إرتبط اسم الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير بالعمل الثقافي في الجسر ما بين العالم العربي وأوروبا عموماً وفرنسا خصوصاً. فعلى مدى نحو أربعة عقود، عمل في الحقل الديبلوماسي وكتب وترجم ونشط في مؤسسات ومنابر دولية ثقافية. وهو اليوم مرشّح لإدارة معهد العالم العربي في باريس. هكذا، وإن أصر على هويّته كشاعر، تحضر هذه العناوين في اللقاء معه. وتحمل في طيّاتها أسئلة الماضي والراهن، عن الثقافة العربية ومدنها ومساحاتها التي تضيق في ظل «الإلتهاب السياسي الديني»، وعن القصيدة والحداثة واتجاهات الشعراء الجدد. ولمناسبة صدور مختاراته الشعرية تحت عنوان «خيانة الألم» عن «دار النهضة العربية» هذا الحوار.
أنت من العاملين بنشاط كجسر بين الثقافتين العربية والأوروبية عموماً والفرنسية خصوصاً، هل كان ذلك قراراً أم فرضه مسار حياتك؟
هو في الواقع ليس قراراً من عندي. كنتُ معارضاً لنظام صدام حسين، ووصلت إلى باريس عام 1974. وبعد عامين من إقامتي أسقطت عني الجنسية ورفضت السفارة العراقية تجديد جواز السفر وهدّدتني إذا ما رأتني في محيطها ستطردني. أصبحت بلا جواز سفر عراقي، وبدأت سيرورة جديدة من البحث عن هوية تؤويني. عندما تسقط عنك هوية الوطن، وأنت في الخارج، تغدو لا شيء. لا أحد يعترف بك. بدأت بالنسبة إلي الرحلة الحقيقية.
القيام بدور الجسر، كما تسمّيه، قرار لم أتخذه أنا. هذا نتج بشكل تلقائي من حياتي واهتماماتي وعلاقاتي وكتاباتي وترجماتي. إنه تحصيل حاصل، وتكوّن خلال أربعة عقود من العلاقات والكتابات والترجمات، من العربية إلى الفرنسية والعكس. وهناك جانب آخر هو العمل في الحقل الديبلوماسي، فبعدما أسقط العراق عني الجنسية أعطاني اليمن الجنوبي الجنسية وصرت مستشار سفارته في باريس. وهذا فتح لي آفاقاً مهنية في العمل الديبلوماسي، بالاضافة إلى عملي الشعري. وبعد سقوط نظام صدام حسين استعدت هويّتي وصرت ديبلوماسياً عراقياً.
كيف تناغم بين الديبلوماسية والثقافة؟
بالنسبة إلي، الشعر هو الأمر الأساسي في حياتي. أنا قبل كل شيء شاعر، وأكتب القصائد وأتمتمها منذ سن الرابعة عشرة. وهذه قضية ليست من اختياري أيضاً. الشعر موجود بالفطرة أيضاً. لكن العمل الديبلوماسي مكتسب. اكتسبته بعدما دخلت إلى السفارة اليمنية الجنوبية وصرت مستشارها. آنذاك، اكتشفت هذه المهنة ودخلتها بقوة، واصبحت إحدى الشخصيات الديبلوماسية في باريس. وبعد التجربة اليمنية، انتقلت إلى اليونيسكو واصبحت مدير مشاريعها في المنطقة العربية. فاستمررت ديبلوماسياً في منظمة دولية. العمل الديبلوماسي أصبح مهنة مكتسبة، بينما الشعر فطرة، لكن بينهما علاقة مهمة.
ما العلاقة بينهما؟
العلاقة هي اللغة. أين يعمل الديبلوماسي؟ يحمل سلاحاً؟ الديبلوماسي يشتغل في اللغة، والشاعر يشتغل في اللغة. يتعلم كل من الآخر. لغة الديبلوماسي تتشذب بالشعر وتصبح أكثر اختزالاً، ولغة الشاعر تستفيد من الديبلوماسي، بحيث تصبح أكثر وضوحاً.
أتقصد أن لغة كل من الشعر والديبلوماسية تتأثر بالأخرى؟
كلا، لا يوجد شيء يؤثر مباشرة أو لا يؤثر. الأشياء الحقيقية تظهر للسطح لوحدها. أنت لا تبحث وراءها. حين تتكثف المعرفة باللغات والثقافة يظهر ذلك في شكل الكتابة. الشاعر الذي لا يمتلك ثقافة تراه يتكلم بالعواطف فحسب، أمّا الشاعر الممتلئ بالمعرفة تجد عنده اختزالاً. هذا يأتي بشكل متنام مع زيادة التجربة والمعرفة.
كيف ترى المشهد الثقافي العربي من باريس؟
للمشهد الثقافي العربي مستويان. في مستوى أول، هو غني جداً بالمعادن الثمينة، لكنها خامات. لا يوجد إنتاج أو تصنيع حقيقي. خامات متناثرة مبعثرة هنا وهناك. لا سياسة ثقافية، ولا اهتمام أو عناية أو استثمار. ثروة حقيقيّة غير مستثمرة.
والمستوى الثاني يتبدّى حين تقرأ الأدب أو الشعر العربي، وأنا أقرب إلى الشعر من الرواية، تشعر بأن أبوة الشعر غربية. الشعراء اليوم هم أحفاد أليوت وآراغون ورامبو وبودلير ووايتمان. هم أحفاد هؤلاء، أكثر مما هم أحفاد المتنبي وأمرئ القيس وبدر شاكر السياب. الشعراء العرب كافة اليوم هم أكثر ارتباطاً والتصاقاً وتقليداً أحياناً بالشعر الغربي. نادراً ما أجد شاعراً عربياً جديداً وأشعر بأن لديه مفردات أو رؤية تذكرني بماضي الشعر العربي.
هل تعتبر ذلك سلبياً؟
كلا. هذا تشخيص، ولا اعتبره سلبياً. وهو نتيجه طبيعية. حياتنا كلها من إظفرها إلى شعر رأسها كلها إنتاج غربي.
لك قول معروف هو أن العرب متلقون ومستهلكون في كل شيء إلا بالثقافة، هل يتناقض ذلك مع ما تقوله الآن؟
ما قلته سابقاً صحيح، ولا تناقض فيه مع ما أقوله الآن. المعطى الثقافي هو الإنتاج الحقيقي الوحيد الموجود في المنطقة والحياة العربيتين. ماذا ينتج العرب؟ لا شيء غير الرواية والقصيدة والمقطوعة الموسيقية والفيلم السينمائي. هذا هو الإبداع الثقافي. ليس عندنا إنتاج آخر. إذا ما أردنا منافسة أوروبا... بماذا نفعل؟ بالفن والأدب. آخذ فيروز وأدونيس وعدداً من الروائيين. هذا ما أستطيع ان آخذه. لا أملك غيرهم. أنا أقول إن هذا بمرجعيته الغربية هو إنتاجي الوحيد الذي اعتبره الخندق الذي أستطيع من خلاله أن اثبت هويتي، وأن أقول أنا موجود أنا لست ملحقاً بكم. ولكن، أنا بالبدلة خاصتي، وبالآيفون خاصتي، وبالطيارة خاصتي، أنا ملحق بكم.
هذا ما أُريد قوله. وبهذا المعنى، العرب مقصرون جداً. إنهم لم يستثمروا كما يجب في هذه المنطقة التي يتحقق وجودهم فيها، وهي الأدب والفن. لم يستثمروا في هذا. وأنا حينما أُطلق هذا النداء، أريد أن أقول: يا عرب، يا دول عربية، لديكم ثروات هائلة يمكن أن تستثمروها ولو بجزء ضئيل.
هناك مؤسسات عربية رسمية وغير رسمية تعمل على الثقافة كيف تقيمها؟
هذا موجود وإيجابي. هناك جوائز ومؤسسسات تطبع، ولكن لا يوجد سياسة استراتيجية حقيقية تستخدم كل شخص في دائرته. هذا يقدم جائزة، وذاك يطبع كتاباً. حسناً، هذا جيد، ولكنه لا يكفي. يجب أن تكون هناك مشاريع استراتيجية مدروسة بعمق وتتحقق على مراحل. أنا عملت مشروعاً واحداً من هذا النوع، هو «كتاب في جريدة»، وحقّق ثورة بقليل من الأموال. وهناك مشاريع كثيرة يمكن العمل عليها. اعطيك مثلاً بسيطاً: لا يوجد في أي من البلدان الغربية، الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية، من يُعنى بنشر الإبداع في العالم العربي. إن مجلة شهرية أو أسبوعية تقدم للعالم منتخبات من الإنتاج الإبداعي في المنطقة العربية، تجعلك تقول لأبناء اللغات الأخرى «انظروا ماذا لدينا!». هذا يجعلك تفرض اسمك وتضع بصمتك. يمكننا أن نفعل، مثلاً، ما يقوم به الأفارقة الذين ينتجون مجلة Présence Africaine.
في ظل هذا، كيف ترى بغداد والقاهرة وبيروت الآن، كيف تقيم المشهد الثقافي في هذه العواصم التي كانت أساسية؟
القاهرة وبيروت وبغداد كلها في تراجع. كلها عندما يجري الكلام عن الثقافة فيها يكون عن مرحلة الستينات من القرن العشرين. كلام عن مدن وثقافة قبل خمسين أو ستين سنة. هو حنين لأنه كان هناك، في الستينات، نبض حقيقي وجديد، ولكنه انتهى وذهب. الآن، دخلت عناصر غريبة عجيبة. نحن أمام انهيار. هناك تصحر ثقافي.
ما السبب؟ لقد ركزت على غياب السياسات، ولكن هناك ايضاً واقع اقتصادي وأنظمة وحروب؟
الواقع الاقتصاي ليس سلبيّاً بشكل عام، وفي البلدان العربية كلّها، هناك دول غنية. والواقع الابداعي موجود، ثمة شعراء وروائيون وفنانون. السبب سياسي واجتماعي. سياسي لأن السلطات تخاف الثقافة. الحكام كافة يخافون الثقافة. واجتماعي لأن الناس ضائعون، اخترقتهم التيارات الدينية وخصوصاً المتطرفة منها، وصار هناك نوع من الالتهاب. المجتمعات العربية مثل جسد ملتهب. الموضوع الديني ملتهب. لم تعد مسألة أن تكون متديناً أو غير متدين. الساحة الدينية ساحة ملتهبة بالدم وبالنار، وملتهبة بالتطرف وبالخرافة. ملتهبة بكل أشكال التطرف. وهذه هي أوسع الساحات واكبرها.
هذا برأيك أبعد الناس عن الثقافة؟
أبعد الناس وجعلهم يفكرون في أمور أخرى. حرفهم. بينما سابقاً، في الستينات، كان كل واحد في مكانه. رجل الدين في المسجد، والشاعر والأديب في مكانه. كل واحد في عالمه. الآن تداخلت الأمور.
القصيدة العراقية كانت دائماً ذات خصوصية، صوتاً منفرداً وغنياً... كيف تراها اليوم، وأين موقعها في القصيدة العربية؟
يبقى العراق، منذ فجر التاريخ، ينبوعاً حقيقياً للإبداع الشعري والتشكيلي. من جلجامش حتى اليوم، هذه المنطقة أم الشعر، وأعطت أعظم الشعراء وما زالت تضخ مثل الينابيع هذا النوع من الإبداع، وأقصد به الشعر. لعلّ لهذا الإبداع علاقة بطبيعة الحياة، بتوتر الشعوب. الشعر لا يولد في لحظات الرخاء والارتخاء. الشعر جنين الميلودراما والتوتر.
الآن، تذهب إلى بغداد تجد مئات الشعراء، ولكن الأمر مبعثر وغير موظَّف. تماماً مثلما هي الحال في البلدان العربية الأخرى، هناك شعر مهم وممتاز يُكتب.
النصوص في الفضاء العربي اقتربت من بعضها، بات هناك تشابه أكثر. وأربط ذلك باللغة. اللغة تبسطت. لم يعد هناك شعراء يبحثون عميقاً داخل اللغة ليجد كل واحد منهم عالمه. أصبح هناك نوع من اللغة المشتركة. واللغة ضاعت في الشعر الحديث. الأهمية باتت اكثر للرؤية، للمفاجأة والمباغتة والصورة. لم يعد هناك شغل على اللغة كما كان الأمر مع جيلنا والجيل الذي سبقنا.
وماذا عن معركة الحداثة في الشعر العربي؟
فرضت نفسها. بكل بساطة، قم بجرد للشعر الذي يكتب الآن، أكثر من 90 في المئة منه نثر.
مختارات «خيانة الألم»
تحمل مختارات الشاعر شوقي عبد الأمير، التي اختارها واعتنى بها محمود وهبة والصادرة حديثاً عن «دار النهضة العربية» في بيروت، عنوان «خيانة الألم». وقد أُختير هذا العنوان لكونه يعبّر عن رحلة الشاعر على مدى أربعة عقود. يقول عبد الأمير إن «المبدع حين يُخرِج من التراجيديا التي يعيشها جوهرة، سواء أكانت مقطوعة موسيقية أم نصّاً أدبياً أم شعرياً، يخون الألم. وهذا ما فعلته أنا: خيانة الألم».
ومنها هذه القصيدة:
كل صباح، عندما أستفيق
لا أبحث عن خبر،
الأخبار تتساقط مطراً أسودَ
من غيوم كهرو- مغناطيسية صرنا نسميها الشاشات..
ولا عن شريك،
الكلُّ مدفون إما في الأرض
أو في القلب
ولا عن عدو،
آخيت كلَّ أعدائي
كي أنساهم
ولا عن مكان،
فقد تركتها كلّها معلقة
كالملابس في خزانة الذاكرة
ولا عن كلمة،
لغتي اليوم هي إهابي المدمّى
مذ صارت صمتي الأعظم
كل صباح، عندما أستفيق
أبحث عنكِ
لا لأنك عصيّة أو بعيدة أو حتّى مستحيلة..
بل لأنني لا أعرف حتّى الآن،
مَن أنتِ...؟