مصطفى علوش

أي نوع من الرؤساء توافقي ولا يطعن المقاومة؟

17 تموز 2023

02 : 00

«مر الكلام ذي الحسام يقطع مكان ما يمر أما المديح سهل ومريح يخدع لكن بيضر والكلمة دين من غير إيدين بس الوفا عل الحر»

أحمد فؤاد نجم



«الوسط الذهبي»، في الفلسفة الإغريقية، يستند إلى شروحات أرسطو في الأخلاق، التي يفترض أنها تقرّب البشر من الفضيلة، وبالتالي تساهم في بلوغ السعادة. يقول أرسطو إنّ الوسط الذهبي هو الاعتدال في الشيء من غير إفراط أو تفريط! أي أنّه الوسط المفيد بين النقيضين أو القطبين، أحدهما هو مبالغة والآخر يعتبر تقصيراً. على سبيل المثال، فإنّ الشجاعة هي فضيلة، لكنها إن زادت عن حدها يمكن أن تصبح تهوّراً وفي حال النقصان تصبح جبناً.

هذا الأمر يترك بالطبع مساحة واسعة للاستنساب بين نقيضين، وهنا، تدخل الأمور بالشخصانية الفاقعة البعيدة عن الموضوعية والمبدئية في تقييم الأمور. إيمانويل كانت، الذي شكّلت فلسفته في القرن الثامن عشر الحد الفاصل بين فلسفة الماضي والحاضر، اعتبر أنّ هناك قواعد أخلاقية سمّاها «الضروريات القاطعة»، وهي التي يجب أن يتّبعها البشر جميعهم من دون استنساب أو استثناء. أتت فرضية «الضروريات القاطعة» لتضع حداً للاستنساب الدائم المرتبط بالمصالح الشخصية والظرفية. فقد كان الفيلسوف مقتنعاً بأنّ مبدأ «السلام المستدام» بين البشر والدول والشعوب يمكن تحقيقه من خلال قواعد أخلاقية مُصانة من قبل الجميع.

من هنا، فإنّ وضع الدساتير والقوانين المستندة إلى الضروريات القاطعة أتى لتأمين القدر الأقصى من السلام المستدام وذلك من خلال تأمين مرجعية ثابتة يمكن العودة إليها عند الاختلاف في الاستنساب.

بالعودة إلى الطروحات التي تتحدث عن رئيس توافقي لا يطعن المقاومة، يأتي من خلال الحوار، فإنّ مضمون الصفتين يبقى سابحاً في مجال الاستنساب. لكن، حتى ولو افترضنا أنّ السياسة استنساب دائم، تبقى الضروريات القاطعة خارج مجال الاستنساب، يعني الدستور والمصلحة العامة والشرعيات الدولية التي تضمن وحدها ما أمكَن من مصالح الشعوب والدول المستضعفة. بالطبع، هناك الكثير من التشكيك بنجاعة الشرعيات الدولية في حماية الشعوب من الانتهاكات المتكررة من قبل المستكبرين، لكن استتباع الشعوب لمعسكر الدول الفاشلة وذات الطابع العدائي غالباً ما تكون تبعاته أسوأ بكثير، والعراق وسوريا واليمن أمثلة صارخة لهذا النوع من الاستتباع، ولا أظن أنّ أمثلة كوريا الشمالية وفنزويلا يمكن الاستنارة بتجربتهما العظيمة، علماً أنّ بعض الممانعة يتغنى بهما، لكن إن أرادوا لأولادهم أن يدرسوا في جامعة محترمة، تؤمن لهم مستقبلاً مقبولاً ستكون وجهتهم إمّا دول الصف الأول الأوروبية، أو أميركا الشمالية.

لكن، لنعد إلى تحليل قضية الرئيس التوافقي الذي لا يطعن المقاومة. فهذا النوع من الرؤساء عليه أن يتقبّل الأمر الواقع السياسي والأمني، وأن يسعى رغم كل ذلك لكي يحارب الفساد والتهريب وتبييض الأموال وتجارة المخدرات ويقنع العالم بأهلية لبنان لتلقّي المساعدات ومن ثم بأنه أرض خصبة للاستثمار ليستعيد النشاط الاقتصادي زخمه، وبالتالي يعوّض للخزينة وللناس بعضاً من الخسائر. فبظل فقدان السيولة المتعددة الجنسيات بسبب وضع المصارف والمصرف المركزي وفقدان الاحتياطي، لا يمكن للاقتصاد المحلي الطابع أن ينطلق ولو برجل واحدة. وأعني بذلك المبادرات الصغرى والمتوسطة، وتبقى دورة الاستهلاك الاقتصادية مبنية على كرم أصحاب الهِمم من المهاجرين الذين ما زالوا يعطفون على أقربائهم. هذا لا يعني أن البلد خال من الثروات التي يمكنها أن تتحول إلى استثمارات. لكن أصحاب الثروات، كما نعرف، هرّبوها من دورة الاقتصاد المحلي للحفاظ عليها، وسيكونون، بحسب اعتقادي، آخر من سيستثمر في لبنان.

هذا كله يعني أنّ المخرج الممكن هو الاستناد، ولو في الانطلاقة، إلى مساعدات من صندوق النقد الدولي، مرفقة باستثمارات عربية خليجية، أو ربما من دول أخرى، تدخل في مجالات شتى. لكن كل المعطيات أكدت أنّ هذه الاحتمالات مربوطة برئيس حكيم مستعد للمواجهة مع كل ما يُعيق عودة الدورة الاقتصادية من أسباب سياسية وفساد وسلاح واستتباع لمحاور عسكرية... وهذا سيفقده حتماً صفة الرئيس غير الصدامي والذي لا يطعن المقاومة، أي القبول بالأمر الواقع، والتوافق مع الهدر والتهريب وتجارة المخدرات وتبييض الأموال واستتباع لبنان لمحور إيران، كما التسامح مع مصالح الطوائف في الفساد الإداري والعقاري واستباحة الأملاك العامة والخاصة لتجنّب هزة في مشروع الشراكة الوطنية.

هذا النوع هو الرئيس الذي يستنسب ما بين الدولة والميليشيا، وبين السيادة والاستتباع، وبين القاتل والضحايا، ما بين المهربين والساعين إلى الرزق الشرعي، ما بين تجار الموت والمستثمرين الذين يسعون لتوسيع قاعدة الاقتصاد. من يقبل بالسلطة تحت تلك الشروط سيحمل في ذمته دماء الشهداء من أجل السلطة وفسادها، وسيشاركون الحزب في تدمير ما تبقى من الدولة بتجاوز ونسيان انفجار المرفأ والاستمرار في تشظي مدّخرات الناس وفقدان الأمل والانتحار في مراكب الموت وبيع خطوط الحدود لتغطية التفليسة.

ما يحتاجه لبنان هو رئيس لا يستنسب ويلتزم بالضروريات القاطعة لبناء الدول، أي سلطة شرعية واحدة لا شريك لها.


MISS 3