كريم مروة

المفكّر الفلسطيني بندلي جوزي 1871-1942 قارئاً بإعجاب الحركات الفكرية في الإسلام

7 نيسان 2020

05 : 00

القدس مسقط رأسه
يجمع الباحثون في التراث العربي ان بندلي جوزي، المفكر الفلسطيني المعروف عند الخاصة من الباحثين والمجهول عند الكثرة من مثقفينا، هو أحد رواد البحث العلمي في التراث. أي أنه مختلف في منهجه في البحث عن كثيرين ممن أصبحوا أعلاماً في هذا الميدان الصعب. واختلف في منهجه العلمي هذا عن مستشرقين ومستعربين كثيرين، وانتقد بجرأة بعض مواقفهم المتعسفة من التراث العربي، مشيداً بآخرين تميزوا باجتهاداتهم، وأسهموا في إلقاء أضواء على بعض كنوز هذا التراث.

رغم أن بندلي جوزي كان قليل الإنتاج، فإنه كان شديد التميز. ذلك أن أهمية البحث في ميدان من ميادين المعرفة الصعبة الولوج تكمن في جهد الباحث، وفي منهجه البحثي. هنا، بالتحديد تميز ابحاث جوزي، سواء في قراءته أحداثاً كبرى في التاريخ العربي القديم، الفكري منها والإجتماعي والسياسي، أم في قراءاته لطبيعة الإقتصاد في زمن الدولة الإسلامية في عصورها المختلفة، أم في قراءته لفقه اللغة العربية ولعناصر التطور والتخلف فيها.


بيروت التي زارها وحاضر فيها



فمن هو بندلي جوزي؟
إنه بندلي جوزي صليبا. اختلف المؤرخون في تاريخ ميلاده ووفاته. لكن قليلين أشاروا إلى نشأته وذكروا أنه فلسطيني من مواليد القدس، على الأغلب. إلا أن السائد أنه ولد في 1871 وتوفي في 1942. لكن الجزء الأكبر من حياته قضاه في روسيا، القيصرية ثم السوفياتية، (نحو أربعين عاماً) طالباً، ثم أستاذاً، ثم باحثاً في التراث واللغة وفي قضايا اقتصادية واجتماعية وتاريخية. تلقى علومه في كلية المصلبية (أو دير المصلبية) اليونانية الأرثوذكسية في فلسطين، ثم في مدرسة كفتين قرب طرابلس لبنان. ومعروف أن المدارس الأرثوذكسية الروسية انتشرت أواخر القرن التاسع عشر وفي الربع الأول من القرن العشرين في لبنان وفلسطين، ودرّس فيها أساتذة روس. والتحق بتلك المدارس طلاب صاروا أعلاماً في الثقافة العربية، وتابعوا دراستهم العليا في روسيا. ومن أبرزهم ميخائيل نعيمة وبندلي جوزي. ويؤكد ذلك المستشرق الروسي كراتشوفسكي، الذي تعرّف إليه كلاهما، وصادقاه.





يقول المؤرخون إن جوزي سافر إلى روسيا حيث حصل على الدكتوراه من جامعة مدينة قازان في 1899. وكان موضوع بحثه المعتزلة. ومكنته معرفته الجيدة للعربية والروسية من تأليف قاموس عربي روسي لتعليم اللغة الروسية لأولاد العرب المقيمين في روسيا أو الراغبين في تعلمها خارجها. وعمل أستاذاً للآداب العربية في جامعة قازان بعد تخرجه.

كان مهتماً باللغة منذ بدايات تخرجه. وتناولت أبحاثه اللاحقة فقه اللغة العربية ومصادر مفرداتها وعلاقاتها باللغات الأخرى. ساعده في أبحاثه اتقانه السريانية والعبرية واليونانية والفرنسية والإنكليزية والروسية والألمانية. وبعد ثورة أكتوبر عيـّن أستاذاً للأدب العربي في جامعة باكو، ثم رئيساً لجامعة قازان.

ورغم أن إقامة بندلي في الإتحاد السوفياتي كانت طويلة إلى حد اعتباره مستشرقاً روسياً، إلا أنه لم ينقطع عن فلسطين والبلدان العربية الأخرى، لا سيما مصر ولبنان. وزار فلسطين ولبنان ومصر ثلاث مرات في أعوام 1909 و 1928و 1930. وتعرّف في بيروت العام 1909 إلى المستشرق الروسي- السوفياتي كراتشوفسكي، وكتب عنه وعن أعماله بحثاً في مجلة "المقتطف" المصرية في 1931. وألقى محاضرات في المدن التي زارها. وكان يلقى اهتمام مثقفيها. ونشر أبحاثاً في مجلات "الهلال" و"المقتطف" و"النفائس المصرية"، وفي المجلة العلمية التي كانت تصدر عن الجامعة الأميركية في بيروت. وأشرف، خلال زيارته إلى القدس في 1928، على إصدار أهم كتبه "تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام". ثم صدر له كتاب آخر هو "دراسات في اللغة والتاريخ الإقتصادي والإجتماعي عند العرب". كما اشترك مع صديقه قسطنطين زريق في ترجمة كتاب المستشرق الألماني نولدكه عن أمراء غسان. وظل يتابع من باكو ومن قازان صلاته بالمراسلة مع أصدقائه في فلسطين ولبنان ومصر، ليعرف أحداث التي كانت بلاده في حقبة من تاريخها المضطرب.


الجزء الأكبر من حياته قضاه في روسيا القيصرية ثم السوفياتية


تابع جوزي أبحاثه في التراث العربي وفي اللغة وفي التاريخ الإقتصادي والإجتماعي، وفي ميادين أخرى، خلال وجوده في حقبتين من تاريخ روسيا، الحقبة القيصرية والحقبة السوفياتية. إلا أن إبداعه الحقيقي تم في الحقبة السوفياتية. إذ نضجت أفكاره، واتسعت معارفه. وتدل كتاباته في تلك الحقبة على تأثره بالفكر الإشتراكي، وصار منهجه أقرب إلى المنهج الماركسي، من دون أن يترك ذلك تأثيراً أيديولوجياً على طبيعة أبحاثه، إذ كان همه إيصال آرائه واستنتاجاته الخاصة بالتراث وباللغة وبالتاريخ إلى القراء العرب والسوفيات والأجانب، خلاف كتابات مستشرقين انتقد لديهم خصوصاً الطابع الأيديولوجي المعادي للعرب ولتراثهم الذي ساد أبحاثهم. لنقرأ هنا بعض ما جاء في مقدمة الطبعة الأولى لكتابه "من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام" في نقد مواقف وآراء مؤرخين غربيين حول تاريخ الشرق. يقول جوزي في مطلع هذه المقدمة:

"إذا عرفنا أن أول من وضع مبادئ علم التاريخ وأساليب الانتقاد التاريخي هم مؤرخو الغرب كنيبور (Niebhur) ورانكه (Ranke) وشلوسر (Schlosser) وغيرهم، وإنهم بنوا أحكامهم ونظرياتهم على تاريخ الغرب وحده، إذ لم يكونوا يعرفون من تاريخ الشرق إلا اليسير، سهل علينا ادراك مقدار الغرابة والطيش في أقوال بعض مؤرخي الغرب عن الشرق وتاريخه. فهل طيش أكبر من قول أحدهم "لم يكن ولن يكون للأمم الشرقية تاريخ بمعنى هذه الكلمة المعروف بين علماء أوروبا، وإن أساليب البحث التاريخي التي وضعها علماء الغرب لا يمكن أن تطبق على تاريخ الشرق". وأية غرابة أو بالأحرى أي جهل أعظم من أن يقال إن العوامل المؤثرة في تاريخ الأمم الأوروبية والنواميس العمومية الفاعلة في حياتهم الإجتماعية هي غيرها في تاريخ الأمم الشرقية وحياتهم وثقافتهم".

وكتاب جوزي المشار إليه هو، في نظري وفي نظر كثيرين، أهم كتبه، والأبحاث التاريخية فيه أهم أبحاثه إطلاقاً. أقول ذلك من دون تقليل أهمية أبحاثه في فقه اللغة العربية وفي تأثرها باللغات الأخرى وتأثيرها فيها.

ونظراً لأهمية هذا الكتاب أدخل بعض فصوله لتعريف القارئ بالقيمة التاريخية لأبحاث مؤلفه. وأستشهد برأي المفكر التراثي حسين مروّة، في المقدمة التي وضعها للكتاب في طبعته الثالثة الصادرة في العام 1981. يقول مروّة: "إذا رجعنا نصف قرن ونيفاً إلى الإطار الزمني الذي كتب فيه جوزي دراساته التراثية، بطريقته المنهجية الجديدة البكر، تيسر لنا استيعاب قيمتها التاريخية الريادية. فهي قيمة باهرة حقاً وفق مقياس الزمن التاريخي نفسه الذي صدرت فيه دراسات جوزي عن الحركات الفكرية في الإسلام، وعن التاريخ الإقتصادي والإجتماعي عند العرب، ودراساته في اللغة وفلسفة اللغة. والرجل كان متفرداً بين الباحثين العرب حينذاك من حيث شمولية الرؤية ومنهجية المعالجة. ففي حين كانت وحدانية الجانب تسود رؤية معظم هؤلاء الباحثين، كان جوزي يحيط بموضوعه من كل جوانبه. فإن انحيازه الفكري، وربما الأيديولوجي _ ولا أجزم _ إلى حركة القرامطة، مثلاً، كحركة فكرية أولاً، وكحركة اجتماعية ثانياً، لم يحجب عنه رؤية المواقف المتناقضة والزوايا غير المضيئة لهذه الحركة أو بعض الجيوب المثقوبة في هيكليتها".


قسطنطين زريق



يقع الكتاب في خمسة فصول. يبدأها جوزي بفصل عن الأسس الإقتصادية للإسلام، تليها الفصول التالية: الإمبراطورية العربية والأمم المغلوبة، حركة بابك الخرمي وتعاليمه الإشتراكية، الإسماعيلية، القرامطة. وتلي الفصول الخمسة خاتمة. لكن المؤلف يحرص على أن يقدّم في الفصل الأول من كتابه صورة عن الإسلام مختلفة عن الصورة السائدة. إذ هو لا يعتبر الإسلام ديناً وحسب، بل رسالة إقتصادية واجتماعية. يقول: "أصبح من المقرر أن الإسلام، كغيره من الأديان الكبيرة، ليس فقط فكرة دينية، بل مسألة إقتصادية واجتماعية أيضاً أو بالأحرى مسألة إقتصادية واجتماعية أكثر منه فكرة دينية... ومن فضل مؤسس الدين الإسلامي ومظاهر عبقريته أنه أدرك مصدر الحركة الإقتصادية والإجتماعية التي ظهرت في أيامه في مكة، عاصمة الحجاز، وعرف كيف يستفيد منها ويسخرها لأغراضه السامية، دينية كانت أو إجتماعية".

أهمية هذا الإستهلال في الكتاب أن بندلي جوزي يقدّم فيه للقارئ الشروط التي سمحت له بأن يستخدم في تحليله للحركات الفكرية في الإسلام، منهجه الماركسي الجدلي في قراءة المسار العام لحركة التاريخ، وفي تحديد موقع الأحداث التي جرت في الحقبات المختلفة لهذا التاريخ. وقاده منهجه هذا الى اعتبار أن حركة بابك الخرمي السياسية والإجتماعية التي ناهض بها الخلافة العباسية، وكذلك حركة الإسماعيلية ووريثتها حركة القرامطة، حركات فكرية واجتماعية تحمل بذوراً إشتراكية تاريخية لزمن قديم.

وفي تحليله لحركة بابك الخرمي الفارسي يرى جوزي أنها "تختلف عن غيرها من الحركات الثورية السابقة بأمرين خطيرين: تنظيم الحركة ثم غايتها. أما تنظيم الحركة فيظهر أولاً في نجاحها وسرعة انتشارها وثبات أصحابها أمام عدوهم، ثم في إقبال الناس عليها إقبالاً غريباً غير معهود، واشتراك عدد كبير من الأمم المجاورة لبلاد الفرس من أكراد وأرمن وروم وغيرهم من قبائل ما وراء القوقاس الصغيرة، اشتراكاً فعلياً يدل على اتفاق سابق وشعور قوي بالمصلحة العامة".

ثم يتساءل عن الأسباب التي حببت إلى تلك الطبقات والأمم المغلوبة الدخول في الدعوة البابكية. ويجيب عن تساؤله، استناداً إلى ما كتبه المؤرخون المسلمون عن حركة بابك، فيقول: "إن أهم العوامل التي ساعدت على نشر دعوته بين الطبقات والأمم المذكورة لم تكن دينية، ولا سياسية، بل اجتماعية واقتصادية. تؤكد ذلك أفعال بابك وأشياعه يوم كانت القوة في أيديهم، ثم برنامجهم الذي لا أثر فيه للعوامل الدينية والسياسية". وهو يميل إلى الإعتقاد "بأن غرض الحركة البابكية لم يكن مقاومة الإسلام وذويه، ولا العرب كأمة قائمة منتصبة، كما كانت الحال في الحركات السابقة على حركة بابك في بلاد العجم، بل محاربة ذلك النظام الإجتماعي الذي كانت تئن تحته الطبقات السفلى من جميع الأمم التي كانت تتألف منها وقتئذ دولة بني العباس، بما في ذلك الأمة العربية نفسها من دون أن يشترك أبناء هذه الأمة فعلا في الثورة البابكية. ذلك أن بابك وأتباعه كانوا يرمون إلى هدم ذلك النظام المستند إلى أصحاب الأملاك (الدهاقين) ورؤساء الدين والجيوش المسخرة المأجورة، وابداله بنظام جديد ليس فيه طبقات، ولا نزاع مستمر بينها، ولا ظالم ومظلوم، ولا غني وفقير، ولا سيد وعبد، ولا كبير وصغير، إبداله بنظام مبني على العدل والإخاء والمساواة."



حسين مروة



يتابع بندلي جوزي تحليله للظاهرة البابكية فيؤكد ما سبق أن قاله بأن "بروغرام بابك ومازيار وسائر اشتراكيي أذربيجان وطبرستان كان يحتوي على مسائل اجتماعية واقتصادية فقط، يكمن جوهره في مسألتين أساسيتين هما:

1 - نزع الأراضي الواسعة من أربابها الذين اغتصبوها سابقاً من الفلاحين أو الدولة، وتوزيعها مجاناً على المزارعين المحتاجين إليها.

2 - تحرير المرأة الشرقية، الإيرانية على الأقل، من عبوديتها الأبدية، وإعطاؤها أهم ما للرجل من حقوق".وإذ يعتبر الكاتب أن الإسماعيلية – وهي في أصولها وجذورها تعود إلى الشيعة العلوية كما يقول - هي استكمال في المسألة الإجتماعية لبرنامج بابك الخرمي، فإنه يرى اختلافاً بينها وبين البابكية في الأهداف السياسية والدينية. لكنه يعتبر القرامطة جزءاً متفرعاً من الإسماعيلية ومكملاً لها، لكن في ظروف وفي أشكال وفي أغراض مختلفة. ولعل الحركة القرمطية، في نظر الكاتب وفي نظر كثيرين، هي الأكثر وضوحاً في برنامجها الإجتماعي، والأكثر ثباتاً واستقراراً، والأكثر اتساعاً في حركتها في مواجهة الخلافة العباسية. إذ هي استطاعت أن تقيم لها نظاماً سياسياً ودولة وجيشاً، وأن تضع برنامجاً اقتصادياً إجتماعياً لعله الأكثر وضوحاً بين تلك الحركات. ومعروف تاريخياً أن البحرين وعمان كانتا من المراكز الأساسية لدولة القرامطة، التي أقاموا فيها نظامهم قبل سحق جيش الخلافة لهذه الدولة بعد سنين طويلة من الحروب. ويقول جوزي، في شرح برنامج القرامطة، على لسان أحد المؤرخين أن "حماداً (زعيم القرامطة)، بعد أن بنى "دار الهجرة" ورتب أمورها، عرض على من أحب ممن دخل في دعوته أن يؤدي ضريبة أخرى سماها "البلفة". وهي ضريبة خاصة يؤديها من يشترك في "عشاء المحبة" (Agapi)، أي أن يأكل من "خبز الجنة"، أو كما سماه حماد نفسه "غذاء اهل الجنة" الذي كان يأتيه من إمام الزمان تواً. وزاد بعض الكتبة أن حماداً، بعد أن وضع على أصحابه "البلفة"، دعاهم أن يؤدوا لدار الهجرة خمس ما كانوا يملكون أو يكتسبون، فلبوا دعوته راضين، ثم قدروا أملاكهم ودفعوا عنها الخمس فرحين، حتى كنت ترى المرأة تقدم للداعي خمس غزلها، والفاعل خمس أجرته. فكانت هذه الضريبة قسطاً يدفعه الشخص إلى صندوق الاخوية. إلا أن حماداً لم يكتف بهذه الضرائب، بل أمر أهل القرى التي دخلت في دينه أن يحملوا إلى محل واحد كل ما يملكون. فلما جمعوه جعله مشاعاً بين الأعضاء يتولى توزيعه رجل منهم ذو ثقة. فكان يجمع ما يحضره الأعضاء من أثاث وحليّ وثياب ومأكولات ومال، ثم يوزعه على المحتاجين من القرامطة، حتى لم يبق بينهم فقير. فكنت ترى الرجال منهم يشتغلون برغبة ونشاط، والنساء يحملن إلى "بيت الجماعة" ما كنّ يكسبنه من المال، حتى أن الأولاد الصغار أنفسهم كانوا يقدمون إلى مدير البيت ما يأخذونه من الجعالة من أصحاب البساتين التي كانوا يحرسونها في النهار ويطيرون الطير عن أشجارها وبُقولها، حتى لم يعد أحد يملك لنفسه إلا سيفه وسلاحه".

هذه الإشارات التي قدمتها حول كتاب "تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام" تبين بوضوح منهج بندلي جوزي في قراءة التاريخ وفي تحليل أحداثه. وهو منهج ماركسي يقوم على قاعدة المادية التاريخية. السؤال الذي يمكن طرحه اليوم: ما دقة هذا المنهج في قراءة ذلك التاريخ القديم وأحداثه؟ لا جواب عندي.



غير أن لبندلي جوزي كتاباً آخر لا يقل أهمية عن الذي توقفنا عنده، هو الكتاب الذي ضمّ عدداً من أبحاثه ودراساته التاريخية والإقتصادية واللغوية. وقد عمل على جمعها والتقديم لها كل من ناجي علوش وجلال السيد. وصدرت عن دار الطليعة في 1977. تشير بعض فصول الكتاب إلى استمرار اهتمام جوزي بالتاريخ الإقتصادي والإجتماعي للإسلام. فهو يقدم أبحاثاً جريئة حول الخراج في الإسلام، وحول السياسة الإقتصادية للخلفاء. ويتوقف عند الأمويين في عدة فصول. ويفرد ثلاثة فصول لمسيلمة الكذاب. ولا أرى ضرورة للخوض في كل من هذه الدراسات، لأن المهم، من وجهة نظري، في ما رمى إليه بندلي جوزي في مجمل كتاباته حول تاريخ الإسلام، لا يتصل بالجانب الديني في الإسلام بقدر ما يتصل بالجانب الإقتصادي والإجتماعي. وهو ما ظهر بوضوح في كتابه الأصلي "تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام".

أما اهتمام جوزي باللغة، وبفقهها وبمظاهر التقدم والتخلف فيها، فهو موجه إلى أصحاب الإختصاص في الدرجة الأولى. وهو لذلك يدخل في أبحاثه اللغوية تلك في سجال مع لغويين معروفين، فيختلف معهم في أمور، ويدقق لغوياً وتاريخياً في أمور أخرى تتصل خصوصاً بجذور الكلمات العربية وبأصولها. ويؤكد في بحث بعنوان "مواد لغوية" حاجة اللغة العربية إلى وضع معجم كبير، بالإشتراك مع علماء اللغة من المستشرقين الذين سبقونا إلى البحث في فلسفة لغتنا وفي أصولها. وهو يقترح على علماء اللغة العرب الإستعداد للإشتراك مع المستشرقين في وضع هذا المعجم.

ويقول الكاتب في بحث آخر في الكتاب بعنوان "صفحات من تاريخ التمدن عند العرب: المفردات اللاتينية في اللغة العربية": "يعتقد بعض الناس أن جزيرة العرب قبل الإسلام عالم مستقل، ولم تتأثر بالثقافة الأجنبية، ولم تؤثر فيها إلا في أشياء وأحوال محصورة، وذلك لقلة الروابط بينها وبين سائر الأمم المتحضرة القديمة، وصعوبة المواصلات الناتجة عن فقد الأمن في البلاد العربية، ووعوثة الطرق، ولقلة ما كانت تصدره البلاد العربية من البضائع، ولبعد المسافة بين أسواقها الداخلية وأسواق البلاد المجاورة لها. إلا أن البحوث العلمية الأخيرة عن تاريخ العرب قبل الإسلام والآثار التي عثر عليها في بلاد اليمن وغيرها، دلت على عكس ما يظن من اعتزال جزيرة العرب عن الحركة التجارية العالمية التي هي أعظم عوامل التعارف والتقارب بين الأمم، مهما بعدت بلادها وتعددت صعوبات الوصول إليها. فقد تبين من بحوث العلماء أنه كانت لجزيرة العرب علاقات تجارية عمرانية وتاريخية دائمة مع الأمم المجاورة لها، بل البعيدة عنها كالهند. كانت تأتيها البضائع من بلاد العجم وما بين النهرين والولايات البيزنطية. وكنت ترى في أسواقها السنوية، ولا سيما سوق عكاظ، تجاراً وغير تجار من البلاد المذكورة. والقرآن يشهد أنه كان لتجار مكة رحلتان في الصيف والشتاء، إحداهما إلى سوريا وفلسطين والأخرى إلى جنوب جزيرة العرب، فضلاً عن رحلات تجارية أخرى. أما الأفراد الذين كانوا يأتون البلاد العربية لغير التجارة كالهرب من الاضطهادات الدينية التي كان يثيرها عليهم رجال الدين والملك، أو كطلب الرزق، فأمرهم معروف. كما أن بعض سكان مكة وغيرها قبيل الإسلام ساحوا في الولايات البيزنطية الشرقية، بل زاروا عاصمتها ليقتبسوا من الثقافة اليونانية والرومانية ويقفوا فيها على الحركة الدينية التي كان يبلغهم صداها".

ورغم أن كتابات بندلي جوزي كانت قليلة فإن ما نشر منها، وما تضمنته الكتب التي توقفت عندها، يشير إلى أهمية هذا المفكر الفلسطيني وإلى دوره الريادي في البحث العلمي الجريء في تاريخ العرب القديم، السياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي، بما في ذلك بحثه في اللغة وفقهها وأصولها.


MISS 3