عيسى مخلوف

متاهة بورخِس الأخيرة

15 تموز 2023

02 : 01

عاش الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخِس، أحد أبرز كتّاب القرن العشرين، داخل عالم صنعه بنفسه ويتألّف من الكتب التي قرأها والثقافات الكثيرة التي انفتح عليها، ومنها الموروث العربي الإسلامي في محطّات مهمّة تتجلّى خصوصاً في حكايات «ألف ليلة وليلة» والأثر الذي تركه عدد من الشعراء والفلاسفة وفي مقدّمهم ابن رشد. إلى ذلك، كان للعمى الذي أصيب به ورافقه طوال حياته أثرٌ في صَوغ نتاجه الأدبي وفي تأمّلاته الفلسفيّة التي تركت أثرها البالغ في هذا النتاج وأخرجته إلى الضوء المُبهِر.

وإذا كان العمى لم يستطع أن يأسره في متاهاته وممرّاته المظلمة، وأن يمنع كتاباته المتنوّعة، شعراً ونثراً، من الوصول إلى قرّائه في العالم أجمع، فإنّ ماريا كوداما التي أصبحت زوجته قبل شهرين من وفاته، وبصفتها وريثته الشرعيّة، شوَّشَت نتاجه مرّتين. كانت المرّة الأولى حين صدرت مؤلّفاته الكاملة في جزءين عن دار غاليمار الباريسيّة، ضمن سلسلتها العريقة «لابْلياد»، في العامين 1993 و1999. لقد صودرت هذه الأعمال بطريقة بوليسيّة لا تزال بعض أسبابها غامضة. كلّ ما هو معروف في هذا الصدد أنّ الدار الفرنسيّة اضطرّت إلى سحب الجزءين من المكتبات بطلب من أرملة الكاتب التي لم تعترف بأهمّية عمل جان بيار بيرنيس الذي أشرف على الإصدارين اللذين وجدا صدى إيجابيّاً، واعتُبرا مرجعاً أساسيّاً للاقتراب من عوالم الكاتب الأرجنتيني.

شكّل موقف ماريا كوداما حينذاك فضيحة أدبية باتت تُعرَف في باريس باسم «فضيحة بورخس»، إلى أن أُطلقَ سراح الجزءين وأُعيدا إلى رفوف المكتبات بعد سنوات من غيابهما. عُرفَ في وقت لاحق أنّ الوريثة شكّكت في نوعية العمل الذي أنجزه بيرنيس، الباحث والديبلوماسي ومترجم بورخس إلى اللغة الفرنسيّة، ويعزو البعض موقف كوداما السلبي في هذا الموضوع إلى النجاح الذي حقّقه في عمله وليس إلى سبب آخر. نشير، هنا، إلى أنّ جان بيار بيرنيس وُلد في بيروت في العام 1940 وتوفّي في مدينة بيساك الفرنسيّة. تعرَّف إلى بورخس يوم عُيِّنَ ملحقاً ثقافيّاً في السفارة الفرنسيّة في بوينس آيرس، وجعلته صداقته العميقة به أحد أبرز مترجميه والعارفين بنتاجه. ومن المعروف أيضاً أنّ دار غاليمار بذلت جهوداً كبيرة لتقنع أرملة بورخِس بالإفراج عن نتاج زوجها.

في السادس والعشرين من شهر آذار الماضي، توفّيت ماريا كوداما. ومنذ رحيلها حتّى الآن لم يُعثَر على أيّ مُستَنَد عن «تركة» الزوجين، وكانت قد أسرّت إلى بعض المقرّبين أنّها كتبت وصيّتها بخصوص هذه التركة، لا سيّما في ما يتعلّق بكتب بورخس ومخطوطاته وصوره ومحفوظاته المختلفة. لكن، لا أثر لهذه الوصيّة. وفي هذه الحال، سيكون ميراث بورخِس في أيدي خمسة أشخاص من أفراد عائلتها (أبناء إخوتها). هكذا تكون ماريا كوداما قد أدخلت ذِكرى الكاتب في متاهة ثانية جديدة، وكشفت عن طبيعة تعاملها مع نتاجه، ما جعل الوسط الثقافي الأرجنتيني يعبّر عن قلقه حيال مستقبل الإرث الأدبي العظيم لصاحب «كتاب الرمل».

أمّا بورخِس فكان قد خلّد اسم زوجته بإهداءَين تَصدَّرا مجموعتيه الشعريتين: «الرقم» و»المتآمرون»، وجاء فيهما: «في هذا الكتاب توجد الأشياء التي كانت دائماً لكِ (...) كلّ هِبَة حقيقيّة هي هِبَة متبادلة. الذي يعطي لا يحرم نفسه ممّا يعطي، فالعطاء والأخذ شيء واحد. إنّ إهداء كتاب ما، هو، ككلّ أفعال الكون، فعلٌ سحريّ ننظر إليه بوصفه الطريقة الأجمل للتلفُّظ باسم. وها أنا الآن أتلفّظ باسمك، ماريا كوداما».

غير أنّ ماريا الأسطورة تختلف عن ماريا الواقع، وبورخس لم يكن يعيش في هذا الواقع، بل في الكتب التي كانت وطنه الحقيقي، وفي المكتبات التي سكنت مخيّلته، هو الذي تخيّل الفردوس على شكل مكتبة. إلى تلك المكتبة أوى، حتى بعد أن هجَرَته الألوان والقدرة على تبيُّن هيئة الحروف، وأصبح يحتاج إلى من يرافقه ويفتح أمامه الكتب ويقرأها له. ولقد ظلّ، حتّى سنواته الأخيرة، يشتري كتباً ويملأ بها داره، ويصرّح بأنّ الكتاب أحد أسباب السعادة المُمكنة، وأنه، قياساً على ما ابتكره الإنسان، هو الأكثر إثارة للدهشة: «الوسائل والأدوات الأخرى امتداد لجسده: المجهر والمِقراب امتداد لبصره. الهاتف امتداد لصوته، المحراث والسّيف امتداد لذراعه. أمّا الكتاب فهو شيء آخر مختلف تماماً. إنّه امتداد لذاكرته ولمخيّلته».





MISS 3