بمقتضى القرار الاساسي رقم 7835 من دائرة التوظيفات والعمليات المعتبرة جزءاً من الاحتياطي المطلوب تكوينه. وهو أمر لا يمكنه اتيانه خصوصاً ان المادة 77 قد حددت حصرياً حالات عدم تطبيق مصرف لبنان لجزاء تخلف مصرف عن تكوين الاحتياطي الالزامي المطلوب. وهي اثنتان (1) نتيجة حتمية لظروف غير مرتقبة و(2) حالة التصفية.

المادة 7

بعد اندلاع الازمة عمد مصرف لبنان الى اتخاذ عدد من القرارات رفعت من مستوى مخالفته للقانون وحتى للدستور. وما شجعه على ذلك تقاعس مجلس الشورى عن النظر بالطعن بإحدى هذه المخالفات بتغطية رئاسية ثم حكومية لاحقة لجميع قراراته. أولى هذه المخالفات تفسيره على نحو مشوه ومخالف لاحكام القضاء والفقه المادة 7 من قانون النقد والتسليف بقصد فرض «ليلرة» غير جائزة على السحوبات بالعملات الاجنبية (يراجع المقال الذي نشرته جريدة نداء الوطن تاريخ 15 آذار 2023 تحت عنوان «القانون اللبناني لا يلزم برد الوديعة المصرفية بالعملة الاجنبية، بالليرة اللبنانية»).



المادة 307 من قانون التجارة

تنص المادة 307 تجارة على ان المصرف الذي يتلقى على سبيل الوديعة مبلغاً من النقود يصبح مالكاً له ويجب عليه ان يرده بقيمة تعادله.

وقد أوضحت الاسباب الموجبة لقانون النقد والتسليف تحت عنوان «القواعد الاساسية لتسيير العمل المصرفي السليم». «إن الودائع هي المورد الاساس للمصرف ويجب ان يكون بقاؤها ونموها لدى الاخير قضية ثقة، ثقة المودعين المرتكزة على اليقين من ان اموالهم في المصرف هي في مأمن مثلها في صندوقهم ( as good as cash)، وان في وسعهم التصرف بها في كل حين او في المهل المتفق عليها».

حاكم مصرف لبنان أكد الامر في مؤتمره الصحافي الذي عقده في 11 تشرين الثاني 2019، اذ قال حرفياً ان «لا هيركات اي لا اقتطاع من الودائع ابداً لأن لا صلاحية لمصرف لبنان بالقيام بذلك وهو لا يريده أصلاً».

لكنه وبعد اقل من ستة اشهر بدأ باتيان ما هو مناقض للقول الاخير اولاً باصدار التعميم 151 ثم التعميم 158 والاثنان يتضمنان «ليلرة الزامية» للسحوبات من الحسابات بالعملات الاجنبية بأسعار صرف قام بتحديدها ادارياً وعلى نحو غير اصولي اقل بكثير من اسعار الصرف في التعاملات الواقعية، ما شكل هيركات فاضحاً ومخالفاً لقانون النقد والتسليف وللدستور الذي ينص صراحة على حماية الملكية الخاصة وايضاً للمادة 307 من قانون التجارة. كما يشكل اثراء غير مشروع ذهبت ايراداته لتخفيض خسارات المصارف ومصرف لبنان.

المادتان 70 و174

مؤخراً تعرضت ثلاثة مصارف اميركية لسحوبات طارئة وضاغطة امر جوبه بالتدخل الفوري والسريع من قبل السلطات المختصة، وتمت معالجة الامور بسرعة منعاً لتفشي الاضطرابات.

ذات الشيء حصل في سويسرا بعد ظهور بوادر التعثر لدى احد مصرفي سويسرا العريقين، فتداعت السلطات المعنية الى اجتماع مطول عقد طوال عطلة نهاية الاسبوع في 18 و19 آذار مع ممثلين عن المصرفين المذكورين وتمّ خلاله التوصل الى قرار بدمج قسري بين الاخيرين.

في لبنان حصل العكس تماماً فقد انتظر حاكم مصرف لبنان اكثر من ثلاثة اسابيع من اندلاع الاضطرابات واعلان جمعية المصارف اغلاق ابوابها، ليطل في مؤتمر صحافي في 11 تشرين الثاني 2019 ويعلن بالصوت والصورة ان «لا كابيتال كونترول ولا صلاحية لمصرف لبنان بالقيام به وهو لا يريده أصلاً». تصريح شجع المصارف لمواصلة وتعزيز عمليات تحويل الاموال الى الخارج حصراً لصالح النافذين وكبار المساهمين والمدراء في المصارف وغيرهم، وايضاً عمليات تحويل مشبوهة لمتحصلات «البيع العظيم» لسندات اليوروبوندز لصالح صناديق vautours معروفة بتخصصها باقتناص فرص تعثر مصدري هذه السندات.

وكانت الحجة المعلنة من قبل الحاكم والعديد من الانتلجنسيا المعنية ان الدستور يحمي الملكية الخاصة والمبادرة الفردية والاقتصاد الحر، وان تحويل الاموال للخارج عند الازمة هو فقط عمل لااخلاقي لكن ليس لاقانوني في انكار لما كتبه Diamond و Dybvig و Ben Bernanke، وحازوا بسببه في تشرين الاول المنصرم على جائزة نوبل للاقتصاد، من ضرورة ضبط التهافت على السحوبات والتحاويل فوراً في الساعات الاولى من الازمة والا تفاقمت الامور وتحولت الى ازمة عاتية وكساد كما حصل عام 1929.

واللافت ان حاكم مصرف لبنان عاد واصدر، بعد ستة اشهر من اعلانه ان ليس من صلاحيات مصرف لبنان اجراء اي كابيتال كونترول، التعميمين 151 و158 المناقضين لما قاله حيث قيد فيهما السحوبات والتحويلات من الحسابات بالعملات الاجنبية، في تصرف بدا انه جاء متأخراً عن قصد لتأمين الوقت للنافذين واقربائهم باجراء ما يحتاجون من تحويلات للخارج.

الإنحراف في التعامل مع كتلة العملات الاجنبية لدى المصارف كما التأخر بتقييد السحوبات والتحاويل بعد اندلاع الازمة ما ادى الى تفاقم الامور لدى المصارف، يعتبر تقصيراً صريحاً للمادة 70 التي تطالب المصرف بإتيان ما يجب للحفاظ على سلامة اوضاع النظام المصرفي، والمادة 174 التي تطالبه باتخاذ ما يلزم لتأمين تسيير عمل مصرفي سليم والحفاظ على سيولة المصارف وملاءتها.

المادة 117

تطالب هذه المادة مصرف لبنان ان يقدم لوزير المالية قبل 30 حزيران من كل سنة الميزانية وحساب الارباح والخسائر عن السنة المنتهية، وتقريراً عن عمليات المصرف خلالها وان ينشرهما بعد ذلك وخلال شهر في الجريدة الرسمية. كما تطالبه المادة 8 من قانون الحق بالوصول الى المعلومات بأن يعدّ وينشر تقريراً سنوياً عن نشاط المصرف.

الموجبات السابقة بالطريقة التي نفذت بها لا تؤمن ما يطالب به «ميثاق الممارسات السليمة في مجال شفافية السياسة النقدية»، لا بل على العكس تدعم مل ذكره مقال ورد في جريدة Le Monde الفرنسية في 30-11-2020، من ان مصرف لبنان بات «دولة ضمن دولة معتم عليها ولا يمكن مساءلتها».

La banque centrale du Liban, un « Etat dans l’Etat » opaque et intouchable

فلأكثر من عشر سنوات توقف اصدار ونشر التقارير السنوية ولم تُستعَد هذه العملية الا مؤخراً منذ عام 2016 لكن بشكل مجتزأ وغير اصولي، ومن دون ان تكون البيانات المالية مقرونة بتوقيع «مفوض مراقبة» مستقل يثبت تدقيقه ليس فقط بصحة هذه البيانات وصحة السياسات المحاسبية المعتمدة وكفاية توضيحها للجمهور، بل ايضاً تدقيقه بسلامة العمليات والإدارة والقرارات وعدم مخالفتها القوانين والانظمة المرعية الاجراء، مع الاشارة الى حالات عدم الامتثال عند وجودها، والامر الاخير جد مهم اذ هو ما يميز مهمة مفوضي المراقبة عن مهمة مدققي الحسابات.

لقد كان القرار بتعيين مفوضَي مراقبة اثنين لأعمال وعمليات وحسابات مصرف لبنان عام 1996 قراراً سليماً من حيث المبدأ، لانه عالج قصوراً امتد لنحو 30 سنة من تاريخ إنشاء المصرف. لكن السلبي فيه امران: (الاول) قيام مصرف لبنان بالذات بالتعيين وهذا يحمل تضارباً محتملاً في المصالح. فالمفوضان يتلقّيان أتعابهما منه، أي من المرجع المفروض أن يُصدرا حكمهما على حساباته وعملياته وقراراته وهذا ما يتعين تفاديه بعد انهيار Lehman Brothers، حيث ثبت وجود تمويه وتضليل من قبل مدقق الحسابات عن مخالفات وارتكابات الاخير. والمثير ان مدقق حسابات Lehman Brothers كان شركة Ernest&Young وهي بالذات التي اعتمدها مصرف لبنان لاعمال المراقبة الخارجية مع Deloitte. ولم يؤثر عنهما تسجيل اي اعتراضات مبكرة على المخالفات في ادارة وحسابات مصرف لبنان، والتقصير او ربما التمويه المتعمد في هذا الامر يرتب المساءلة القانونية والتعويض عن الاضرار المتأتية كما حصل في حالة Lehman Brothers.

الأمر السلبي (الثاني) كان اثارة تجاذب حول مقتضيات السرّ المصرفي والمستندات والبيانات والسجلات والقيود الممكن لمفوض المراقبة الاطلاع عليها وتلك المسيجة بالسرية المصرفية، وأشد هذا التجاذب رفع أمام الشركة A&M المكلفة بالتدقيق الجنائي علماً بأن المادة 174 من قانون التجارة المعنية ضمناً بمقتضى المادة 13 من قانون النقد والتسليف، تعطي الاخير حقّ طلب الاطلاع على جميع الصكوك والأوراق الحسابية وإلزام الإدارة بتقديم جميع المعلومات لهم والتي قد يحتاجونها.

هذا ومن المفيد التذكير باطار الرقابة الدولية لاداء مصرف لبنان بمقال نشرته le Temps السويسرية بتاريخ 6 تشرين الاول 2021 وذكرت فيه ان مصرف لبنان كان على اطلاع منذ عام 2016 بالانهيار القادم بعد ان سلم مندوب صندوق النقد Alvaro Piris تقريراً يتضمن هذا الامر الى الحاكم الذي تدخل لشطب 14 صفحة منه تتعلق بالتحذير من الانهيار. امر نفاه مكتب الحاكم. وهو يثير في حال حقيقة حصول التعديل في التقرير، المسؤولية القانونية المشتركة للاخيرين ولمؤسستيهما وايضاً مسؤولية الذين علموا و/او مسؤولية الذين اعلموهم بالامر، فقاموا منذ ذلك التاريخ بتحويل اموالهم واموال مقربين منهم الى الخارج.

المادة 70

أصدر حاكم مصرف لبنان مؤخراً القرار الاساسي 13548 موضوع التعميم الاساسي رقم 165 الذي قضى بفتح حسابات جديدة لدى مصرف لبنان بالليرة اللبنانية والدولار، تكون مخصّصة حصراً لتسوية التحاويل الالكترونية ولتسوية مقاصة الشيكات والبطاقات بالأموال التي تلقّتها وتتلقاها بعد تاريخ 17 تشرين الثاني 2019، إمّا عن طريق إيداعات نقدية، وإمّا عن طريق تحويلات من الخارج.

التعميم 165 يقيم عملياً كالتعميم الذي سبقه 150، ومن دون ان يسميها صراحة، «منطقة مصرفية حرة» لدى المصارف. وهذا الامر غير قانوني اذ لا يصح بقرار اداري ولا حتى بقرار من مجلس الوزراء بل يتطلب قانوناً خاصاً على غرار ما حصل عند انشاء «المنطقة المصرفية الحرة» بمشروع القانون الذي وضع موضع التنفيذ بالمرسوم رقم 9976 تاريخ 1 نيسان 1975.

وخطورة التعميم 165 انه يقضي على فكرة اعادة تكوين ودائع ما قبل تاريخ 17 تشرين الثاني 2019 بالعملات الاجنبية بالفصل القاطع بينها وبين الودائع الجديدة سنداً لكتابات الحاكم Ben Bernenke ورفيقيه Diamond و Dybvig. ويخالف بشكل صارخ وفج ما هو منصوص عليه في الدستور من حماية الملكية الخاصة ومن مساواة بين المواطنين وحماية الاقتصاد الحر، قبل ان يكون مخالفاً لموجبات مصرف لبنان بالحفاظ على القطاع المصرفي وودائع الناس لدى هذا القطاع حسب منطوق المادة 70 من قانون النقد والتسليف، والتي تم الاستناد اليها في القرار الاساسي موضوع التعميم 165. أيضاً اقامة مقاصة للشيكات بالعملات الاجنبية وتحديداً بالدولار لدى مصرف لبنان امر لا يتوافق لا مع قانون النقد والتسليف، الذي قضى في المادة 10 منه على منح مصرف لبنان امتياز اصدار النقد اللبناني وادارة مقتضيات هذا الامتياز ومتطلباته، بما فيها انشاء وادارة غرف للمقاصة بالليرة اللبنانية سنداً للمادة 80. حيث ان مقاصة الشيكات الصادرة بالعملة الاجنبية لا تعتبر من متطلبات الامتياز الممنوح لمصرف لبنان ولا لأي مصرف مركزي في الزمن الراهن. أيضاً لا يشير نص القانون 133 واسبابه الموجبة لا من قريب ولا من بعيد الى مقاصة الشيكات بالعملات الاجنبية. ولو اراد لفعل ذلك في البند الخاص بالعمليات بالعملات الاجنبية في المادة 81 وما يليها. علماً ان الادارة الاميركية والمحاكم الاميركية متوافقة على ضرورة مرور كل عملية بالدولار بالنهاية في غرفة مقاصة قائمة على الارض الاميركية للتأكد ليس فقط من توافر سيولتها eligibilite بل ايضاً من توافر شرعيتها Legitimite بمنظور القانون الاميركي، وعلى فرض العقوبات بالاستناد الى تفسير مكثف للغاية لمعيار الارتباط الإقليمي من خلال الدولار خلافاً للاحكام المعروفة للقانون الدولي.

نقابة محامي بيروت راجعت مصرف لبنان بخصوص التعميم 165، فجاءها الرد انه لمكافحة تبييض الاموال الذي يمكن ان يتأتى من تفشي استعمال النقود الـ cash في التعاملات ولتفادي ادراج لبنان من قبل الـ FATF في المنطقة الرمادية، علماً ان مشاريع التعافي تلحظ وجود ما قيمته 5 مليارات دولار من الودائع الملوثة تكونت في ظل العمل بنظام اعرف عميلك KYC وتمّ سابقاً تصفية مصرفين لتورطهما باستقبال هكذا ودائع.

المادة 83 (الفقرة ب)

في منتصف ايار 2021 اطلق مصرف لبنان منصة صيرفة بالتعميم 157 لتأمين عملية بيع وشراء الدولار من خلالها وبواسطة المصارف والصرافين للتجار والمستوردين والمؤسسات وايضاً الافراد العاديين، حيث حول غالبيتهم العظمى الى مضاربين.

وقد ذكر القرار رقم 13324 ذات الصلة انه صدر بالاستناد الى المادة 83 (فقرة ب) من قانون النقد والتسليف الذي يذكر نصها بشكل صريح ان شراء وبيع العملات من قبل مصرف لبنان مع الجمهور يحصل «مباشرة» وليس من خلال المصارف والمؤسسات المالية وغيرها. كما تذكر مقدمة هذه المادة ما يعني بان «صيرفة» وعملياتها تجري بشكل مخالف لما نص عليه القانون وكانت السبب وراء الانحرافات والارتكابات في الممارسة.

المادة 208

تنص هذه المادة ان المصرف الذي يخالف نظامه الاساسي او القانون او التدابير التي يفرضها مصرف لبنان يتعرض لعقوبات ادارية، تتدرج من التنبيه الى تعيين مدير مؤقت انتهاء بالشطب من لائحة المصارف.

إيسلندا عمدت الى تعيين المدراء المذكورين في الاسابيع الثلاثة الاولى بعد اندلاع ازمتها المالية. في لبنان لم يحصل الامر الا مع مصرفين اثنين ومؤخراً. علماً ان امين عام جمعية المصارف اقر بأحد مقالاته ان وضع عدد من المصارف لا يسمح لها بدفع مبلغ 800 دولار اميركي شهرياً للمودع بهذه العملة حسب احد مشاريع الكابيتال كونترول. كما ان تقارير موثوقة تحدثت عن فقدان عدد من المصارف لمراكز اخرى مطلوب منها تأمينها، ما يجعل التقاعس عن عزل ادارات المصارف المقصرة وتعيين مدراء مؤقتين لها مكانهم خطأ فادحاً يعاقب عليه المعنيون بهذا التقصير، على الاخص في حال تعلق التقاعس بالفشل في اعادة تكوين رأس المال.

الخلاصة

إستسهال مصرف لبنان استعمال ودائع الناس بالعملات الاجنبية لدى المصارف في عمليات سوق القطع وتلبية احتياجات القطاع العام، وسياساته من دعم وغيره على النحو السابق بيانه، كان بلا شك خياراً خاطئاً لا بل قاتلاً لاقامته رابطاً وثيقاً بين المالية العامة واوضاع النقد والمصارف. نجم عنه اندلاع الازمة الراهنة الثلاثية الابعاد مالياً ونقدياً ومصرفياً عند تعاظم الهوة في ميزان المدفوعات وتراجع موارد آلية ponzi، وانعكاس الامر الاخير سلباً على قيمة الليرة في الاسواق وعلى قدرة الدولة في ايفاء التزاماتها بالعملات الاجنبية.

لقد عرف لبنان في ظل ولاية كل من الحاكم نعيم والخوري ضغوطات سلبية مماثلة في سوق القطع والمالية العامة، لكن الامر لم ينعكس ابداً ازمة مصرفية والسبب تحييد الودائع لدى المصارف بالعملات الاجنبية وابقائها مغطاة لدى المصارف المراسلة بنسب مرتفعة لم تتدنّ عن الـ 90%.

جدير بالذكر ان محكمة العدل الاوروبية اشارت في قرارها تاريخ 13 ايلول 2022 (ادناه في مقطع منه) الى مسؤولية المصرف المركزي القانونية والقيمين عليه عند اعتمادهم لسياسات ينحرفون فيها عن التقيد بـ»مقتضيات الحيطة والدقة». ما يشكل بالتالي اساساً لمطالبة المتضررين لهم بالتعويض الناجم عن الاذى الذي لحقهم من هذه الانحرافات وضمناً بالتأكيد المطالبة بالغاء جميع التعاميم والقرارات ذات الصلة بهذه الانحرافات.

(*) استاذ محاضر في قوانين النقد والمصارف المركزية


MISS 3