هل تثق الولايات المتحدة بحركة "طالبان" لمنع تكرار سيناريو 11 أيلول؟

05 : 15

طوال 20 سنة تقريباً، ارتكز التدخل الأميركي في أفغانستان على مصلحة وطنية واحدة: احتمال واضح وحقيقي بتنفيذ هجوم آخر يشبه اعتداءات 11 أيلول انطلاقاً من هذه المنطقة في حال غياب أي جهود فعالة لمنعه. لتجنب هذا السيناريو، طُرِحت استراتيجية أميركية ثلاثية، فشملت نشر قوات أميركية وحليفة في أفغانستان لتنفيذ مهام دقيقة لمكافحة الإرهاب هناك وفي مناطق مجاورة لباكستان، وتدريب القوى الأفغانية الشريكة على تحمّل المسؤوليات الأمنية داخل البلد، ودعم الحكومة الصديقة في كابول بعدما سمحت للقوات الدولية بتنفيذ عمليات ضد التطرف الإسلامي على أرضها.

كانت هذه الاستراتيجية مكلفة وغير مُرضِية، لكنها حققت نجاحاً مقبولاً، فسمحت للولايات المتحدة بالتخلص من معسكرات تنظيم "القاعدة" التي انتشرت في أفغانستان في عهد حركة "طالبان" قبل إسقاطها من الحكم في أواخر العام 2001، ومنعت تجدد تلك البنى التحتية المتطرفة.

بدل أن تبقــى أفغانستان ملاذاً آمناً للمتطرفيــن، حيث يخططون لشن ضربات مدمّرة ضد الولايات المتحدة وحلفائها، تحوّل هذا البلد في العقدين الأخيرين إلى مركزٍ تستعمله الولايات المتحدة وحلفاؤها لمحاربة الإرهابيين.

لكن يقترح الاتفاق الذي عُقِد في 20 شباط بين الولايات المتحدة وحركة "طالبان" التخلي عن هذه المقاربة. يسمح هذا الاتفاق للأميركيين بتحقيق الأهداف الاستراتيجية نفسها في أفغانستان، لكن بوسائل مختلفة بالكامل. بدل الحفاظ على وجود أميركي متحالف مع أفغان يحملون العقلية نفسها، يعتبر الاتفاق "طالبان" ضامنة أساسية للمصالح الأميركية في مجال مكافحة الإرهاب. يضمن الاتفاق بهذه الطريقة تحويل أفغانستان من مشكلة تتطلب حلولاً عسكرية أميركية دائمة إلى مشكلة يمكن حلّها نهائياً بالوسائل السياسية. لكنّ المخاطر التي يطرحها هذا الرهان هائلة، ولا تبدو المؤشرات المرتبطة بأولى تداعيات الاتفاق (استمرار اعتداءات "طالبان" وتخبّط الحكومة الأفغانية) واعدة بأي شكل. أكثر ما يثير القلق هو التباين الواضح في شروط الاتفاق: كلما التزمت واشنطن بواجباتها، ستتراجع الضغوط التي تواجهها "طالبان" لتنفيذ وعودها.

ركّز تحليل اتفاق الأميركيين و"طالبان" حتى الآن على العوائق الوشيكة أمام تنفيذه. سبق وتباطأت جوانب أساسية من الاتفاق أصلاً، ما دفع وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى إطلاق مهمة إنقاذية دبلوماسية في الأسبوع الماضي لتجديد زخم عملية السلام، فسافر في البداية إلى كابول ثم إلى الدوحة في قطر حيث يقع مقر قيادة "طالبان".

برزت تحديات كثيرة وزادت الوضع تعقيداً، منها الاتفاق على بدء حوار أفغاني داخلي في 10 آذار. كان ذلك الحوار يهدف في الأصل إلى جمع "طالبان" والحكومة الأفغانية المعترف بها دولياً وممثلين آخرين عن المجتمع الأفغاني للمرة الأولى لعقد مفاوضات مباشرة وإنهاء الصراع. لكن تغيّر هذا التاريخ مراراً منذ ذلك الحين، فقد اختلف عناصر "طالبان" والقادة الأفغان في كابول حول شروط إطلاق سراح السجناء، علماً أن الاتفاق الذي جمع الولايات المتحدة و"طالبان" فرض تنفيذ هذا البند قبل الاجتماع الأفغاني الداخلي، لكن لم توافق الحكومة الأفغانية على هذا الشرط لأنها أُقصِيت من المحادثات بإصرارٍ من المتمردين. في غضون ذلك، بدأت مستويات العنف تتصاعد في أنحاء أفغانستان غداة انتهاء مدة وقف إطلاق النار الجزئي الذي شكّل استراحة وجيزة وواعدة من القتال في الأسبوع الذي سبق الإعلان عن اتفاق الأميركيين و"طالبان".

اختلال ميزان القوى

لإقناع "طالبان" بضرورة الالتزام بالاتفاق، يجب أن تعرف قيادتها الكلفة التي ستتكبدها في حال اكتشف الأميركيون خداعها. تتعلق أقوى ورقة ضغط تملكها الولايات المتحدة بتعليق سحب قواتها العسكرية أو التخلي عن هذه الخطوة نهائياً واستئناف العمليات الهجومية في ساحة المعركة.

لكن قد تفترض "طالبان" أن إدارة ترامب لن تتخذ هذا النوع من الخطوات الشائكة سياسياً، لا سيما إذا أرادت الرد على انتهاكات ضئيلة أو مبهمة. وكلما اقتربت الولايات المتحدة من سحب قواتها الميدانية، ستتراجع فرص عودتها لاحقاً ولن تضطر "طالبان" حينها للالتزام بالقواعد المتفق عليها. كذلك، يبرز خلل آخر في الاتفاق. بعدما تُنفّذ الولايات المتحدة التزاماتها بموجب الاتفاق وتنسحب بالكامل من أفغانستان، ستكون الكلفة المترتبة عن تغيير رأيها وغزو البلد مجدداً مرتفعة على نحو استثنائي. نتيجةً لذلك، لا مجال لاسترجاع الوضع العسكري السابق رداً على مخالفات "طالبان" بعد انسحاب القوات المسلّحة الأميركية.

على صعيد آخر، تستطيع الولايات المتحدة أن تطلق ضربات انتقامية بطائرات بلا طيار وتنفذ عمليات خاصة في اليمن أو ليبيا أو الصومال انطلاقاً من قواعدها في البلدان المجاورة أو من المياه الساحلية، لكن تطرح أفغانستان المنغلقة مجموعة استثنائية من التحديات اللوجستية على المخططين في البنتاغون. بعبارة أخرى، يصعب تنفيذ استراتيجية فعالة لمكافحة الإرهاب انطلاقاً من مواقع بحرية مقابل الساحل في بلدٍ غير ساحلي. ولا تشكّل أقرب الدول المجاورة لأفغانستان خيارات مناسبة لاستضافة القوات الأميركية. وحتى لو وجدت الولايات المتحدة داعماً لها في المنطقة، إلا أنها ستنقل بذلك وجودها العسكري القديم من أحد بلدان آسيا الوسطى إلى بلد آخر ولن تكون الظروف هناك أفضل لها.

في المقابل، من المتوقع أن تستفيد حركة "طالبان" من تسهيلات إضافية بموجب الاتفاق نفسه. في المقام الأول، تنطبق شروط مكافحة الإرهاب الأساسية على الأراضي الأفغانية وحدها، إذ لا يفرض الاتفاق حدوداً واضحة على علاقة "طالبان" مع المتطرفين في باكستان التي شهدت أعلى مستويات التعاون بين الطرفين في السنوات الأخيرة.

أكثر ما يثير القلق هو أن الاتفاق لا يشمل أي بند لإجبار "طالبان" على قطع علاقاتها نهائياً مع الإرهابيين ما وراء الحدود المحلية. يسهل أن نتوقع إقدام المتمردين على تغيير طبيعة علاقتهم مع "القاعدة" ومتطرفين آخرين ثم تجديد روابطهم معهم خلال الأشهر التي تلي بدء انسحاب الأميركيين، فيغيّرون موقفهم بعد الانسحاب الأميركي الكامل. في هذه الظروف، قد ترتاح "طالبان" نهائياً من الضغوط العسكرية الأميركية مقابل انضباط موقّت في سلوكها.

إذا عادت "طالبان" إلى أساليبها القديمة، قد تكتشف واشنطن أنها لا تملك أي شريك أفغاني حقيقي للاتكال عليه في جهود مكافحة الإرهاب. وفق شروط الاتفاق الأميركي مع المتمردين، يجب أن تغادر جميع القوات العسكرية الأجنبية البلد خلال 14 شهراً، بما في ذلك مدرّبو الجيش الأفغاني ومستشاروه، وذلك بغض النظر عن نجاح المحادثات الأفغانية الداخلية أو جمودها. نتيجةً لذلك، قد لا يكون اتفاق "طالبان" مع واشنطن كافياً لتشجيع الحركة على التفاوض بجدّية مع الحكومة المعترف بها دولياً في كابول، بما أن موقف خصمها سيزداد ضعفاً مع اقتراب المهلة النهائية لانسحاب القوات الدولية. بدل تهيئة الأجواء لعقد تسوية أفغانية داخلية صعبة المنال إذاً، يبدو أن الاتفاق يُمهّد ضمناً لبلوغ الهدف النهائي الذي أعلن عنه المتمردون في مناسبات متكررة منذ العام 2001: نجاح "طالبان" في استرجاع سطوتها على البلد.





حان وقت الرقابة المشددة!

أعلنت إدارة ترامب أنها ستتأكد من تنفيذ الاتفاق مع "طالبان" عبر مُلحقَين تفاوضت بشأنهما تزامناً مع عقد الاتفاق الأساسي. صُنّفت هذه البروتوكولات بطريقة تضمن اطلاع حركة "طالبان" على محتواها غير المتناسق بدرجة معينة، لكنها غير متاحة كي يراجعها الرأي العام الأميركي. لكن يملك أعضاء الكونغرس صلاحية الوصول إلى تلك الوثائق، ويتعين عليهم اليوم أن يشرفوا على محتوى الاتفاق والمفهوم الاستراتيجي الذي يرتكز عليه. يجب أن يُركزوا تحديداً على المسائل التالية: ما هي الآليات التي يطرحها الاتفاق وكيف يمكن تطبيقها عملياً؟ وهل تقدم تلك الآليات ضمانات كافية لتلبية متطلبات الأمن القومي التي تهم الولايات المتحدة في أفغانستان والمنطقة عموماً؟

بالإضافة إلى التدقيق بالبنود الداخلية للاتفاق مع "طالبان"، يجب أن يفكر الكونغرس باتخاذ الإجراءات التشريعية اللازمة رداً عليه. يستطيع أن يحضّر مثلاً "تقديرات استخبارية وطنية" حول جدّية "طالبان" في وقف تعاونها مع "القاعدة" ومع أي جماعات أخرى تعتبرها الاستخبارات الأميركية مصدر تهديد على أمن الولايات المتحدة أو حلفائها. كذلك، يستطيع الكونغرس أن يطلب تقارير فصلية من الأوساط الاستخبارية لاحتساب أثر التخفيضات العسكرية المقترحة على مسار تقييم نسبة التزام "طالبان" بشروط الاتفاق. لكنّ هذه التفاصيل التقنية ليست مهمة بنظر البعض. بعد عشرين سنة من التدخل في أفغانستان، يظن هذا الفريق أن عقد اتفاق مع "طالبان" يستحق العناء رغم المجازفات التي ترافقه، طالما يطرح مساراً منطقياً وواضحاً لعودة الجنود الأميركيين إلى ديارهم. أما السياسة البديلة التي تقضي بخوض حرب لامتناهية للأميركيين والأفغان على حد سواء، فهي ليست خطة مستدامة لا عسكرياً ولا مالياً.

إنه موقف مبرر طبعاً. لكن يجب ألا يفترض الأميركيون أن أفغانستان ستسترجع الاستقرار من تلقاء نفسها أو ستختفي من الساحة الدولية عند انتهاء التدخل الأميركي فيها. حتى أن الولايات المتحدة لا تستطيع فصل نفسها عن الفوضى التي سيُسبّبها انسحابها على الأرجح، إذ ستكون العواقب المترتبة على الأمن الدولي كارثية ومتوقعة في آن. بشكل عام، تثبت المعطيات التاريخية أن الانسحاب بحجّة السلام نادراً ما ينجح في كبح طموحات الخصوم أو تعديل سلوكياتهم.

أرسلت الولايات المتحدة جنودها إلى أفغانستان في الأصل للقضاء على الملاذ الإرهابي الذي نشأ هناك في عهد "طالبان" وبلغ ذروته مع مرور الوقت وأنشأ وضعاً كارثياً حقيقياً. على واشنطن أن تفرض قبل انسحابها ترتيبات فعالة ومناسبة لمنع تجدد هذه المخاطر. لكن لم يتّضح حتى الآن إلى أي حد يُعتبر اتفاق إدارة ترامب مع "طالبان" مطابقاً للمواصفات المطلوبة.


MISS 3