جوزيف ستيغليتز

البيئة... دَين مستحقّ علينا لأجيال المستقبل

21 حزيران 2023

02 : 00

يحرص المحافظون في أغلب الأحوال على استعراض قلقهم إزاء أعباء الديون التي نمرّرها إلى ذُرِّيَّتنا. كانت هذه الحجة الأخلاقية بارزة بوضوح في رفض الجمهوريين في الكونغرس دعم زيادة روتينية لسقف الديون في الولايات المتحدة. المفترض أن الحزب الجمهوري شديد الالتزام بخفض الإنفاق إلى الحدّ الذي يجعله على استعداد لجعل الاقتصاد العالمي رهينة والمجازفة بإلحاق ضرر دائم بسمعة أميركا. لا أحد يزعم أننا لا ينبغي لنا أن نفكر في أجيال المستقبل. السؤال الحقيقي يجب أن يكون ما هي السياسات والإلتزامات المالية الحالية التي قد تخدم على وجه أفضل مصالح أبنائنا وأحفادنا. من هذا المنظور، من الواضح أن الجمهوريين هم من يُـبدون تجاهلاً متهوّراً للعواقب المترتّبة على تصرفاتهم.

رأس المال الطبيعي

الواقع أن كل من يتمتّع بأمانة اقتصادية يدرك أن المرء يجب أن ينظر دوماً إلى جانبي الموازنة العمومية. الأمر المهم حقاً هو الفارق بين الأصول والخصوم. إذا ازدادت الديون لكن الأصول كانت في ارتفاع بدرجة أكبر، فإن هذا يعني أن البلاد ستكون أفضل حالاً ــ وكذا أيضاً الأجيال المقبلة. هذا صحيح سواء استثمرت الدولة في البنية الأساسية، أم التعليم، أم البحث، أم التكنولوجيا. لكن الأمر الأكثر أهمية هو رأس المال الطبيعي: قيمة البيئة، والمياه، والهواء، والتربة. إذا لوّثنا هواءنا وماءنا وأفسدنا تربتنا، فإننا بهذا نُلقي بعبء أكبر على أبنائنا وذرّيّتنا.

الدين المالي ليس سوى شيء ندين به لبعضنا بعضاً. إنه مجرد قِـطَع من ورق يمكن إعادة خلطها وترتيبها لتعديل استحقاقات السلع والخدمات. وإذا تخلّفنا عن سداد ديوننا فإننا بهذا نلطّخ سمعتنا، لكن رأسمالنا المادي والبشري والطبيعي سيظلّ على حاله. سوف يجد حاملو السندات أنفسهم أكثر فقراً ممّا كانوا يتصورون، وقد تنتهي الحال ببعض دافعي الضرائب إلى اكتساب قدر من الثراء أعظم ممّا كان ليتسنّى لهم في حال سداد الديون، لكن «ثروتنا» الإجمالية لن تتغير.

الديون البيئية

«الديون البيئية» شيء آخر، فهي تشكل عبئاً لا يمكن إزالته بجرّة قلم من قاضي الإفلاس. فقد يستغرق إصلاح الضرر الواقع اليوم عقوداً من الزمن وقد يستلزم إنفاق المال الذي كان ليستخدم لإثراء البلاد. على المنوال ذاته، نجد أن الإنفاق الحكيم على حماية البيئة وإعادة تأهيلها ــ مثل الاستثمار للحدّ من الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري الكوكبي ــ كفيل بجعل أجيال المستقبل في حال أفضل حتى لو جرى تمويل هذا الإنفاق بالاستدانة.

لنفترض أننا نستطيع تقدير الفوائد المباشرة المترتبة على هذه الاستثمارات ــ على سبيل المثال، زيادة الناتج (أو انخفاض تكاليف إصلاح الضرر الناجم عن حرائق الغابات، والأعاصير، وغير ذلك من أحداث الطقس القاسية)، وقيمة تحسن الصحة وطول العمر نتيجة لتراجع مستويات تلوّث الهواء ــ بالقيمة المالية. ما هو معدل العائد الذي ينبغي لنا أن نطلبه؟ تحاول حكومة الولايات المتحدة حالياً الردّ على هذا السؤال، وأياً كانت إجابتها فإن هذه الإجابة ستخلف عواقب بعيدة المدى. إذا طالبنا بمعدل عائد أعلى (كما فعلت إدارة ترامب عندما حدّدت المعيار عند مستوى 7% سنوياً)، فسوف تكون الاستثمارات قليلة في جهود تخفيف تغير المناخ، وسوف تُشوى أجيال المستقبل في عالَم حيث ارتفعت درجات الحرارة بمقدار 3 درجات مئوية أو أكثر.

تخفيف حدّة تغير المناخ

في ضوء هذه العواقب الحتمية المترتبة على التقاعس عن العمل، ينبغي لنا أن ننظر إلى الاستثمار في تخفيف حدة تغير المناخ على أنه نوع من التأمين. تبلغ المكاسب ذروتها عندما تكون التأثيرات المترتبة على تغير المناخ أشدّ وبالاً، وعندما تكون قيمة المال مرتفعة بشكل خاص. يجب أن تكون العائدات المطلوبة على «استثمارات التأمين» أقل من سعر الفائدة الحقيقي (المعدل تبعاً للتضخم) الآمن. الواقع أن ذلك السعر كان سلبياً في السنوات الأخيرة؛ لكن حتى لو اتخذنا منظوراً أبعد أمداً، فإن السعر كان نحو 1%، بزيادة أو نقصان 0.5%. وعلى هذا فإن «معدل الخصم» المناسب يجب أن يكون أقل بشكل ملحوظ من 7%، بل أقل من المعدل 2.5% إلى 5% الذي استخدمته إدارة أوباما، وربما حتى يجب أن يكون سلبياً.

من زاوية أخرى، يمكننا أن نسأل عن معدل الخصم المطلوب لتحقيق الهدف المتفق عليه دولياً للحد من الزيادة في درجات الحرارة نتيجة الانحباس الحراري الكوكبي بما لا يتجاوز 1.5 درجة أو درجتين مئويتين. إن السماح لدرجات الحرارة بالارتفاع بشكل دائم عن هذه العتبة يفرض علينا مخاطر غير مقبولة. الواقع أن الحرائق، والأعاصير، والفيضانات، وموجات الجفاف، والصقيع، وغير ذلك من الكوارث التي كنا نقاسيها ليست أكثر من عينة ممّا قد يحمله لنا المستقبل. ولن تمكّننا الحسابات التي تعتمد على تخفيضات عالية ــ حتى التخفيضات التي استخدمتها إدارة أوباما ــ من تلبية الهدف 1.5 درجة مئوية.

من الممكن أيضاً أن ننظر إلى المسألة من منظور «أجيال المستقبل». ما هي القيمة التي نُقَدِّر عليها ذرّيّتنا؟ ما هي حقوقها؟ إذا كان تقديرنا لها مساوياً لتقديرنا لأنفسنا (ولا يوجد سبب أخلاقي يمنعنا من ذلك)، فيتعيّن علينا أن نضع في الحسبان مدى الضرر الواقع على البيئة اليوم الذي قد يؤثر على رفاهيتها في المستقبل. بما أننا نعيش حياتنا بما يتجاوز حدود إمكانات الكوكب بوضوح، فإننا ملزمون أخلاقياً بدرجة مُـلِحَّة بتقليل أشكال التلوث كافة.

في مختلف أرجاء العالَـم، يُطالِـب الأطفال والشباب قادة اليوم باستنان السياسات اللازمة للحفاظ على مستقبلهم. وهم يطالبون بهذا باعتباره حقاً أساسياً، وفي بعض الولايات القضائية ــ بما في ذلك الولايات المتحدة، حيث أصدر قاضٍ فيدرالي في ولاية أوريجون مؤخراً حكماً قضى ببدء إجراءات نظر دعوى قضائية دستورية تتعلق بالمناخ والتي رفعها 21 شاباً أميركياً، وحيث تُنظَر بالفعل أيضاً دعوى قضائية مماثلة ضد ولاية مونتانا ــ يلجأ الأطفال إلى المحاكم للقتال في سبيل مصالحهم. ألا ينبغي لكبارهم أن يفعلوا الأمر ذاته؟ (بروجكت سنديكيت، النبأ المعلوماتية)

(*) جوزيف ستيغليتز، حائز جائزة نوبل في الاقتصاد، وأستاذ بجامعة كولومبيا وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت. من كتبه: خيبات العولمة، وكتاب الناس والسلطة والأرباح: الرأسمالية التقدمية لعصر الإستياء.


MISS 3