حسان الزين

ما يؤلمني في طرح الفدراليّة

22 تموز 2023

02 : 00

من حق الفدراليّين، بلا تردّد أو شك، أن يضعوا أطروحتهم، التي تصل إلى حدّ العقيدة لدى البعض، فوق طاولة الحوار والبحث. وهم يفعلون هذا الآن بجدارة، فيما على اللبنانيّات واللبنانيين عموماً أن يتحاوروا ويبحثوا، من دون قيد أو شرط، وبمسؤولية وشفافية، في شأن «وطنهم النهائي» ونظامه ودولته واقتصاده ومجتمعه، والأزمات عموماً، والمستقبل خصوصاً. الظروف المأسوية تقتضي ذلك، بل تفرض ذلك. وأي تأخير في هذا الإطار، مثلما تفعل قوى السلطة، يُعرّض البلد لمزيد من الانهيارات والمآسي والتعقيدات والشروخات. إضافة إلى أنه يفوّت على البلد فرصة البقاء في الكوكب وعصره، وفرصة إعادة صوغ موقعه ودوره في المنطقة.

لكن، على رغم ذاك الحق الذي لا نقاش فيه، يمكنني التعبير عن الألم الذي يسبّبه لي طرح الفدرالية. هذا حقّي كمواطن لبناني. ولا يمنعني ذلك من مناقشة الفدرالية، ولا يدفعني إلى رفضها أو إلى القول بمنع أصحاب رأيها من التعبير ومن وضعها في جدول أعمال الحوار والبحث. بل إنّني لا أتردّد، إزاء النشاط الفكري والثقافي والسياسي والشعبي الذي يبذله الفدراليون، من تحيّتهم. فهم الأكثر جدّية في المشهد اللبناني، واستطاعوا تحريك المياه الراكدة واستكانة أهل النظام، ومحتكريه الحاليين، من خلال طرحهم الذي يضيء على أزمة النظام وتفكّك أوصال الوطن والدولة والوطنية والشعب. فعلى رغم أنّهم لم يقدِّموا طرحاً موحّداً، وهذا ليس نقصاً وهو يفيد الحوار والبحث، إلا أنّهم يكشفون أزمة النظام. وليس غريباً أن يلاقيهم أهل النظام، وفي مقدّمهم محتكروه الحاليون، بالرفض. فهؤلاء يرفضون أيَّ كلام خارج سطرهم، وأي تغيير للأمر الواقع يهدد مصالح منظومتهم الناهبة والراهنة للبلد.

إذاً، أقول إن طرح الفدرالية مؤلم.

هو كذلك، مؤلم، لكونه ينعى لبنان. فمهما قال الفدراليون إن الدولة الاتحادية تحافظ على لبنان، إلا أنه بمثابة إعلان وفاته، لا بوصفه كياناً إنما باعتباره مشروعاً لتلاقي الناس بكل ألوانهم الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية في وطن واحد ودولة ديمقراطية.

وطرح الفدرالية على أساس طائفي مؤلم، لأنّه بمثابة إعلان رغبة في الطلاق. وليس أيّ طلاق، إنّما الطلاق الماروني، وهو الأصعب والأعقد كما نعرف. فلا يُخفَى أنّ النزعة الأقوى في تيّار الفدرالية هي التي تريد «تحرير» المسيحيين من سطوة المسلمين وتسلّطهم على النظام والدولة، وأخذهم لبنان إلى تعقيدات المنطقة العربية والإسلامية وحروبها، وفرضهم ثقافتهم على نمط الحياة.

بناءً على هذا، يؤلمني طرح الفدرالية، إذ أشعر بأنّه تخلٍّ عن لبنان الوطن المشروع الإنساني الديمقراطي. وإذ أعذر القائلين به وأتلقّى مخاوفهم بحرص وأفكّر بعقلانية في دوافعهم (لا سيما الحفاظ على الوجود المسيحي ودوره)، وفي طرحهم، إلا أنني لا أتحرّر من الإحساس بأن طرح الفدرالية يائسٌ ومستعجلٌ وخَطِرٌ. وأسمح لنفسي بوصفه (مع الاعتذار) بالمحاولة «الأنانية» للنجاة من أزمة وطنية. ويؤلمني أنّه يصدر من ثقافة مؤسِّسة للبنان الحديث، وبقدر ما هي مسؤولة مع الثقافات الأخرى عن الماضي، هي مسؤولة عن اجتراح حلول وآفاق للبنان والمستقبل.

وإزاء هذا، لا يقنعني القول إن الفدرالية حلٌ كاملٌ وآمنٌ. وأوّل ما يتبادر في الذهن حين تحليل هذا الرد، هو أنّ طرح الفدرالية يصدر عن ميل طائفي إلى الخلاص الخاص، أكثر مما هو مشروع لتطوير النظام والدولة. وهذا انتقاد للطرح الفدرالي (وليس للفدرالية)، وهو دعوة لأصحابه إلى ربط طرحهم بالحوار والبحث الوطنيين من أجل نظام ودولة مستقلّين عادلين للبنانيّات واللبنانيين جميعاً. وكي أكون منصفاً، أقول إنّ هذا ما يحرص عليه الأكاديميّون الذين يقترحون الفدرالية ويبذلون الجهد لتطوير مشاريعهم الدستورية، بمعزل عن الرأي من الطرح وأبعاده وجدواه وإمكانية تطبيقه ونتائجه. لكن، يبقى الصوت المذهبي في التيار الفدرالي (الذي يجعل عيش المسيحيين والمسلمين معاً أمراً مستحيلاً ومرفوضاً)، والذي يتغذّى من الوقائع الطائفية والسياسية والأمنية ويغذّي شروخاتها وتوتّراتها، هو ما يستدعي الحكمة. ومن دون ذلك سيبقى الطرح الفدرالي فئويّاً، ويستجلب ردوداً فئوية مضادة مشحونة بالسرديّات والمذهبية والطائفية والميول العنفية والاستقوائية... وهذا خطرٌ على لبنان وشعبه، وعلى طروحات الخروج من الأزمات، ومنها الفدرالية التي لا يمكن علمياً تجاهل إيجابيّاتها الكثيرة.

باختصار، ولو بدا ذلك نصيحة، من الأجدى للطرح الفدرالي أن يغدو وطنيّاً لا فئويّاً، وبحثيّاً لا استفزازيّاً، من أجل تطوير النظام والدولة، والحفاظ على لبنان المتعدد المتنوّع، وحماية المجتمع.

أيّها الفدراليون، وكل من يلقى الطرح صدى لديهم، لا قيمة للبنان، ولا حياة له وفيه، إلا في العيش معاً بديمقراطية وحرية واستقلالية وعدالة وسلام.


MISS 3