كارين عبد النور

حين يُفسد الضرب في "التربية" قضية

13 حزيران 2023

02 : 01

الضرب تأديب أو تعنيف؟
هل ضَرْبُ الأطفال استراتيجية فعّالة للتأديب والتهذيب؟ سؤال لطالما انقسمت حوله الآراء. البعض يصرّ على أن «لا خيار آخر» لإصلاح الانحرافات السلوكية لدى الطفل، في حين يرى آخرون أن في الضرب تأجيجاً لا حلّاً للمشكلة. لكن أياً كان المعسكر الذي ينتمي إليه الأهل، لا بدّ من إدراك العواقب المحتملة للعقاب الجسدي وتبعاته على المديين القصير والبعيد.

بالطبع، قد يأتي الضرب بمنفعة آنية، إلّا أن تأثيراته السلبية غالباً ما تبدأ بالتبلور بعد حين. فالأهل عادة ما يلجأون إلى هذه الوسيلة سخطاً أو اندفاعاً أو حتى غضباً بإزاء سلوكيات أبنائهم. وهكذا يتحوّل الضرب إلى خط الدفاع التربوي الأول. مع العلم أن استطلاعاً لأطباء الأطفال نُشر في مجلة "طب الأطفال" في العام 2018، أظهر أن 6% فقط من الأطباء المستطلعين أيّدوا الضرب، في حين توقع 2.5% منهم فقط أن يكون لذلك نتائج إيجابية كوسيلة للتأديب.



أبعاد متعدّدة


للغوص أكثر في التفاصيل، تواصلت "نداء الوطن" مع المعالج النفسي، إيلي غزال، الذي أخبرنا: "الضرب ضَرْبٌ حتى لو كان صفعة خفيفة على الوجه أو اليد أو المؤخّرة. ذلك أن تداعياته السلبية مرتبطة بالأذية النفسية والمعنوية أكثر من ارتباطها بالأضرار الجسدية". فإضافة إلى الضرر الذي يتأتى عنه على صعيد تأطير العلاقة بين الطفل والأهل، يؤدّي الضرب إلى تراجُع ثقة الولد بنفسه كما يسبّب له مشاكل على مستوى الصحة العقلية ويزيد من سلوكه العدواني. من هنا يعود غزال إلى الأجيال السابقة - حيث كان العنف الجسدي من أبرز ركائز التربية - ليصفها بأجيال الحروب والعنف والجرائم. إذ كلما ازداد العنف الجسدي في الصِغَر، انعكس مشاهد عدوانية مع التقدّم في العمر.

لكن كثيراً ما نسمع آباء وأمهات يجاهرون بفخر: "يا ريت بترجع إيام الضرب... جلدة القشاط طلّعت إبني معلَّم وفهمان ومحترم، وبكامل قواه العقلية والجسدية". عن ذلك يجيب غزال: "أحياناً يحلّ الضرر، لكن غالباً ما لا يلاحظه الأهل نتيجة لحالة النكران على المستوى الجمعي اجتماعياً. ولنفترض عدم معاناة الولد بالفعل من أي اضطراب نفسي، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن تلك الممارسات سليمة. مثلاً، يمكن لشخص ما تَناوُل ثلاث علب سجائر يومياً دون أن يصاب بأي مرض، لكن هذا لا يُفهَم منه أن التدخين لا يتسبّب بأمراض قاتلة".



إيلي غزال


ضرورة تحديد الأسباب

لا تتوقف نتائج الضرب على آثاره النفسية. فالطفل المعنَّف جسدياً يشعر وكأن جسده بات سلعة مباحة وغير ذي قيمة، ما يعرّضه لخطر الاستغلال الجنسي في ما بعد. "إذا حاول أحد التحرّش بالولد جنسياً لن نراه يثور وينتفض كونه تآلف مع فكرة أن جسده موازٍ لكتلة لحم يصنع بها الكبار ما يشاؤون. فكيف يمكن أن نحذّر أبناءنا من استغلال الآخرين لأجسادهم ونحن نستبيحها ضرباً؟". سؤال طرحه غزال لافتاً أيضاً إلى أن النزعة نحو الكذب تتعاظم عند الطفل في محاولة منه لتفادي ضَرْب الأهل. مع الإشارة إلى إمكانية أن يفقد الضرب فعاليته مع الوقت، فيعتاد الطفل على العقاب الجسدي نازعاً عن الأخير الدور الردعي المنشود.



للضرب إنعكاساته النفسية



لكن ثمة من يسأل إن كان عدم الاعتماد على الضرب في التربية الحديثة سبباً وراء الانحراف السلوكي المستشري حالياً في المجتمع؟ غزال اعتبر أن ما يهذّب الولد ليس الضرب، حيث يرتبط التهذيب بالصحة النفسية والنضج العاطفي، كما بالاعتدال في تربية وتلبية طلبات الطفل وبِرسم حدود له غير قابلة للتخطّي بعيداً عن الغنج والدلع المفرطين. "الربط بين الانحرافات السلوكية عند الأولاد وبين التوقّف عن الضرب هو مقاربة ناقصة وخاطئة. علينا أن نبحث بشكل أعمق عن الأسباب التي ساهمت في ظهور جيل منحرف. هناك ربما عوامل وراثية أو اضطرابات نفسية أو نقص عاطفة واهتمام أو حتى مشاهد عنف طُبعت في ذاكرة الولد، كتعرّض الأم للضرب على يد الأب"، كما يضيف غزال.

الـــتـــوجـــيـــه أنـــجـــع مـــن الـــعـــقـــاب


ماذا إذاً عن الوسائل أو الاستراتيجيات البديلة؟ "على الأهل أن يقرّروا ماذا يريدون: تربية الولد على أسُس الأخلاق أم الخوف. الولد الذي لا يسرق خوفاً من أهله أو من عقاب ما بعد الموت هو سارق لكنه جبان. بدلاً من ذلك، يجب إفهامه أن السرقة عمل غير أخلاقي لأنه يؤذي الآخر". فقد أظهرت الدراسات أن تعرّض الولد للضرب في مرحلة الطفولة قد ينتج عنه ردّا فعل. إما أن يصبح عنيفاً فيتماهى مع المعتدي، أو أن تتحطّم شخصيته في ما يشبه "خصياً" معنوياً ونفسياً، ما يولّد لديه خوفاً من مختلف أشكال السلطة، وانعدام القدرة عن الدفاع عن حقّه أو الوقوف بوجه الظلم"، على حدّ قول غزال.


استراتيجيات التأديب الأكثر فعالية تتضمن فَهْمَ أسباب السلوك وتفعيل قنوات النقاش والحوار المتبادَل مع الطفل. فالتأديب يرتكز على التعليم والتوجيه وليس على العقاب. ومن بين الطُرق البديلة نذكر: سَحْب أحد الامتيازات من الطفل كحجب دميته المفضّلة أو قطع مصروفه الأسبوعي؛ العقاب المنطقي كأن يقوم بترتيب محتويات المكان الذي بعثره بدلاً من إهانته؛ التعويض عن ضرر تسبّب به كأن يتنازل عن دميته لأخيه (أو أخته) عوضاً عن تلك التي كسرها. في المقابل، لا بد من اعتماد تشجيع السلوك الإيجابي عندما يقوم الطفل بعمل جيّد ما يطوّر لديه الشعور بالفخر والاعتزاز.


وأنتم، أي مقاربة تفضّلون: ردع الولد خوفاً من العقاب، أم حثّه في المقام الأول على تجنّب الأخطاء؟ فأسلم السُبُل إلى مجتمع متّزن تمرّ بتفادي إنتاج نقيضين متطرّفين: الثائرون والمتمرّدون كما الخانعون والخائفون. ويبقى خير الأمور... أعقلها.


MISS 3