نوال نصر

حيّنا والكورونا- السبتية

2 نيسان 2020

03 : 06

المشهد المطل

هو اليوم الثلاثون لي في الحجر؟ أقل؟ أكثر؟ لم أعد أبالي كثيراً، بصدقٍ شديد، بعددِ الأيام بعدما أصبحت الثواني ذات قيمة مضاعفة. هنا، في منزلي الكائن في أعالي منطقة السبتية، المطل على منطقة الفنار، المتكئ على منطقة الزعيترية "ومين ما بيعرف الزعيترية"، أمكث ليل نهار في "جبهتي"!

شرفة منزلي واسعة، واسعة جداً، تكفيني كي لا أرزح تحت هول الحجر والحصر والأسر. وبيني وبين شرفتي قصص وأسرار وحكايات. هنا أكتب وهنا أسرح وهنا أقلق وهنا أخاف وأغضب وأنتظر وأضحك وأحزن وهنا أحلم. والى هنا أخرج، صبيحة كلّ يوم، بلهفة استثنائية بحثاً، في كلِ الاتجاهات، عن "بني آدم"، عن حياة، عن جديد، لكني لا ألمح سوى المرأة الستينية النازحة، من زمان، من بعلبك، التي تحفر الحرش المقابل بأظافرها وتقلب ترابه وتصنع الجلال وتزرعها وتسقيها. هو الحرش الذي ينحدر من الأرض التي بنيت عليها كلية العلوم في الفنار. لا تبدو تلك المرأة مبالية بكورونا، ولا بملكية الأرض، ولا بكلّ العيون التائهة من حولها. أشرب قهوتي وأنا أراقبها على صدى قهقهات أحفادها الذين يرمون البذار ويلعبون "بيت بيوت".

أتسلى بتعداد نوافذ كلية العلوم وطبقاتها. أتسلى بمراقبة ذاك المشروع الضخم، المكوّن من مئة وخمس شقق، الذي شُيّد منذ أعوام في الفنار وما زال "ثلاثة أرباعه" شاغراً. أسمع تراتيل من بعيد. أسمعها تقترب أكثر. أشارك في الصلوات والتراتيل: "يا أبانا الحقّ إبنك المذبوح قربان فدى فاقبل منا كي يُخلصنا أهوال الردى". تمرّ تحت، في شوارع الزعيترية، سيارة ترفع مكبرات الصوت وأعلام "حزب الله" ودعوات "الى أهلنا الكرام بضرورة إلتزام البقاء في المنازل". هي منطقة في قلب المنطقة لها "زعاماتها" و"حساباتها" و"مراجعها". وقبل أن يسكت "المنادي" يكون كلّ "الزعيتريين" قد أصبحوا في البيوت.

أحاول أن أنهي ما أكتب وأنا جالسة على الشرفة. أكتب كلمتين. أمشي خمس دقائق. أنظر بين الفينة والأخرى مجدداً الى المنطقة المنخفضة حيث الزعيترية فألمح حاجز الجيش اللبناني الثابت، منذ ظاهرة تاجر المخدرات "أبو سلة"، في مكانه. أما المبنى، مبنى "أبو سلة"، الذي تحوّل الى مركز عسكري فيشهد، في زمن كورونا، أعمال تأهيل. عناصر الجيش رحلوا منه. ولولا "كورونا" لما انتبهت. لكورونا فوائد.

في المقلب الآخر للمبنى حيث أسكن، يقع شارع السبتية الرئيس، شارع بات، بفعل افتقاره الى التنظيم المدني، مكتظاً. الرجال يحاولون أن يُديروا محركاتهم خوفاً على "البطاريات" وسرعان ما يعودون الى بيوتهم. البيوت أحضان البشر. والحضن كلّما كان دافئاً أكثر كلّما مرّت هذه الأيام أسهل. "أبو خليل"، إبن المؤسسة العسكرية أيام زمان، في دكانه. أصوات تراتيل تقترب مجدداً. ثمة كاهن يتلو عبر مكبر الصوت الصلوات الى سيدة الأيقونة العجائبية. ثمة إيمان كبير هنا وثمة خوف كبير. أنظر في الوجوه فأراها مرتبكة حائرة قلقة لكن مع كثير من ملامح "السلام". يبدو أن الناس قد أصبحوا مسالمين أكثر من قبل. أخرج بمركبتي. الطريق "قفرة نفرة" من الصغار ومن الكبار. وعند الكوع القوي، عند مبنى الكويتي، تشلعت الطريق التي عبّدتها بلدية سد البوشرية- الجديدة حديثاً. أرى الناس ينزلون فيها ويطلعون، بعيون تائهة، غير مبالين إلا بالعودة سريعاً الى حضن البيت. غريبة ٌ هي الأشياء. غريبة ٌ هي الحياة. غريبة ٌ هي الأحداث التي تقلب العمر والأولويات والنظريات، بسرعة قياسية، رأساً على عقب.

أعود الى جبهتي، أعود الى خط مواجهتي الأولى مع كورونا، أعود الى بيتي. أصاب من قال: إننا نتعرف في البيت على العالم أكثر!


MISS 3