كليف كابتشان

6 دول متأرجحة ستقرّر مستقبل العالم الجيوسياسي

3 تموز 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

الرئيس الروسي بوتين ونظيراه الهندي مودي والتركي أردوغان في قمة البريكس في جوهانسبورغ | 27 تموز 2018

في الشهر الماضي، قام الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بجولة خارجية نادرة، فأمضى أسبوعاً في مدينتَي جدة السعودية وهيروشيما اليابانية. لقد أراد بهذه الطريقة أن يكسب دعم البرازيل، والهند، وإندونيسيا، والمملكة العربية السعودية: بقيت تلك القوى الأربع على هامش الحرب الروسية في أوكرانيا، ويبدو أن هذه الدول ومجموعة أخرى من البلدان الرائدة في الجنوب العالمي تتمتّع بالنفوذ اليوم أكثر من أي وقت مضى. ينجم هذا الثقل الجيوسياسي المستجدّ عن تأثيرها المتزايد، واستفادتها من سياسة «الأقلمة»، وقدرتها على حصد المنافع من توتّر العلاقات الأميركية الصينية.



تتمتّع القوى المتوسطة اليوم بنفوذ غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، وهي تشمل بلداناً ذات ثقل جيوسياسي كبير، لكنها أقل تأثيراً من أهم قوتَين عُظميين: الولايات المتحدة والصين. في الشمال العالمي، تضمّ هذه القوى فرنسا، وألمانيا، واليابان، وروسيا، وكوريا الجنوبية، وسواها. باستثناء روسيا، لا تعكس هذه البلدان حقيقة التغيّرات الحاصلة على مستوى النفوذ والتأثير، فهي لا تزال مصطفّة مع الولايات المتحدة بشكل عام.

في المقابل، تبدو القوى المتوسّطة الرائدة في الجنوب العالمي أكثر إثارة للاهتمام وتشمل البرازيل، والهند، وإندونيسيا، والسعودية، وجنوب أفريقيا، وتركيا. لا تصطفّ هذه الدول المتأرجحة بالكامل مع أي من القوى العظمى، ما يعني أنها تستطيع إنشاء ديناميات جديدة في أعلى مراتب السلطة. ينتمي جميعها إلى مجموعة العشرين ويؤثر على ظروف الجغرافيا السياسية والاقتصادية. تشكّل هذه الدول الستّ أيضاً انعكاساً للنزعات الجيوسياسية السائدة في الجنوب العالمي.

أدّت هذه الدول المتأرجحة دوراً مهماً في مجال العقوبات ورسم مشهد الحرب في أوكرانيا، فقد رفضت منذ البداية المشاركة في حملة المساعدات العسكرية الغربية إلى كييف مقابل فرض العقوبات على روسيا. من وجهة نظرها، تؤثر الحرب على أمن أوروبا، لا العالم، ولا ترتبط بمصالحها الوطنية على مستوى التنمية، وخفض الديون، والأمن الغذائي، وأمن الطاقة، ومجالات أخرى.

لكنّ أكبر تأثير لهذه الدول في زمن الحرب يتعلّق بدورها القيادي في معارضة العقوبات الغربية ضد روسيا، حتى أنها أضعفت قوّة تلك العقوبات في بعض الحالات. كانت تركيا واحدة من بلدان عدة شاركت في نقل كميات كبيرة من المعدّات ذات الاستخدام المزدوج إلى روسيا، فانتهكت بذلك جوهر العقوبات الغربية وبنودها. سبق وفرضت الولايات المتحدة العقوبات على أربع شركات تركية بسبب هذه النشاطات. في الوقت نفسه، حافظت القوى المتوسطة الأخرى بمعظمها على موقف حيادي عموماً، مع أن جمهورية جنوب أفريقيا تبدو أكثر ميلاً إلى روسيا. كذلك، حافظت هذه الدول الستّ على علاقاتها التجارية وروابط أخرى مع روسيا منذ بداية الحرب أو وسّعت نطاقها.

يتّضح تأثير القوى المتوسطة في الجنوب العالمي عبر مبادرات الوساطة أيضاً. تُعتبر تركيا القوة الخارجية الأكثر تأثيراً على الحرب في أوكرانيا. كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أبرز المفاوضين في صفقات الحبوب، وشارك في محادثات السلام في بداية الحرب، وهو مُخوّل بتسهيل أي محادثات مستقبلية إذا قرّرت الأطراف المتناحرة التحاور. كذلك، أطلق الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا مبادراته الخاصة. في غضون ذلك، طرحت الهند نفسها ضمناً كوسيطة سلام مستقبلية. تستطيع هذه الدول اليوم أن تؤدّي دور الوساطة في صراعات أخرى. تحتلّ الهند تحديداً مكانة متقدّمة في هذا المجال، فقد بدأت تقدّم أصلاً 8% من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بدءاً من شهر شباط. كذلك، تضطلع إندونيسيا وجنوب أفريقيا بأدوار الوساطة وحفظ السلام.

لكن يؤدي التركيز المفرط على دول «بريكس»، باعتبارها القوة الأساسية التي تسمح بالتصدّي للهيمنة الغربية، إلى إخفاء الجوانب اللافتة في الجنوب العالمي، لأن ضمّ الصين وروسيا إلى مجموعة «بريكس» يخفي تنامي نفوذ الدول المتأرجحة.

أصبحت الصين اليوم واحدة من قوتَين بارزتَين في عالم ثنائي القطب. من غير المنطقيّ أن تُعتبر الصين جزءاً من الجنوب العالمي لأن قوّتها الاقتصادية وطموحاتها الجيوسياسية المتوسّعة تمنحها طابعاً مختلفاً. روسيا قوة متوسطة، لكنها تشهد تراجعاً واضحاً. كما أنها رجعية جداً في طريقة تعاملها مع العالم، ولا تشاركها الدول المتأرجحة في الجنوب العالمي رؤيتها. بعبارة أخرى، يُفترض أن تُفَسَّر سياسات أنشط دولتَين من الناحية الجيوسياسية في مجموعة «بريكس» بمنطق يختلف عن نهج الدول المتأرجحة.

لكن هل ستصبح مجموعة «بريكس» مؤسسة أكثر رسمية تحت إشراف الصين التي تعتبر نفسها ممثّلة الجنوب العالمي؟ هذا الاحتمال يطرح تحدياً واضحاً على الغرب، لا سيما بعد تعبير 19 بلداً آخر عن اهتمامه بالانضمام إلى المجموعة. مع ذلك، من المستبعد أن يتحقق هذا الاحتمال. تبقى الهند دولة مؤثرة في مجموعة «بريكس» ولا شك في أنها ستعارض الجهود الصينية الرامية إلى تعديل المجموعة. تحتفظ السعودية، والبرازيل، وتركيا (عضو في حلف الناتو)، والهند، وحتى جنوب أفريقيا، بعلاقات مهمة مع الولايات المتحدة ودول غربية أساسية أخرى حتى الآن، سواء في المجال الأمني أم التجاري. ربما ابتعدت هذه البلدان عن الولايات المتّحدة بدرجة معينة، لكن لا يعني ذلك أنها ستنضم إلى هيئة تديرها الصين وتدعمها روسيا وتعادي واشنطن. حتى الآن، لم تثبت مجموعة «بريكس» قدرتها على تطوير أجندة مشتركة وتنفيذها، ما يعني أن الصين لا تزال تفتقر إلى القوة المؤسسية الكافية لتعديل الهيئة. أخيراً، تنشط مجموعة «بريكس» على أساس الإجماع، وبالتالي ستزيد صعوبة الاتفاق على القرارات بعد إضافة أعضاء جدد يحملون مصالحهم الخاصة.

قد لا يوافق البعض على اعتبار هذه الدول المتأرجحة الستّ القوى التي تستحقّ الانتباه في المرحلة المقبلة، كونها لا تزال عبارة عن أسواق ناشئة ولم تكن أحداث السنوات الأخيرة إيجابية بالنسبة إلى ذلك الجزء من الاقتصاد العالمي. باستثناء الهند، لم تصل معدّلات النمو هناك إلى المستويات المتوقّعة. كذلك، لا تزال هذه المجموعة من البلدان متأخرة على مستوى تطوير المؤسسات التي تدعم حُكم القانون. ومن المتوقّع أن يواجه الجنوب العالمي تداعيات الثورات التكنولوجية، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، أكثر من الديمقراطيات الصناعية المتقدّمة لأن الموارد التي تسمح بمحاربة العواقب السياسية الخطيرة للذكاء الاصطناعي التوليدي لا تزال محدودة هناك. ورغم النفوذ الذي تحصل عليه الدول المتأرجحة بفضل الأهداف المناخية، قد تُحدِث الآثار المرتبطة بالمناخ أضراراً كبرى وتُسبّب معاناة هائلة في جزء من تلك الدول.

مع ذلك، يمكن الاقتناع بالفكرة القائلة إن هذه الدول أصبحت قوية من الناحية الجيوسياسية وستزداد قوة في المراحل المقبلة. تستطيع هذه البلدان أن تستمدّ نفوذها من أقوى النزعات العالمية، وقد بدأت مظاهر قوتها المستجدّة تتّضح منذ الآن.

تتعلق أهم نتيجة سياسية متوقعة بضرورة أن تُحسّن الولايات المتحدة تعاملها مع الدول المتأرجحة الستّ لتجنّب إضعاف مكانة واشنطن في ميزان القوى العالمي. بما أن هذه الدول ترفض الاصطفاف مع الولايات المتحدة في الحرب الروسية الأوكرانية أو في منافستها مع الصين، بدأ جزء كبير منها يبتعد عن المحور الغربي. نتيجةً لذلك، أصبح احتمال الشراكة الصينية الروسية وتوسيع مجموعة «بريكس» (وبالتالي الجنوب العالمي ككل) خياراً واقعياً يحتاج إلى حلّ.

يجب أن تضع واشنطن استراتيجية دبلوماسية مدروسة للتعامل مع هذه البلدان الستة ومع الجنوب العالمي عموماً. كانت دعوة الدول المتأرجحة إلى الاجتماع الأخير لمجموعة السبع بداية واعدة، لكن تبرز الحاجة إلى خطوات أخرى. تقضي استراتيجية أكثر فاعلية بتنظيم المزيد من الزيارات الرفيعة المستوى عن طريق دبلوماسيين أميركيين بارزين. كذلك، يُفترض أن تشمل السياسة المستجدة استراتيجية تجارية أكثر سلاسة تبدأ بتسهيل الوصول إلى السوق الأميركية. على نطاق أوسع، يجب أن تُحسّن الولايات المتحدة قدرتها على توقّع ردود أفعال الدول المتأرجحة الست والجنوب العالمي تجاه قرارات السياسة الأميركية المؤثرة. تفاجأت واشنطن مثلاً بحجم النفور الذي أحدثته السياسات الغربية الخاصة بحرب روسيا في الجنوب العالمي. منذ بداية الغزو في شباط 2022، تسعى الولايات المتحدة إلى مواكبة التطورات طوال الوقت لكنها لا تبلي حسناً في هذا المجال. لتحسين القدرة على توقّع ردود أفعال الآخرين، تبرز الحاجة إلى فهم مشاعر وقناعات النُخَب في بلدان عدة من الجنوب العالمي.

على صعيد آخر، من المتوقّع أن تتضرّر قوة الدول المتأرجحة وجميع القوى المتوسطة إذا زاد التوتر بين الولايات المتحدة والصين بدرجة قياسية وتحوّلت الاضطرابات بين الطرفين إلى مواجهة صدامية تشبه الحرب الباردة. في هذه الحالة، قد تزيد النزعة إلى فك الارتباط بين البلدَين، فتضطرّ الدول المتأرجحة للانحياز إلى طرف دون سواه.

أخيراً، يرتفع اليوم عدد البلدان التي تستطيع التأثير على النتائج الجيوسياسية في العالم، نظراً إلى زيادة نفوذ الدول المتأرجحة. ما من أنماط سلوكية ثابتة في تلك الدول، باستثناء نزعتها الواضحة إلى تحقيق مصالحها الوطنية.

لهذه الأسباب كلها، زادت العوامل التي تؤثر على جميع المسائل، وبات من الأصعب اليوم توقّع النتائج الجيوسياسية.


MISS 3