ستيفن والت

ما وراء سمعة هنري كيسنجر المرموقة

21 حزيران 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

هنري كيسنجر خلال حفلة عيد ميلاده المئوي في النادي الإقتصادي في نيويورك | أيار ٢٠٢٣

إحتفل وزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، بعيد ميلاده المئوي بشكلٍ متكرر خلال الشهر الماضي، فشارك في مناسبات خاصة حضرتها عشرات الشخصيات المرموقة في النادي الاقتصادي في نيويورك ومكتبة نيويورك العامة. يثبت حضور هذا الحشد من الناس المكانة التي يتمتع بها كيسنجر. لم يتلقَ عدد كبير من رجال الدولة هذا النوع من المعاملة خلال حياتهم، ولا حتى بعض الرؤساء السابقين أو الدبلوماسيين من أمثال دين أشيسون، وجورج كينان، وجورج شولتس.



عاش كيسنجر حياة مميزة، بغض النظر عن آراء البعض به. هو لاجئ من ألمانيا النازية وقد وصل في مرحلة معينة إلى أعلى مقاليد السلطة في الولايات المتحدة، وبقي تأثيره قوياً على السياسة الخارجية الأميركية طوال سبعة عقود. في عيده المئوي، يعتبره المعجبون به أعظم مفكر استراتيجي أنتجته الولايات المتحدة على الإطلاق. تحمل المِنَح اسمه في مجلس العلاقات الخارجية ومكتبة الكونغرس، ويزيّن اسمه الكراسي والمراكز البحثية في جامعات عدة، ولا ننسى شركته الاستشارية التي تحمل اسمه أيضاً. لا يمكن التفكير بشخصٍ آخر لا يزال يحظى بالمستوى نفسه من الاهتمام العام بعد تجاوز عمر المئة.

لكن ثمة معضلة كامنة وراء حياة كيسنجر الاستثنائية. هو يُعتبر اليوم مفكراً عميقاً وحكيماً ونافذ البصيرة في مجال السياسة الخارجية، لكن لم تكن مسيرته السياسية الطويلة مبهرة بقدر ما يظن مناصروه. لا شك في أنه شديد الذكاء وصاحب إنجازات فريدة من نوعهـــا، لكــــن هل يستحق السمعة التي اكتسبها بعد قرنٍ من الزمن؟

كان سجــــــــل كيسنجر كمستشار للأمن القومي ووزير للخارجية مثيراً للجدل ولا يزال كذلك. هو حقق بعض الإنجازات اللافتة، مثل الانفتاح على الصين، والتفاوض حول اتفاقيات مهمة للحد من الأسلحة مع الاتحاد السوفياتي، حتى أنه تعامل مع الصراعات المتكررة بين العرب وإسرائيل برأي بعض المراقبين. لكن يُفترض أن تخضع هذه الإنجازات للتقييم بعد مقارنتها بدعمه للحرب في فيتنام ودوره المباشر في إطالة مدتها رغم معرفته بأن الفوز بالحرب غير مضمون. قرر نيكسون وكيسنجر أيضاً توسيع نطاق الحرب كي تصل إلى كمبوديا، فمهّدا عن غير قصد لترسيخ الحُكم الإلغائي لحزب «الخمير الحمر». كذلك، يستحق كيسنجر انتقـــادات لاذعة بسبب دعمه للانقلاب العسكري الذي قاده أوغستو بينوشيه في تشيلي وطريقـــــة تعامله مع الحرب الهندية الباكستانية في العام 1971.

في غضـــون ذلك، يحمل كيسنجـر سجلاً حافلاً كمستشـار استراتيجي للشركات والحكومات وعامة الناس عبر إطلاق مجموعة هائلة من النشاطات، ونشر الكثير من الكتب الثقيلة، وكتابة المقالات الصحفية، واستعمال أشكال أخرى من التواصل. لكن ما تأثير هذا السجل على مسيرته الطويلة بعد رحيله من منصبه الحكومي؟

كان تأثيره في تلك المرحلة جيداً، لكنه ليس قوياً بقدر ما يظن البعض. نشر كيسنجر مثلاً كتباً كثيرة منذ رحيله من الحكومة، لكن وحدها مذكراته الممتدة على ثلاثة مجلدات شكّلت مساهمات لافتة أو مؤثرة في الأوساط الأكاديمية. تُعتبر هذه المذكرات إنجازاً كبيراً، فهي أفضل مرجع شخصي يكتبه أي رجل دولة أميركي مرموق. على غرار جميع المذكرات الأخرى، تدافع هذه الكتب بقوة عن ما فعله كاتبها أثناء وجوده في السلطة، لذا يُفترض أن يقيّمها الجميع بأسلوب نقدي. لكنها تقدّم للقراء في مطلق الأحوال نظرة مقرّبة وشخصية عن حياة كبار الدبلوماسيين والخبراء الاستراتيجيين في أقوى بلد في العالم، إذ تتعامل هذه الشخصيات دوماً مع ضغوط وأولويات متضاربة على أرض الواقع وتواجه شكوكاً هائلة.

لكن ماذا عن نشاطاته الأخرى؟ كتب المحلل مات داس حديثاً أن كيسنجر اخترع فن تحويل المناصب الحكومية إلى مسيرة مهنية مربحة بعد الرحيل من الحكومة. أصبحت شركـــة Kissinger Associates نموذجاً لهذا النوع من الـــشركات الاستشـارية، حيث يمنح مسؤولون سابقــون أسماءهم، ووجهـــات نظرهم، ومعارفهـــــم إلى مجموعـــة متنوعة من العملاء (لا يتم الإفصاح عن هويتهم). لقد انتهى زمن رفض الموظفين الحكوميين، من أمثال جورج مارشال، لأي عروض مربحة تسمح لهم باستغلال مسيرتهم السياسية، على اعتبار أن الاستفادة من الخدمات العامة وتضحيات الآخرين تصرّف غير لائق. بذل كيسنجر الجهود بقدر غيره للقضاء على هذه العقلية. يصبــح احتمال تضــارب المصالح واضحـاً في هذه الحالة، لا سيما إذا بقي هؤلاء المسؤولون السابقون جزءاً من النقاشات العامة حول السياسة الخارجية أو إذا عادوا إلى الحكومة مجدداً في بعض الحالات. تتعلق المشكلة الحقيقية باستحالة أن نتأكد من استعمالهم لمكانتهم العامة بهدف تعزيز أرباحهم الشخصية أو حمايتها على الأقل.

على صعيد آخر، أساء كيسنجر التعامل مع أهم المسائل الاستراتيجية التي واجهها البلد منذ رحيله من السلطة، فكان من أوائل الداعمين لتوسيع حلف الناتو مثلاً، وهو قرار توقّع مراقبون آخرون أن ينتج اشتباكاً مباشراً مع روسيا بدل إرساء سلام دائم في أوروبا. كذلك، دعم كيسنجر غزو العراق في العام 2003، وهو واحد من أكبر الإخفاقات الاستراتيجية في تاريخ الولايات المتحدة طبعاً، وعارض الاتفاق النووي مع إيران في العام 2015. كما أنه لم يتوقع أن تصبح الصين منافِسة قوية لواشنطن بعد مساعدتها على تحقيق التقدّم من خلال سياسة التواصل. قد يسمح هذا الجانب بتفسير الاستنتاجات المتناقضة في الكتاب الذي نشره في العام 2011 عن الملف الصيني.

لكن لا يعني ذلك أن كيسنجر كان مخطئاً في جميع المسائل. لا يسهل تحليل الأحداث المعاصرة ولا أحد يستطيع تقييم الظروف بدقة دائمة. لكن يصعب أن نفهم السبب الذي يدفع الكثيرين اليوم إلى اعتبار كيسنجر أعظم خبير استراتيجي أميركي، مع أن سجله كمحلل سياسي لا يُعتبر أفضل من خبراء آخرين في الشؤون العالمية في جميع الحالات.

هذا ما يفسّر المعضلة التالية: إذا تجاهلنا الضجة المحيطة بشخصية كيسنجر، يسهل أن نلاحظ أنه كان سياسياً بارعاً وبارزاً لكنه لم يكن أكاديمياً مؤثراً. هو صانع سياسة يحمل في سجله نجاحات حقيقية وإخفاقات شائكة، وهو محلل للمسائل السياسية المعاصرة ولا يميّزه سجله عن الآخرين. ما الذي يفسّر إذاً سمعته المرموقة التي لا تزال مستمرة حتى اليوم؟

يتعلق جزء من الجواب طبعاً بعمره الطويل. لو رحل كيسنجر من هذه الحياة وهو في أواخر السبعينات من عمره، أو حتى في منتصف الثمانينات، كانت وفاته لتحصد اهتماماً كبيراً وكانت مكانته في تاريخ السياسة الخارجية الأميركية لتكون مضمونة. لكنه ما كان ليكسب على الأرجح المكانة الأسطورية التي يتمتع بها اليوم.

بما أنه الشخص الأخير المتبقي من الحقبة الغابرة، يعني ذلك أن أبرز منتقديه وخصومه رحلوا، ويسمح مرور الزمن بالتستر على أخطائه الماضية، ويحصل مساعدوه على الوقت الكافي لتلميع صورته. هو استفاد إذاً من بلوغ عمر المئة، لكن يتطلب حل هذه الأحجية عوامل أخرى.

قد يكون السبب الحقيقي بسيطاً. لم يسبق أن بذل أي شخص هذا الكم من الجهود أو تابع العمل طوال الفترة التي تسمح له باكتساب الامتيازات والحفاظ عليها بقدر كيسنجر. وحتى قراءة سِيَر كيسنجر المتعددة تُعرّفنا على رجل يحمل طموحات استثنائية، ويُركّز على كل شيء بدرجة لافتة، ولا يملك هوايات جدّية، وكان على الأرجح أعظم دبلوماسي في العالم المعاصر. هو لم يحرق الجسور مع أي طرف قد يفيده، ولم يتخذ يوماً أي موقف خارج الإجماع المتعارف عليه، ولم يفوّت فرصة إقامة علاقات جديدة، ولم ينسَ أي تفصيل مهم، ولم يوقف مساره لأنه استنتج أنه بذل ما يكفي من الجهود. بعبارة أخرى، تفوّق كيسنجر على الجميع من حيث الاجتهاد، والجاذبية، والمناورات. وأكثر ما يثير الاهتمام هو تمسّكه بهذا النهج حتى الآن.

أدرك كيسنجر أيضاً أن النفوذ يزيد قوته. إذا كان قوياً بما يكفي، سيستنتج الآخرون أنهم سيستفيدون من دعمه والتكيّف معه بدل انتقاده. قد يكون انتقاد كيسنجر من جانب الصحافيين أو أساتذة الجامعات الذين يفتقرون إلى الطموح مقبولاً، لكن لم تكن هذه الاستراتيجية ذكية لكل من يريد إحراز التقدم في مجال السياسة الخارجية. كان كيسنجر يتكل على عدد كبير من الأصدقاء والمعارف في تلك الأوساط، وكان خبراء السياسة الأكثر طموحاً يميلون إلى إرضائه بدل التشكيك بأفكاره كلما زاد نفوذه.

قد يكون هذا المستوى من الطموح مزعجاً، أو حتى مخيفاً بعض الشيء، لكنه يستحق الإشادة أيضاً، إذ لا يستطيع جميع الطامحين تقديم الأداء نفسه. مع ذلك، يجب ألا نتعامل مع الإشادة التي يحصدها كيسنجر في الوقت الراهن بطريقة سطحية أو نغفل عن أحكامه الخاطئة في حالات معيّنة. قد يعيش هذا الرجل لفترة غير محدودة، لكنه ليس معصوماً من الخطأ.


MISS 3