عيسى مخلوف

"رأسُ الوعل" لِراما وهبة

26 حزيران 2023

02 : 00

رأس الوعل

يبدأ الديوان من عنوانه: «رأسُ الوعل» (دار التكوين). إنّه النوتة التي تُعلن الإيقاع العامّ لمجموعة شعريّة أولى (هي جزء من سلسلة يُشرف عليها أدونيس) تحمل توقيع الشاعرة السورية راما وهبة التي تعلن منذ البداية أنّ «دمَ هذه الأرض محمولٌ فينا». هكذا تبدأ رحلة التيه والبحث عن موطئ قدَم.




من جهة الموسيقى، تأتي هذه المجموعة، ليس في إشاراتها وإحالاتها فحسب، بل أيضاً في تدفّق كلمات تُخرجها الشاعرة من قوالبها الجامدة، وتنفث فيها السُّمّ المُحيي: «ذلك النصف العاري من الموسيقى»، و»الصمت الذي يصبح ملموساً». تأتي من «المكان الذي تدخله الشمس ببلّورات الماء/ حيث لا نحتاج أحداً لكي نحبّ».




تشيح راما وهبي النظر عن حفلة التهريج الكبيرة وتذهب نحو الجوهر، في عالم قد تختصره عبارة وردت في فيلم «صراخ وهَمس» لـِ إنغمار بيرغمان: «إنّه نسيج من الأكاذيب. كلّ شيء كاذب». الكلمات، هنا، لا تصف ولا تروي، لا تبكي ولا تنوح. تقول العالم بطريقتها الخاصّة. تدعونا إلى «تأمُّل اللوحة التي يرسمها الخواء»، وتتحدّث عن «الوضوح في الموت» حيث «يرى الحبّ نفسه»: «أمام هذا الجدار/ فشلنا مراراً في انتزاع قلبينا».



راما وهبة



في هذا السياق، يأتي الكلام عن الحبّ والجنس، في اتحادهما وانفصالهما، وتعلو نبرة الصوت الذي يجمع الوميض والتلاشي: «حملتُ طعمَ الوصول والرقص في دوائر/ لأُقبّل الربيع بعد زواله وتلتهمني الشفة العمياء/ لكنّني لم أعرف كيف أحرس الوقت/ حين أخذني قلبك عميقاً/ إلى تلك الحفرة/ من التراب»... الجنس، هنا، ليس ما عَناه أدونيس في الكلمة التي نُشرت على الغلاف الأخير للديوان. إنّه الجنس الآخر: الثمرة التي تنطوي على نواة يتزاوج فيها الموت والحياة معاً، بالصورة التي تفصح عنها الكلمات الآتية: «أحضرتُ لكَ الكأس البلّوريّة لوردة دمك»، و»لم أعد أذكر الكلام الذي تبادلناه/ ونحن نتأمّل الهوّة بيننا». ألا يحيلنا هذا الشِّعر إلى ذلك الرائي القائل: «أليست الكلمات والأصوات أقواس قُزَح، وهي، بين كائنات منفصلة إلى الأبد، مظاهر جسور؟».




ثمّ يأتي هذا البوح الفاضِح في التفاته إلى شرط الكائن المُستلَب الذي لا يحتاج التعبير عنه إلى المجاز والمزيد من الحُجُب: «أكثر ما أخشاه أن تصبح ابنتي/ مثلي/ أن تحبّ الموسيقى حياةً بأكملها/ ولا تتمكّن من الرقص إلّا بأقدام الآخرين». كأنّها تقول: لا أفهم كيف يمكن لمن يحبّ الموسيقى ألّا يكون مثلها حرًّا بالمُطلَق! ألّا يعبث باليوميّ، ولا يترك النوافل تتحكّم في حياته وموته!




قصائد قليلة نُشرت إثر صدور هذا الديوان، وهي تذهب في الاتجاه نفسه، نحو المناطق الأكثر غَورًا، حيث الكتابةُ نَبْشٌ في اللغة والجسد والذات العميقة. في هذه القصائد، تتحدّث الشاعرة عن «ملامسات/ في الورديّ الذي يلين/ وكلّ تُوَيج شَرِه بما يكفي لذبح الندى»، وعن الموت الصغير الذي اختصره ابن عربي بقوله: «الحبُّ موت صغير». تخاطبُ «أورفيوس»: «هذا الليل يثني ركبتيَّ/ سأمكث هنا وأنحت لسانك/ نستسلم/ للزهرة الجبليّة/ تلك المقذوفة نحو الأعلى بهُيامات/ والبرّيّ المحترق في أحشائها/ ما يُطِلّ على الدمع».




في هذه الكتابة، يصبح الإنسان جزءاً من حركة الأشياء التي تحيا وتموت، بل نقطة في الطبيعة الشاسعة، كما تطالعنا في منمنمة يابانيّة. ساكنة في ظاهرها، لكنّها في العمق لغة انتهاك وفَضح. تكشف بقَدر ما تُبطِن وما يتحرّك في إيقاع مَوجِها المكتوم.




شعر راما وهبة هو شعر الحدس المثقَّف الذي لا يستعرض المُختَمِر في ذاته، بل يتركه ناراً خبيئة كنبض قلب. هو الشعر الذي لا يزال يتأمّل ويتساءل، بهذه البساطة البديهيّة القصوى: «تخيَّل أن يمرّ هذا النهار بلا عاطفة». الشعر الذي يتحدّث عن «الفراغ الذي يعرّي الأجنحة»، و»الطائر الذي حلّق منذ قليل/ ولامس عزلتك». عن «كؤوس النبيذ الرقيقة»، و»وجوه الذين رحلوا»، ليتكشّف أخيراً «رأس الوعل المتدلّي فوق رؤوسنا». إليه تشير راما وإلى تراجيديا الوضع الإنسانيّ وصورة الحيوان الذبيح، وذلك كلّه بلُغة تخلَّت عن تَحَجُّرها وقداستها لتصبح شيئًا آخر بعدما لامست جروحَ الجسد والروحِ كجناح يلامس صفحة الماء الساكن.




ها هي شاعرة تولد أمامنا اليوم معلنةً عن فجر «لم يولد بعد»، فيما يزداد الحديث عن موت الشعر، وتراجُع الفكر، وضُمُور الثقافة!


MISS 3