حسان الزين

ولادة جديدة مع أربعة كتب متنوّعة على إيقاع الإنهيار وإنفجار مرفأ بيروت

الفدراليّة تدقّ الأبواب أو تقرع الطبول؟

22 تموز 2023

02 : 00

أربعة كتب عن الفدراليّة نُشرت بالتوالي في بيروت (دار سائر المشرق). وهذه واحدة من الإشارات على عودتها بقوّة إلى المشهد السياسي والثقافي والشعبي في لبنان. قديماً، إبّان الحرب، طرحتها الجبهة اللبنانية. ثم جاء اتفاق الطائف (1989) وطوى صفحتها. وبعد الحرب مباشرة، في 1991، جاء كتاب الدكتور عصام سليمان (الفدراليّة والمجتمعات التعدّدية ولبنان) ليصعِّب مهمّتها فكريّاً ودستوريّاً وسياسيّاً. والآن، يُنظّر لها أكاديميّون. وهذا أبرز الجديد، إضافة إلى أن الفدراليّة هي المشروع شبه الوحيد على الساحة والأكثر جديّة. ويأتي ذلك تحت وطأة «فشل النظام المركزي» وفساده، وتحت تأثير الوضع السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والأمنيّ المأزوم والخَطر، منذ 2019. علماً أن إنفجار مرفأ بيروت، في 4 آب 2020، يشكّل لحظة الولادة الجديدة للفدراليّة. ولا بد من الإشارة إلى أنّ تلك الطروحات متنوّعة وتختلف في ما بينها، في الدوافع والتوجّهات. هنا، تقرير يدمج بين قراءة تلك الكتب وحوارات مع مؤلّفيها، ومقابلة مع ناشط من أجلها، واستطلاع رأي أكاديميّ، ووقفة مع عمدة المؤلفات بشأنها في لبنان.


سليم فوزي زخّور: الهدف هو تعزيز الإستقلال الذاتي للمكوّنات اللبنانية



سليم زخّور: لعلّ السيناريو العراقيّ يتحقّق في لبنان

ينطلق سليم فوزي زخّور من سببين موجبين أساسيّين يدفعانه إلى طرح الفدراليّة. السبب الأول هو «فشل النظام السياسي والدستوري في لبنان بكل تحديثاته، لأكثر من مئة عام، في إدارة التعدّدية المذهبية المكرّسة في البنية الدستورية والقانونية للنظام». وهذا، فيما «يجنح النظام القائم نحو كونفدرالية أحادية غير متساوية، ستؤدي إلى تقسيم لبنان وانهيار كيانه».


والسبب الثاني هو أن «لبنان منذ نشأته يعيش تجربة الفدرالية التوافقية، ولكن بطريقة منقوصة دستوريّاً، ومموّهة، ومشوّهة عبر الممارسة. وبينما هناك إنكار لخصائص الفدرالية، تحوّلت التوافقية محاصصةً وتعطيلاً».


بناء على هذين السببين، يعتبر زخّور أن ثمة حاجة إلى «مسار تصحيحي يؤسس لفدرالية توافقية محصّنة بدستور عصري، يكفل إدارة التعدّدية المذهبية».


وإذ يقر زخّور بأن «الفدرالية التوافقية ليست الحل السحري»، يصفها بأنها «الحل الدستوري لإدارة التعدّدية عبر مؤسّسات تحقّق المشاركة العادلة والمتوازنة للمكوّنات. وهي تتطلّب قبل كل شيء بناء الإنسان اللبناني الجديد عبر منظومة قيميّة تقوم على المواطنة، واحترام الكرامة الإنسانية، وتحقيق العدالة والمساواة».


يهدف زخّور من خلال الفدرالية إلى «تعزيز الاستقلال الذاتي للمكوّنات اللبنانية وتأطيره وتنظيمه». ويؤكد أنه حرص على أن يكون عادلاً مع المكوّنات كافة، إذ لا يمكن أن يكون علميّاً وعادلاً إذا ما انحاز إلى مكوّن على حساب المكونات الأخرى، أو إذا ما خرق طرحه باستثناءات.


يرتكز اقتراح زخّور الفدرالية التوافقية على أسس عدة، هي: (1) «التأكيد على الخيار الشعبي في اعتماد التوزيع الجغرافي للوحدات الفدرالية؛ (2) التركيز على تكامل واضح بين أسس الفدرالية والتوافقية من خلال الدستور؛ (3) اعتماد القضاء كمنطلق لبناء الوحدات الفدرالية الجغرافية؛ (4) توسيع صلاحيات الوحدات الفدرالية على كافة المستويات، مقابل الحد من صلاحيات السلطة الاتحادية؛ (5) تعزيز الاستقلال الذاتي للوحدات الفدرالية من خلال المساواة في السلطة الاتحادية المشتركة».


تشكّل التجربة الفدرالية العراقية مفتاحاً لاقتراح زخّور، ليس على المستوى الدستوري فحسب، بل السياسي أيضاً. فهو لا يدرس تلك الحالة الأحدث عالمياً على نحو أكاديمي فحسب، بل يبحث عن قواسم مشتركة بينها وبين لبنان. ويجد أن أهم القواسم المشتركة هو العنصر الشيعي ذو المدرسة السياسية الواحدة في العراق ولبنان. وهذا ما يجعله لا يستبعد تحقق الفدرالية في لبنان «طالما نُفِّذت في العراق». بل لا يتردد في توقّع أن تكون الفدرالية في لبنان «لحظة شيعية». وعلى هذا الحجر الأساس يصوغ زخّور العديد من بنود اقتراحه الذي طوّره إلى دستور لـ «جمهورية لبنان الاتحادية». فـ»السيناريو العراقي لولادة إقليم كردستان مقابل سيطرة المكون الشيعي على الدولة الاتحادية، يمكن أن يتكرر في لبنان مع إقليم مسيحي مقابل سيطرة المكون الشيعي، وعلى المكونات الأخرى المشاركة في العملية كي لا تكون خارج التأثير». لهذا يقترح زخّور الفدرالية التوافقية في لبنان، التي تمنح الأقضية ذات اللون الطائفي الواحد حق اختيار أن تكون «متّحداً فدرالياً» أو أن «تبقى أقضية ضمن دولة اتحادية». وفي العراق، اختار كردستان أن يكون إقليماً فدرالياً، بينما لم تقدم على ذلك المناطق السنية والشيعية. وهذا يمكن أن يجري في لبنان الذي يجعل زخور بيروت عاصمته بعدما أضاف إلى «الدائرة الأولى ذات الغالبية المسيحية والدائرة الثانية ذات الغالبية السنيّة، الضاحية الجنوبية ذات الغالبية الشيعية». وكل ذلك يقتضي التوافق وتجاوز السرديات الطائفية للتاريخ الذي تناوبت فيه المذاهب الكبرى على السلطة الأحادية.






إدغار قبوات: لدى اللبنانيين واللبنانيات هويتان وطنية وطائفية



إدغار قبوات: لتجنّب التقسيم واستمرار النهب


يعتبر إدغار قبوات أن «لبنان يواجه ثلاث مشكلات: إفتقاد السيادة؛ إفتقاد الحياد؛ إهتراء النظام السياسي». ويرى أن «تجربة المئة سنة الماضية كانت سيئة. ففي بلد مثل لبنان، حيث التعددية الثقافية واسعة جداً، ولها طابع ديني وأيديولوجي، لا يمكن الاحتكام إلى نظام وحدوي، بل يجب أن يقترن المجتمع المتنوع بنظام سياسي يشبهه ويعكسه، مثل الفدرالية، وإلا سنبقى في مكاننا».


ويذكر أن «لبنان جرّب تاريخياً شكلاً من أشكال الفدرالية، أيام السلطنة العثمانية. كانت متصرفية جبل لبنان، من ناحية البنية، مثل حكم ذاتي أمن استقراراً معيناً». وفي الحاضر، «تعترف الدولة اللبنانية للطوائف، منذ دستور العام 1926، بقوانينها الخاصة بالأحوال الشخصية. إذ تمتلك هذه الجماعات محاكمها وقوانينها وأوقافها الخاصة، ولها الحرية في إدارتها».


ويلاحظ أن «هناك قوانين متعلقة بالطوائف تُطبق، منذ الخمسينيات، من دون أن تُقر في مجلس النواب». وهذا الأمر «أولاً، دليل على أن بنية الدولة مركبة إلى درجة أنها تتيح للجماعات حقوقاً كثيرة ومتقدمة، حتى أنها صارت قادرة على التشريع لنفسها؛ وثانياً، يثبت أن الفدرالية الشخصية (من الأحوال الشخصية) مكرسة. وهذا جزء أساسي من النظام الفدرالي».


ويعتقد قبوات أن «الخريطة اللبنانية، ونتيجة للحرب الأهلية والهجرة، تُظهر أن السكان فُرزوا على نحو طائفي، بنسبة تفوق 80 في المئة». لذا، لا يرى قبوات «مشكلة في طرح فدرالية إتنوجغرافية». ويدفع هذا «الفرز الجغرافي إلى إعادة النظر في تقسيم الأقضية».


ويؤكد قبوات أن «الطرح الفدرالي لا يهدف إلى تقسيم لبنان، كما هو شائع، بل إلى الحفاظ على وحدته الكيانية. ذلك أن تأمين استمرار العيش بين المسلمين والمسيحيين، يكون بالاعتراف بالتعدد من خلال نظام سياسي يضمن الحماية للجماعات ويمنحها ضمانات». ويشير إلى أن «رفض الأكثريات في بلدان عدة نظاماً كهذا، تطالب به الأقليات، يؤدي إلى حروب وتقسيم، مثلما حصل في باكستان وقبرص، مثلاً».


يدعو قبوات إلى «الإقرار بأن لدى اللبنانيين واللبنانيات هويتين: وطنية، وهي الانتماء إلى لبنان، وطائفية، أي ما يعتقد به الناس». ويجد أن «الفدرالية تلائم هذا الواقع، وتساعد على تجاوز الحروب، وتحافظ على لبنان ومكوناته، وعلى وجود المسيحيين في الشرق، وتواجه احتمالات الهجرة».


وفيما يلفت إلى أن «من يرفض هذا الطرح يريد أن يستمر الواقع كما هو ليستكمل نهبه»، يؤمن بأن «النظام الجديد يفرض حوكمة سياسية ورقابة ومحاسبة مباشرتين، ويمنح البلديات صلاحيات أوسع، تتيح لها الجباية وخلق فرص عمل وإدارة الشؤون المحلية بأفضل الطرق. أي أنه ينقل السلطة من فوق إلى تحت وينزع فتيل التوتر بين الطوائف».


ويقترح قبوات دستوراً «يحفظ للسلطة الاتحادية ثلاث صلاحيات، هي الدفاع والخارجية والنقد. ويعزز حضور السلطات المحلية ونفوذها، فيكون لها كما السلطة الاتحادية مجالسها التشريعية والتنفيذية، مع الحفاظ على نمط حكم ديمقراطي برلماني ومبدأ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، في تقسيم الأقضية (8 بـ8، بالإضافة إلى العاصمة بيروت) وفي عدد أعضاء المجلس الرئاسي الاتحادي، الذي سيحل مكان رئيس الجمهورية والحكومة المركزية، وفي عدد أعضاء المجلس التشريعي الاتحادي بغرفتيه.


ووفق الدستور المقترح، يُنتخب على المستوى المحلي حاكم القضاء ويعيّن هو فريق عمله. أما على مستوى البلديات، التي تعيش فيها أقليات طائفية، وتجنباً لاحتمال مغادرتها مكان سكنها، فتُمنَح حق التصويت في الانتخابات البلدية، لكنها لا تمنح حق التمثيل داخل المجلس».


وفي انتخابات المجلس التشريعي الاتحادي توضع الأقليات أمام خيارين: إما التصويت والترشح إلى مقعد وحيد داخل الدائرة الانتخابية التي تعيش فيها، أو التصويت في القضاء الأقرب إليها جغرافياً والمتجانس معها طائفياً».






نمر فريحة: لا أدعو إلى فدراليّة على أساس الدين والطائفة



نمر فريحة: من أجل دولة يساءل فيها المسؤول


يقترح نمر فريحة «فدرالية الشعب»، في مواجهة «فدرالية الزعماء». فهو يريد نظاماً يغدو فيه اللبناني واللبنانية مواطناً ومواطنة، بكامل كرامتهما وحقوقهما وحرّيتهما. كذلك يريد خروجاً آمناً ومجدياً من «فدرالية الزعماء» بما فيها من تبعية وفساد وتملص من المساءلة والعقاب. من هنا، ومن كونه أستاذاً للتربية المواطنية ومتخصصاً في التاريخ، وجد في «فدرالية الشعب» مبتغاه، الذي يحقق المواطنة ومساءلة المسؤولين، ويحافظ على لبنان، ويبني دولة عصرية تنصف مجتمع لبنان وإنسانه. وهذا أبرز ما يميّز طرحه عن المقاربات والمطالبات الأخرى في شأن الفدرالية. فهو لا يقترح «التقسيم، ولا تغيير جغرافية المناطق اللبنانية»، ولا يدعو إلى «ترانسفير ولا إلى القتال». ويقول: «لا أدعو إلى فدرالية على أساس الدين والطائفة، فإذا ما رجعنا إليهما ماذا نكون فاعلين؟ نكون قد ألبسنا النظام ثوباً جديداً؟ فالفساد والطائفية وجهان لعملة واحدة. ما يحتاج إليه لبنان هو دولة يُساءل فيها المسؤول. والفدرالية، كما هي في الولايات المتحدة مثلاً، توفّر ذلك، وهي من أنجع الأنظمة. ومَن يترشّح في النظام الفدرالي يخوض المعركة على أساس البرنامج لا على أساس الانتماء إلى طائفة كما هي الحال الآن».


ويؤكد أن «السبب المباشر لطرحه الفدرالية هو ما نعيشه، هو الانهيار الذي سببه النظام الميت، الفاشل، البلاحيوية أو رؤية أو استراتيجية».


وفي الوقت نفسه، يرى فريحة أن «الفدرالية تخفف المعطى الطائفي وتسحب فتيل اشتعاله، إذ تُبعد الشعور لدى الأقلية بأنّها هامشية وتمنع الأكثرية من التسلط، كما هي الحال في النظام المركزي».



ويحذّر فريحه الشعب من إساءة فهم الفدرالية وتصويرها على أنها تقسيم، «بل هي نظام يمنح المواطن والمواطنة حقوقهما وحرّيتهما». ويجزم بأن «تشويه الفدرالية يستفيد منه، أولاً وأخيراً، الزعماء الذين لا يريدون أن يكونوا تحت المساءلة، ويحرصون على أن يملكوا البلد كلّه بما وبمن فيه، ولا يرضيهم أن يُمنعوا من التدخل في كل شيء متجاوزين الدستور والقوانين وفصل السلطات». ويلفت إلى أن جهده الفكري والثقافي في شأن الفدرالية «ينتمي إلى بث الوعي في شأنها». وهذا «لا ينفصل عن مسيرة اللبنانيين واللبنانيات من أجل بناء دولة عادلة يكونون فيها مواطنين ومواطنات، لا مجرد ارقام لدى الزعماء».



يضيف: «هناك أناس يطرحون الفدرالية الطائفية. لست منهم. أنا أقترح فدرالية واقعية. أقترح أن ينتخب المواطن من دون خلفية طائفية. فمنذ 1845 ندفع ثمن التفكير الطائفي. هل هناك شعب لا يتعلم مما صار معه على مدى قرنين؟ يحمل شعبنا شهادات كثيرة، لكن التفكير ما زال مثل 1860».


ويقول: «لا أريد عزلة المواطنين والمواطنات بعضهم عن بعض بناء على المذاهب. والفدرالية التي أقترحها لا تفعل ذلك، بل تودي الى الانفتاح والتفاعل. فما رسّخ الطائفية وولّد التوتر والتشنّج بين اللبنانيين واللبنانيات هو النظام المركزي الفاشل في حل أي أزمة. بينما الفدرالية تُخرجنا من هذه الدائرة المغلقة، وتقلّص المواجهات بين المذاهب، وتجعل الجميع متساوين أمام القانون».



والفدرالية التي يقترحها فريحة «تقوم على إبقاء التقسيم الجغرافي- الإداري الحالي كما هو، ونسمي كل محافظة حالية ولاية. ويكون النظام اتحادياً، اي تنطوي على وجود حكومة فدرالية اتحادية في العاصمة بصلاحيات محدودة تتمثّل فيها الولايات جميعها. وتستبعد هذه الفدرالية ثلاثة عناصر: التقسيم والتهجير والهوية الطائفية بكل مفاعيلها. فالحكومة الفدرالية الاتحادية المقترحة تقابل الحكومة الوحدوية المركزية الفاشلة والموجودة حالياً، لكن بصلاحيات محدودة».





ألحان فرحات: الدول السليمة تُبنى من تحت



ألحان فرحات: الحفاظ على الهويتين الوجوديّة والمدنيّة للإنسان


بعد كتاب أوّل يقدّم فيه ألحان فرحات الفدرالية وتجاربها، يُعدُّ مؤلّفاً آخر يقدم فيه فدرالية لبنانية مع اقتراح دستور. فهو يرفض استيراد التجارب. وعلى رغم أن الدراسة الأكاديمية هي ما أفضت به إلى الفدرالية، إلا أنه لم ولا يُخفي حماسته لها. وقد بدأ ذلك، كما يروي، عندما انهارت أمامه العلمانية والرومنسية في السياسة. إذ إن هاتين المدرستين تتجاهلان التاريخ والجغرافيا، والأولى هي الهوية الوجودية والثانية هي الهوية الواقعية.


النقطة الأساس التي تدفع فرحات إلى تبني الفدرالية واقتراحها هي «البحث عن فكرة عادلة تنظّم الاختلاف وتُبعد الخلاف». وفيما لا يُخفي أثر المفكر الروسي ألكسندر دوغين في بحثه وخياره، يؤكّد إيمانه بأنه «لا يمكن فصل الدين عن السياسة، مع إيمان بفصل الدين عن السلطة». ويعتقد أن «للإنسان هويّتين: وجودية ومدنيّة. الأولى فطرية وثابتة والثانية زمنية يكسبها بالواقع السياسي المتغيّر وهي متغيّرة أيضاً».


هذا «الإيمان» جعله يدرك أن «الهوية الأولى متمايزة بين الجماعات البشرية وخصوصاً الشعوب اللبنانية. وليس لدى الشعوب اللبنانية إيديولوجيّات متمايزة وحضارات متغايرة فحسب، بل لديها تطلّعات مختلفة إلى المستقبل. ومع هذا التمايز الوجودي بين الشعوب يستحيل أن تُجمع في نظام سياسي واحد. هذا ضرب من الهرطقة. الهويّات الدينية يستحيل أن تُجمع في نظام مركزي. والإنسان الذي يعيش عكس قناعاته هو ميّت ينتظر دفنه».


إضافة إلى هذا، يلاحظ فرحات أن «الدول السليمة تُبنى من تحت، من قاعدة الهرم إلى رأسه. والمواطن يختار ممثّليه في الدائرة الصغرى إلى الأوسع فالأكبر. بينما في لبنان، في النظام المركزي، لا يقدر المواطن أن يوصل صوته». ومن أجل وضع سليم «انطلق» فرحات، الذي يعرّف نفسه بأنه «من المسلمين الموحّدين»، وبالتالي يكسر «مسحنة» طرح الفدرالية، من «فكرة الوجود الطائفي». وخلص إلى أنه «يجب أن تكون الانتخابات على قاعدة معيار التمثيل الطائفي (الهوية الوجودية والهوية الزمنية)».


يسعى فرحات إلى «بسط مفهوم العدالة وليس المساواة، وشتّان بينهما. ففي لبنان هناك أكثريّات وأقليّات، وإذا ما طبّقنا المساواة يقع الغبن والخلاف. أما العدالة فهي تضمن التعدّدية وتمثيل الناس في الدوائر بغضّ النظر عن الأعداد. فالفدرالية بقوّة العدالة تطبّق المساواة في الدولة. والعدالة هي مفهوم المساواة وما بعدها. فالمساواة مفهوم قاصر عن طرح الدولة الاتحادية».


وفيما تقوم فدرالية فرحات على «التوزيع الطائفي»، لا يتبنّى كلمة تقسيم. ويذهب في معالجة شأن «الأقليّات في الدوائر الانتخابية» إلى منطق «القانون الأرثوذكسي» الذي يجعل المواطنين والمواطنات يقترعون على أساس مذهبي عابر للحدود. كل طائفة تنتخب ممثّليها».

ويلفت فرحات إلى أنه لا يطرح الفدرالية من باب التوعية، إنما «لإيجاد حل. فلعلها تكون حلاً لم يُجرّب».





هشام بو ناصيف: فلنُدِر تنوّعنا بطريقة أفضل!



هشام بو ناصيف: إستمرار الوجود المسيحي الحرّ أولاً

لم يُصدر الدكتور هشام بو ناصيف كتاباً مخصصاً للفدرالية (وضع مانيفستو حركة لبنان الفدرالي لشرح النظام الاتّحادي)، لكنّ هذا الأكاديمي والناشط المهموم بـ»استمرار الوجود المسيحي الحر في لبنان»، بات من أبرز الأصوات الداعية إلى الفدرالية أو «ما بعدها».

لا يستغرب بو ناصيف الدعاية السلبية التي تستهدف الفدرالية ودعاتها. ويدرج ذلك في إطار «اختراع الوعي الأكثري المسيطر أو الجماعة المسيطرة توصيفات لشيطنة ما هو في الحقيقة صرخة احتجاج على الوضع غير العادل تطلقها الأقليّة، والجماعات المسيطَر عليها». فهذه هي «الخلفية التي يمكن أن نفهم من خلالها تصوير الفدرالية بأنها طرح متطرّف وتقسيمي». ويعتبر أن «شيطنة الفدرالية جزءاً من اشتباك الأكثريّة مع الأقليّة، خصوصاً أنّ الشيعة الممانعين يريدون استمرار سيطرتهم على المكوّنات الأخرى، ومنها الشيعة غير الممانعين. وإذ يرفض شيطنة الفدرالية يصفها بأنها «تزوير لبديهيات الحالة السياسية القائمة في لبنان والطرح الفدرالي».

فالفدرالية بالنسبة إلى بو ناصيف «تتلاءم مع المجتمعات التعددية». ويقول إن «العنف في أي مجتمع في العالم يتولد عندما لا تتلاءم تركيبة السلطة من فوق مع تركيبة المجتمع من تحت. والتصوّر الأخطر والأسوأ هو عندما تُغرم بنظرية سياسية من فوق وتعمل لتغيير المجتمع من تحت كي يتلاءم معها، بدلاً من أن تعمل العكس. والعكس هو أن تنظر إلى تركيبة المجتمع من تحت وتخترع نظاماً سياسياً يتلاءم مع المجتمع».

من هنا، فإن الفدراليين، وفق بو ناصيف، «يقولون ببساطة إننا نريد نظاماً سياسياً يتلاءم مع تركيبة مجتمعنا بدلاً من أن نغيّر مجتمعنا ليتلاءم مع نظرية سياسية معينة. وما هو هذا النظام الذي يتلاءم مع تركيبة مجتمع طوائفي متعدد؟ جواب أكاديمي: هو شكل من أشكال الفدرالية».

وإذ يسأل بو ناصيف عن «أقلية مرتاحة في العالم العربي؟» جازماً بالنفي، يؤكد أن السبب وراء ذلك هو «الثقافة غير الليبرالية». فهذه الثقافة هي التي «هزمت الحداثة والعلمنة في العالم العربي»، وهي التي «تتحكم بمسألة الأقليات في المنطقة» وترفض الفدرالية لأن جوهرها ليبرالي. فالثقافة غير الليبرالية «تريد أن تسيطر ولا تقبل أن تعيش الأقليات في أنظمة تلائمها، وعندما تطالب الأقليات بذلك تُوصف بالتقسيمية والمتطرفة».

ويجزم بو ناصيف أن «ليس المسيحي هو من يستعلي على شيعة «أمل» و»حزب اللّه» ويقول إنه لا يريد العيش معهم، فمن يستعلي هو من يريد فرض ثقافته وخياراته السياسية على الآخرين. والمسيحي في المتن وكسروان، مثلاً، لا يقول لابن النبطية كيف يعيش. بل يقول له، ولكل مسلم، لا تريد زواجاً مدنياً هذا خيارك وحقك، لكن دع الغالبية في المتن وكسروان، إذا ما أرادت الزواج المدني أن تطبقه!». وينفي بو ناصيف أن يكون منطلق الفدراليين رفض العيش مع المسلمين، قائلاً: «أنا لا أقول ذلك، وإلا كنت طرحت التقسيم. أنا أقول فلنُدِر تنوّعنا بطريقة أفضل!».

ويستدرك بو ناصيف: «ليس هدفي حماية التنوّع فحسب، بل أيضاً استمرار الوجود المسيحي الحر، أي غير الذمي، في لبنان. والفدرالية وسيلة، فإذا أمكننا تحقيق هدفنا عبرها حسناً، وإذا تبيّن أنها لا تكفي فما بعد بعد الفدرالية».

وما هو «ما بعد بعد الفدرالية؟». يجيب: «إعطاء جبل لبنان حق تقرير المصير. هناك مكون مسيحي في البلد، إذا أجرينا استفتاء وتبين أن غالبيته تريد الانفصال، يغدو من غير الديمقراطي أن تبقيهم بالقوة».

ويقول: «هناك مشكلتان كبيرتان في لبنان، أولاً إذا تصارع العرب مع إسرائيل، أو تصارع العرب مع العرب، أو تصارع العرب مع إيران، يتصارعون في لبنان. فيا شريكي المسلم، إذا كان بعض العرب يريدون الصراع مع إسرائيل، أو إيران، أو تركيا، أو بعضهم مع بعض، فليفعلوا ذلك عندهم لا عندنا. يا إيران، ويا أيّها العرب: لا تستعملونا! وهذا يعني الحياد. فلنحيّد لبنان! ثانياً: نحن طوائف، فلا تسيطر علي ولا أنا أريد السيطرة عليك. فلنقبل أن نعطي هذه الطوائف القدر الأكبر من الحكم الذاتي، كي لا تبقى حياتنا سباقاً ديموغرافياً مَن يسيطر على الآخر من خلال التفوق العددي. فما اسم هذا؟ الفدرالية. وهي تبقي المسيحيّين والمسلمين ضمن لبنان الواحد، إنّما بصيغة حكم مختلفة».

يحدّد بو ناصيف إنفجار مرفأ بيروت، في 4 آب 2020، لحظة فاصلة، ليس في مسار طرح الفدرالية فحسب، بل في انفجار المخاوف على المسيحيين ولديهم أيضاً. فمع ذاك الحدث الدرامي، تنامت وتسارعت هجرة المسيحيين، من دون إغفاله حصول ذلك لدى الآخرين، «لكن هؤلاء هم الأكثرية». وأمر المخاوف لا يقتصر على البعد الأمني المهم جداً. فالانفجار يمثل لأبو ناصيف كثافة سيطرة «حزب الله» على البلد واستخدامه لأجندته الإقليمية ومنها خدمة حليفه النظام في دمشق.

ويقول: «نحن المسيحيين في لبنان في بدايات سيناريو مشابه لما حصل مع المسيحيين في تركيا، مثلاً. حتّى 1894، كان المسيحيون في بر الأناضول حوالى 20 في المئة من السكان، وخلال 30 سنة صاروا 1,5 في المئة. ونقطة التحول في لبنان كانت الانهيار الاقتصادي في 2019، ثم انفجار مرفأ بيروت. أنا ابن الشوف، تهجّرت خلال الحرب من الجبل، فكان لي مكان ألجأ فيه بالمدينة. لكن، هذه المرّة لم يُضرب الطرف المسيحي، بل ضُرب المركز بسبب النيترات التي جاء بها «حزب الله» لمصلحة بشار الأسد. فالمسيحيون متعبون وجاءت هذه الضربة. هناك مسار. جسدٌ يُنهك. كان يمكن أن يتكيّف أو يستعيد عافيته، لكن ضُرب أمنيّاً في عمقه. وكان قد تلقى ضربة اقتصادية. فاقتصاد المسيحيين قائمٌ على الخدمات، وهذه تراجعت. والمصارف التي لعبوا فيها دوراً كبيراً انهارت. وقس على ذلك».

إذاً، هل تشد الفدرالية عصب المسيحيين كي يبقوا في لبنان؟ يجيب: «أعتقد ذلك، لكنني لست متحمّساً لها لذلك، أنا متحمّس لها لكونها تمنحنا الأمل. فنصف المعركة نفسي».

ولا ينفي بو ناصيف وجود أمور أخرى مهمة في لبنان، إقتصادية وإجتماعية وسياسية، إلا أنّه يؤمن بأن «لا شيء أهمّ من إدارة التعدديّة الطائفيّة بنجاح، فمجتمعنا تعدّدي طوائفي، ويجب أن يكون النظام مناسباً لتركيبة المجتمع».

وينتقد بو ناصيف تجربة لبنان الحديث خلال قرن، إذ «كانت سيطرة مكوّن على المكونات الأخرى. قبل الحرب في 1975 كانت الأرجحية للموارنة والمسيحيين، وأي شخص لا يقول ذلك يخفي حقيقة. وبعد الحرب، منذ 1990، لم تتغيّر اللعبة. ما تغيّر هو مَن باتت الأرجحية له. صار الشيعة الممانعون فوق، والآخرون تحت. ولكن فكرة أولويّة مكّون على آخرين بقيت هي هي».

ويضيف: «الفدرالية تمرّد على هذا، وحريّة للجميع، كلٌّ في حيّزه الخاص».

وما مصير من يبقون أقليات طائفية في الكانتونات في حال صارت دولة لبنان فدرالية؟ يرد بو ناصيف الذي يعد خريطة للبنان الاتحادي: «هم يختارون، إمّا البقاء حيث هم مع إدارة ذاتيّة واسعة للبلديّات وضمانات دستوريّة لحقوق الأقليّات الطائفيّة في الولايات الفدراليّة، أو ينتقلون إلى مناطق طوائفهم. الفدراليّة في نهاية المطاف ليست تطهيراً عرقيّاً، بل ما يجب القيام به لتفاديه».



جميل معوّض: إعتبار أن الحكم الفدرالي إيجابي بشكل بديهي إفتراض غير دقيق



جميل معوّض: ربما تُريح البعض لكنها ستكون ولّادة مشاكل

كيف يقرأ الأكاديمي المتخصص بالعلوم السياسية جميل معوض طرح الفدرالية حالياً في لبنان؟

من البديهي التفكير، نظراً إلى أعطاب النظام، في كيفية الخروج من الأزمة. والفدرالية هي من الطروحات القليلة المكتوبة والجدية التي تظهر إلى العلن، من خلال مقالات ومشاريع وكتب وأبحاث. الطروحات المطالبة بالفدرالية متنوعة، لكنها كلها تنطلق من فكرة أن الأزمة الحالية هي أزمة نظام. والنظام هذا يعرّف حصراً بصفته نظاماً توافقياً مبنياً على أساس العقد الاجتماعي بين الطوائف أو المكونات اللبنانية. وهي تغض النظر عن أن أزمة النظام هي أيضاً أسلوب حكم ينتج بجزء كبير منه عن الاقتصاد الرأسمالي الفاحش الولّاد للامساواة، ويفتقد لسياسات ضريبية عادلة، أو هو نظام مبني على المحاصصة التي رسختها النخب السياسية وأدت إلى نهب موارد البلاد، أو على العنف الذي يطوع المجتمع. والكل مشارك في تأسيس وترسيخ هكذا نظام من دون استثناء طائفي.

هل الفدراليّة مطلب مسيحيّ فحسب؟

إطلاقاً. ربما معظم المطالبين بها هم من الطوائف المسيحية. لكنها ليست مطلباً مسيحياً. هي مطلب، كما يظهر في مختلف الأدبيات المنشورة، معارض لـ»حزب الله» أو ضد ما يسمى «كونفدرالية أحادية غير متساوية». بعض منظري الفدرالية يقولون صراحة باستحالة العيش معاً (أي عيش الطوائف). بالتالي، يطالبون بفدرلة الحكم، ربما وصولاً إلى التقسيم. إذاً، هي مبدأ يرفض العيش مع فئة من اللبنانيين. بالتالي، يصبح لها بعد ثقافي ورفضي. نحن لا نتحدث عن فدرالية بصفتها إدارة للإقليم أو الموارد فحسب، إنما عن رفض العيش معاً. من هنا، فإن ما سينتج عنها سيكون إما انعزالاً أو عنفاً. الفدرلة ليست رسم إطار إداري وحدود جغرافية داخلية فحسب، إنما إنتاج اقتصاد «كانتونات» سيؤدي إلى هجرة ونزوح وتنقل من كونتون إلى آخر. هذا ما حدث في نظام القائمقامية فولد عنفاً لأن الفلاحين الموارنة رفضوا أن يكونوا تحت سلطة الأقلية الدرزية. فما الذي يضمن ألا نعود وننتج الدينامية نفسها المولدة للعنف على أساس الهويات؟ هناك إمكانية أن يحدث ذلك، إلا إذا أرادوا فصلاً عنصرياً. هذا ما لا تناقشه حتى الآن الأدبيات المروجة للفدرلة. فيحكمون على صيغة لبنان الكبير لا على تجربة القائمقامية.

كيف تقرأ هذه الأدبيّات؟

لا بدّ من الإشارة إلى أن الفدراليين هم حاملو مشروع. وهذا أمرٌ يسجل لمصلحتهم. بمعنى أنهم يجتهدون لتقديم طروحات من خلال نصوص مكتوبة. لكن معظم هذه النصوص تتميز بالطابع الأكاديمي التعريفي. بمعنى أنهم يحاولون تفسير الفدرالية بصفتها نظاماً مطبقاً في عدد من البلدان. بالتالي، فإن الخوف منها غير مبرر، بحسب حاملي مشروع الفيدرالية. لكن الموضوع أبعد من التعريفات، أو مصالحة الناس مع فكرة الفدرالية نظراً لثقل الطرح. أولاً، معظم الأدبيات لا تشخص أسباب فشل النظام الحالي، بل إن بعضها يقول «لا حاجة إلى العودة إلى الماضي». وتفترض بالتالي أن الحكم الفدرالي إيجابي بشكل بديهي. وهذا غير مؤكد. ثانياً، تقف بعض الطروحات عند حدود الفكرة الإدارية والقانونية المتمثلة في تقديم دستور حكم فدرالي. لكنها لا تغوص في التفاصيل المتعلقة بعناصر هي أصلاً أساس الأزمة اللبنانية الحالية (السياسة المالية، الدفاعية والخارجية). مثلاً، الدَين العام؟ كيف نقسمه؟ ماذا عن الغاز إن وجد؟ ثالثاً، الإشكالية في هذه النصوص أنها تقدم دستوراً للحكومة الاتحادية، بناء على النص (في بلدان أخرى) وليس على تجارب الحكم الفدرالي. مثلاً، يظهر العراق كتجربة تعكس إمكانية تطبيق نظام مماثل في العالم العربي. لكنهم يغضون النظر عن الاشكاليات الكبيرة التي واجهت العراق والصراع الدائم بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان، من ناحية تطبيق الدستور وعملية تنزيل مواده من خلال نصوص تشريعية تطبيقاً للفدرلة. وهذا ما أدى إلى عرقلة انتظام المؤسسات. الطروحات السياسية تقوم على دراسات مقارنة وتجارب مقارنة وليس على تعريفات دستورية بالمعنى التقني فحسب.

واستطراداً، مشكل آخر يظهر- وهو الأخطر في رأيي- يكمن في الارتكاز على معطيات مغلوطة (أو مقصودة؟) تحت اسم «البحوث» والدراسات دعماً أو دفاعاً عن طرح الفدرلة. مثلاً، ظهر منذ فترة جدول إحصائي يقول إن المناطق المسيحية تدفع الحصة الأكبر من الضرائب. وعليه لا بد من تبني الفدرالية. تم نشر هذا الجدول من قبل صفحات الفدراليين في لبنان على مواقع التواصل الاجتماعي. الجدول طور بناءً على مقال ضحل نشر على أحد المواقع ويتضمن معلومات خاطئة وهو غير مبني على أرقام رسمية، إذ يستحيل الحصول على «داتا» من قبل وزارة المالية تخولنا معرفة من يدفع الضرائب بحسب الطوائف. من شأن الطروحات المنقوصة والمغلوطة هذه أن تساهم في سياسة الرفض فنقول عند أي مشكل: التقسيم هو الحل. وهنا، يصبح الطرح هداماً ومولداً لرفض الآخر.

هل نرفض الفدراليّة؟

كلا. ليس بالضرورة. لكننا نناقش إمكانية تطبيقها وقصور طروحاتها. على سبيل المثال، الفدرالية تتطلب حكومة اتحادية قوية ومنتظمة. وهذه مشكلة النظام الحالي أصلاً. فلماذا تفشل في النظام المركزي الحالي، وتنجح في نظام اتحادي؟ اعتقد أن الفدرلة تبدو حلاً مؤقتاً يريح البعض على الصعيد السياسي وربما الهوياتي، لكنها ستكون ولّادة مشاكل على المدى البعيد. مثلاً، كيف نتفق على دفع الدَين العام؟ هل يقبل الفدراليون أن تستضيف قلعة بعلبك مهرجانات لأناشيد دينية شيعية؟ وهل يقبلون بأن تُمنع فرقٌ موسيقية مثل ما جرى مع «مشروع ليلى» في جبيل؟ ففي مجتمع متعدد، مع نفوذ مؤسسات دينية (لا تدفع الضرائب في المناسبة) وقوى محافظة ذات تاريخ ميليشيوي وقمعي، وعلى رغم كل مشاكل الحكم المركزي الحالي، ربما تبقى «وحدة لبنان» مجالاً لتأمين توازنات معينة، منها المتعلق بحرية التعبير على الأراضي اللبنانية.



عصام سليمان: الدولة اللبنانية سقطت عندما تغلّب منطق الطائفة



عصام سليمان: النهوض ليس بتكريس حكم الطوائف

عديدة هي الأسباب والاعتبارات التي تجعل كتاب «الفدرالية والمجتمعات التعددية ولبنان» للدكتور عصام سليمان مرجعاً، على رغم مرور ثلاثة عقود على إصداره (دار العلم للملايين، 1991). والأمر ليس غريباً على سليمان الذي تولّى رئاسة المجلس الدستوري لسنوات.

وأول تلك الأسباب والاعتبارات هو أنه يعتمد منهجية علمية غايتها معرفة إذا ما كانت الفدرالية تشكل حلاً في لبنان أم لا. ولا يقارب ذلك من النصوص وتجارب البلدان والمجتمعات الأخرى فحسب، بل ينطلق من البحث في الجذور التاريخية للمجتمع اللبناني وتكوين بنيته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ويدرس نشوء النظام السياسي وتطوّره. وينظر في تأثير العوامل الداخلية والخارجية المتداخلة، مع الأخذ بالاعتبار الظروف الإقليمية والدولية المحيطة بلبنان.

وفي هذا السياق، يركّز المؤلّف على تحديد المفاهيم تحديداً علميّاً. فيتناول مفاهيم الطائفية، الأقلية، المجتمعات التعددية، الفدرالية الإقليمية، فدرالية الطوائف وغيرها. ويتوقف عند خصوصية المجتمع اللبناني ودرجة عمقها بالمقارنة مع المجتمعات التعددية الأخرى.

هكذا تجمع الدراسة القيمة بين الدستوري والسياسي والتاريخي. فبعد جولة نظرية على المجتمعات التعددية وفي الفكر الفدرالي ومبادئه، يتطرق للفدرالية كحل لمشكلة التعايش في المجتمعات التعددية. ثم يصل إلى لبنان، فيعالج المعطيات التاريخية والاجتماعية والسياسية، الطبيعة الجغرافية، نوافذ الجماعات الدينية، الوضع القانوني لغير المسلمين في ظل حكم الإسلام، ونشوء المؤسسة الطائفية والاستقلال الذاتي للطوائف.

من الإمارة إلى الجمهوريّة

ويعود إلى الإمارة نواة الكيان اللبناني: النظام الاقطاعي أساس الوحدة الدرزية - المارونية، وتصدّع هذا النظام، وتصاعد نفوذ الكنيسة المارونية، والنزاعات الطائفية وسقوط نظام الإمارة. وينظر في تجربة القائمقاميتين ونظامها، وفي المتصرّفية نواة فدرالية الطوائف وترسيخ المؤسسات الطائفية.

وتحت عنوان الجمهورية اللبنانية، يعرض للبنان الكبير تحت الانتداب: إنقلاب التوازن بين الطوائف وردود فعل المسلمين والتوازن الطائفي الجديد. ثم للبنان المستقل ولبنان ساحة الصراعات.

ويخصص قسماً لمعطيات المجتمع اللبناني: الطوائف الدينية، الصراعات، الجماعات السياسية، الأحزاب، والنقابات. ويمهّد بذلك للباب الثاني: المنتظم السياسي فدرالية طوائف دينية. فيتناول دستور 1926، الميثاق الوطني وصيغة 1943، والقوانين التي تنظم أوضاع الطوائف.

خلال هذا، يلاحظ سليمان مظاهر الفدرالية في المنتظم السياسي اللبناني (التنوع في الوحدة، الاستقلال الذاتي للطوائف الدينية وحدوده، مشاركة الطوائف الدينية في السلطة السياسية). وهنا، يبحث في أثر مظاهر الفدرالية في عمل المؤسسات الدستورية. وتكمن السخونة في الكتاب في الباب الثالث: الفدرالية الإقليمية وحل أزمة التعايش في لبنان. فيتناول الحجج الداعمة للطرح الفدرالي المرتبطة ببنية المجتمع وتكوينه التاريخي. ويخصص قسماً للحجج النابعة من واقع الحرب الأهلية ونتائجها.

وتحت عنوان «الفدرالية الإقليمية حل أم مشكلة؟»، يتوقف عند العوامل التي تحول دون اعتماد الفدرالية في لبنان. وأبرز العوامل التي يجدها المؤلّف هما: الاختلاط السكاني، وصغر مساحة لبنان وضعف موارده الاقتصادية. ويذهب أبعد من ذلك، إلى بحث المشاكل التي قد تنجم عن اعتماد الفدرالية في لبنان. وأبرز تلك المشاكل: مشكلة رسم حدود الأقاليم أو الدول المتّحدة، المشاكل الطائفية على مستوى الأقاليم أو الدول المتّحدة، المشاكل الطائفية على المستوى الفدرالي، مشكلة تنمية الأقاليم، الفدرالية والاستراتيجية الإسرائيلية، والفدرالية وقضية الديمقراطية في لبنان.

إستنتاج

ومما يستنتجه سليمان أن «الفدرالية الإقليمية لا تشكل حلاً لأزمة التعايش في لبنان ولأزمة الدولة اللبنانية، ولا تؤدي بالتالي إلى الحفاظ على وحدة الشعب والدولة، وإلى تحقيق الاستقرار. فالعقبات التي تَحُول دون اعتماد الفدرالية بنيةً للدولة اللبنانية كبيرة، واعتمادها في لبنان يضيف إلى المشاكل القائمة حاليّاً مشاكل جديدة أكثر تعقيداً، نظراً للمعطيات الداخلية والإقليمية غير الملائمة. فتحوُّل لبنان من فدرالية الطوائف، حيث الروابط الفدرالية تشمل الجماعات الدينية دون الأقاليم، إلى الفدرالية الإقليمية التي تشمل الأقاليم إضافة إلى الجماعات المقيمة عليها، يشكل خطوة كبيرة إلى الوراء على صعيد بناء الوحدة الوطنية وتماسك مجتمع الدولة، إذ إنه يكرّس الانقسام الطائفي ويمنح الطوائف كيانات دستورية، مما يقود إلى مشاكل كثيرة ومعقّدة تدفع الدولة الفدرالية باتجاه الانهيار والتفكك. فالدول ذات المجتمعات التعددية اعتمدت الفدرالية الإقليمية كوسيلة تمكّنها من الحفاظ على وحدة هذه المجتمعات والسير بها نحو مجتمعات أكثر انصهاراً. فالفدرالية التي حققت نجاحاً في هذه المجتمعات تسير نحو فدرالية أكثر مركزية، ومن ثم ستتجه مستقبلاً، وفق المنطق الذي تسير عليه، نحو فدرالية شخصية. وعندما يحقق هذا النوع من الفدرالية غايته، سيتم التخلي عنه، إذا سمحت أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنمائية، لصالح حكم مركزي في دولة موحدة».

وفي مقابل تحفّظ سليمان على الفدرالية الإقليمية، يجد أن «فدرالية الطوائف في لبنان، أي الفدرالية الشخصية، يمكنها أن تتطور في اتجاه تحقيق مزيد من الانصهار الوطني، وتخطّي العراقيل التي تعيق عمل مؤسسات الدولة وتعطل قدراتها، شرط أن يعي الذين يتسلّمون مقدرات الحكم جوهر الفدرالية الشخصية وهدفها، ويمارسوا السلطة بما يتفق وذلك».

ويعتبر سليمان أن «الدولة اللبنانية سقطت عندما تغلّب منطق الطائفة على منطق الدولة». ويرى أن «النهوض لا يتم باعتماد الفدرالية الإقليمية، لأن ذلك تكريس لتحكم الطوائف بالدولة، إنما يتم عبر اعتماد سلسلة من الإصلاحات السياسية الهادفة إلى تحرير الدولة من هيمنة الطوائف، أي تحويل الدولة من تجمّع لطوائف، يتقاسم ممثلوها سلطة الدولة والمغانم، إلى دولة مؤسسات». ويحدد الإصلاح البرلماني باعتباره «الركن الأساسي في أية عملية إصلاحية ناجحة»، لكنه يلفت إلى أنه «ليس الوحيد الواجب اعتماده». فهناك «اعتماد سياسة إنمائية متوازنة وشاملة لجميع المناطق، إضافة إلى الأخذ بالديمقراطية بمضمونها الاجتماعي والسياسي وليس السياسي فحسب» (الصفحة 260).





MISS 3