جيمي الزاخم

"وطنٌ اسمُهُ فيروز"...كتابُ المديحِ المريض؟

23 حزيران 2023

02 : 01

رسومات من الكتاب بريشة سامية الحمصي داغر
مع صدى صوت فيروز «وعدي إلَك وعد الصوت، غنّيلك، وخلّي الدّني تغنّيلك، وندروني إلك»، يندرُ هذا المقال حروفَه لقراءة «وطن اسمه فيروز». أصدرَتْه، في الأشهر الماضية، مؤسسةُ الفكر العربيّ ضمن دورية «أفق»، تكريماً لها في عيدها الثامن والثمانين. بإشراف د. هنري العويط، مع د.رفيف رضا صيداوي وأحمد فرحات كهيئة تحرير، وريشةِ سامية الحمصي داغر، يجتمعُ لأوّل مرّة حول المائدة الفيروزية 37 كاتباً، باحثاً وأكاديمياً من بلدان عربيّة متفرّقة. بعضهم ملأ كرسيَّه بحبره ومعلوماتِه تحليلاً أو سرداً. آخرون لم يحدِثوا فالقاً في طبقات الظاهرة الرحبانيّة. لم يجدّدوا دمَ النقد الفيروزيّ في خلايا صفحات (ليست بقليلة) استهلكَت مساحةً. ومرّ عليها التكرار. كان نافراً بنوع المعلومات أو الإقتباسات.

يُشكَر القيّمون على منتجٍ لم يخصّصوه للبيع. يتماهى مع المُحتفى بها. هي بقيت بيضاء لا تتلوّنُ بأوراق خضراء. محبّوها يحصلون عليه مجّاناً. معارض الكتب تحتفي دوريّاً بكتب عن فيروز وغيرها من الفنانين والفنانات. أسعارها تجعل لقاءَ بعض الفئات مع هذه الكتب، كما اللقاء مع فيروز... مستحيلاً!

الكتاب يلوّن علمَ وطنه بألوان مختلفة من لحنٍ وكلام وصوت، تعكس تمازجَ وتنافر عناصر الظاهرة الفيروزية الرحبانية التي رُسمَت على جدار جغرافيّ، اجتماعيّ وفكريّ. بعد مرور أكثر من 70 عاماً على بداية تشكّل هذا الوطن الفنّي، نقاط كثيرة لا تزال مكتومةَ القيد في سجّل النّقد والسّرد العربيّ، لألف سبب وسبب.

بشكل فرديّ منفصل، تعبَ البعضُ على دراساتِه، جمله، مقارناته وحتى عناوينه. أمّا بعضهم، قلمُهم المحبّ والمهمّ كان نمطيّاً، كسولاً. قلمٌ بلاستيكيّ أعاد تدوير صفات تنفّر فيروز نفسها. تحضر بداياتُها مع ولعِها بالأزهار البرّيّة. مازحتْها أمّها ليزا: «شايفة بدّي جوزك جنيناتي». موهبتها البرّية قطفها محمد فليفل من «مدرسة الإناث الأولى في منطقة حوض الولاية». حضنَها، درّبها لتستحيل الوردةُ بستاناً. دخله حليم الرومي وقاد إليه عاصي. رافق فيروز كأوّل فنانة تجاور عواميد بعلبك، وتنير مسرح معرض دمشق الدوليّ. هذا المسرح صعد إليه الشاعر عمر أبو ريشة حينما استمع إلى أغنية «لملمتُ ذكرى» وقال للرحبانيَين:»خذوا كلّ شعري وأعطوني هذه القصيدة».

تصحبك مقاطعُ أخرى في رحلاتٍ إلى دول عربية مع الأطلس الرحباني. تفاصيل عن زياراتهم إلى مصر، التي و»أثناء فترة الحداد على عبد الناصر، لم تجد إذاعاتُها إلّا أغاني فيروز لتذيعها». لكن في فترات متقطّعة ولأسباب مختلفة، «اختفت أغانيها من الإذاعة المصريّة، بأمرٍ غير مرئي أو رسميّ». في بغداد وقبل حفلتها سنة 1975، «لاحظ عاصي ومنصور صوراً سياسية تعتلي المسرح. فطلبا رفعَها لأنّ فيروز لن تغنّي تحت أيّ شعار أو صورة شخص». بعد نكسة حزيران 1967، في حفلها في الجزائر، غنّت لأوّل وآخر مرة أغنيتَها «سافرت القضية»، قبل حظرها. في تونس، استقبلها الرئيس حبيب بو رقيبة بعد موقفِها الممتنع عن الغناء «احتجاجاً على تغيير موعد حفلها». كان سيحضره الرئيس التونسي عام 1975 أثناء زيارته بيروت. «رفضَتْ اللعب بوقتها. قاصصتها الحكومةُ اللبنانية بمنع بثّ أغانيها سبعة أشهر»... حوادث متفرّقة في دول عربية أخرى تمرّ في خريطة الكتاب.



رسومات من الكتاب بريشة سامية الحمصي داغر


جزءٌ من المشاركات والمشاركين، كلٌّ في مجاله وبأدواته، عاين الجسدَ الرحباني. النجاح والتميّز كانا متفاوتين بتفصيص الأدوار المسرحية، الحبكات، البناء الدرامي، الأمكنة، نوع الشخصيات، الرسائل بتصنيفها القيميّ الاجتماعي أو السياسي. سطع نجمُ كلمات جذبتْنا، مع إيحاءاتها، إلى حبر الأخوين وسعيد عقل وجوزيف حرب. الأخير هو «نزفٌ متفرّد وجعاً ولطافة وقوّة». حضر قليلٌ من نزفه. وغاب أترابُه، الذين سُفكت دماؤهم «ليبقى الشعر مستيقظاً» في صوت فيروز، بكلمات كَـ»زجاجات عطر». عطرٌ استُهلِك قسمٌ منه في أسواق النقد، ففقد قيمتَه. العطر الزياديّ حضر في مزاد الآراء والتحليل، بحصّة غير وافية. ففيروز مع زياد، انتقلت من «يوتوبيا» إلى «دستوبيا»، «من الحلمِ الطهرانيّ الى الواقع الحي المباشر». تحوّل من «ابنها البيولوجيّ إلى أبيها الفنّي».



رسومات من الكتاب بريشة سامية الحمصي داغر



بنظريات ومناهجَ علمية، توسّع البحث للربط بين تموّج اللّحن والمعنى، وصولاً إلى استنتاج الدلالات الدرامية في التعبير. الأخير تعزّزه «طبقة صوت فيروز الوسطى»، يميل عاصي إليها. بينما منصور يحبّذ صوتَها «بقفزاته الأوبرالية». تُدرَسُ المقامات من عجم، حجاز، النهاوند، إلخ. لكلّ قمر في الأغنية مقام. ولكلّ مقام دلالة ولغة: حزن، براءة، تحريض... تكتبها الجملُ الموسيقية بطبشور فيروز على لوح الزمن. طبشور بألوان! لكلّ أغنية لون من حدْس وجمالية. تنقلك إلى «الزجاج المعشّق والملوّن في نوافذ المعابد»، في مخيّلة مستمع فيروزيّ ليس عربيّاً فقط. فنانون، شعراء، إعلاميون في الهند، أوروبا وغيرها من الدول تجمعهم فيروز. لا يفهمون الكلام. صوتها اللغة. «هو فوق الكلمات». الصفحات الأخيرة ربطت انطلاقتَها مع الأخوين، بتشكّل بلدٍ جديد مستقلّ يحاول إنتاج هوية موسيقية تميّزه عن جيرانه، وتوائم تغييراتِ مجتمعه وطموحه السياسي. ومذّاك لم يتأسَّس «مشروعٌ لبناني جِدّيّ سوى المشروع الرّحباني».





رسومات من الكتاب بريشة سامية الحمصي داغر



تنقسم الصفحات الـ350 في هذا الوطن إلى وطنين: الأوّل بكامل وعيه وعافيته يمسك حشريتَنا بيدها لنتعمّق ونستمتع. نقطف معه نجوماً تزنّر خلخالاً يرنّ في نشيد هذا الوطن. وتلمع على وجه مياه اسمه. أمّا الوطن الثاني، فيابستُه متصحّرة مريضة. تسقط عليها نجوم محترقة. لا أحد ينقذها. بيوت قاطنيها مظلمة. يعيشون فترة صوم عن الإبداع مع أغنية «تعا ولا تجي». تُعادُ مع كلّ موسم نقديّ لا يفقه بالتربة. لا يحاول شمَّها. لكنّه يحرثُها. فلا يثمر المعنى ولا يبقى معنا.





صورة الغلاف



MISS 3