مصطفى علوش

رجل دولة واحد بألف زعيم

27 تموز 2023

02 : 00

«أيها الناس: لقد أصبحت سلطاناً عليكم

فاكسروا أصنامكم بعد ضلال، واعبدوني

إنني لا أتجلى دائماً، فاجلسوا فوق

رصيف الصبر، حتى تبصروني

اتركوا أطفالكم من غير خبز واتركوا

نسوانكم من غير بعل، واتبعوني

احمدوا الله على نعمته فلقد أرسلني

كي أكتب التاريخ، والتاريخ لا يُكتب دوني

إنني يوسف في الحسن ولم يخلق الخالق

شَعراً ذهبياً مثل شعري وجبيناً نبوياً كجبيني

وعيوني غابة من شجر الزيتون واللوز

فصلّوا دائما كي يحفظ الله عيوني»

(نزار قباني)

في كل مرّة أظهر في وسيلة إعلامية، أو يتمّ استنطاقي من قبل إعلامي، أو حتى في اللقاءات مع بعض المستطلعين من الديبلوماسيين، يتكرر سؤال واستفهام عن زعامة أهل السنة في لبنان! من يتولاها ومن هو مؤهل لها وماذا حصل بعد غياب تلك الزعامة... إلى ما هنالك من أسئلة أصبحت بالنسبة لي هزلية بقدر ما هي متكررة. الغريب هو أنّ تلك الاستجوابات تأتي أحياناً من ممثلي دول ديموقراطية لا تعترف بالزعامات، بل برجال ونساء دولة ينجحون أو يفشلون، يخطئون ويحاسبون، أكان ذلك في القضاء أم في صناديق الاقتراع. ومع ذلك، فهم عندنا يسألون عن زعيم ما يقود الحشود كقطعان، وذلك لتسهيل التفاهم مع مرجعية محددة، بدل عناء البحث عن خيارات الناس وتطلعاتهم كمواطنين وأفراد، بعيداً عن الزعيم الملهم والمؤيد من القوى الماورائية والكيانات الأسطورية. لا شك عندي أنّ تلك الممارسات الغربية المصدر هي من مظاهر العنصرية التي ترى في إنساننا بأنّه غير مؤهل ليعامل كقيمة ذاتية، بل كقطيع يسوقه الزعيم.

بإعجابي الكبير بالسيدة أم كلثوم، وحتى بفهمي سحر الطرب على الأحاسيس والأسماع، شبّهت الزعيم بمطرب مبدع، يدخل الناس في العلاقة معه في حفلة طرب لا نهاية لها، وكلما زادت الوصلات والعِرب والإعادات، زادت صيحات الإعجاب. وكلما سمع المطرب الهتاف والإطراء، كان يكرر ويعيد «بقى يقلي وأنا أقولوه، وخلصنا الكلام كله... قريب وبعيد وبقينا نقول ونعيد...». حفلة طرب يفرغ فيها السامعون والمغنون أثقال أحاسيسهم الجياشة، ويعود كل منهم، كما قال نزار قباني «لا شيء معي إلا كلمات ليست كالكلمات...» فتنسى الناس خروج المطرب - الزعيم عن الإيقاع وسقطاته ونزواته وإخفاقاته تحت خدر الطرب. والمؤكد هو أنّ المصيبة ليست في المطرب وحده، بل هي في التفاعل السلبي بين جمهور السامعين المطروب بصوت وآهات المطرب، وبين عجز المطرب عن وقف حلقة الطرب لكونه مدمناً عليها.

أمّا رجل الدولة، وعذراً عن قول رجل فقد يكون امرأة، فهو يشبه طبيباً يقوم بعملية جراحية مع فريق من الاختصاصيين والتقنيين، يستشيرهم وينصحونه، ليأخذ القرار على عاتقه، ويتحمل المسؤولية، نجاحاً أم إخفاقاً. من المؤكد أنّ المريض سيخرج من غرفة العمليات مصاباً بالغثيان، مع ذاك الحسّ المقيت بعدم التوازن والعجز أحياناً والألم المبرح. لكن الهدف هو استئصال المرض وليس تخديره تاركاً التلف يستنزف الجسم. ودور الجراح المسؤول هو أن يخبر المريض حقيقة مرضه وأن يشرح طريقة العلاج ومخاطره، إلى ما هنالك من واجبات أخلاقية على الطبيب اتباعها ليضمن أفضل الظروف لنجاح العملية.

في شرقنا الحزين لا يريد المريض أن يفهم مرضه، ويحاول الأهل استغفاله عن مرضه، ويتجنب الطبيب قول المرض بإسمه، ويتفادى وضع الاحتمالات والأرقام أمام المريض. وعلى كل الأحوال، لا يوجد عادة من يريد أن يسمع أو يفهم لغة الأرقام والاحتمالات، لأنّ عالم الغيب أفضل ملاذ. لا شك أنّ ما هو واجب على الطبيب في الغرب بإخبار المريض بأدق التفاصيل، يعتبر جريمة في شرقنا المغلف بالغموض والمشاعر الجياشة التي تعتبر الطرب أفضل من الحسابات، والغموض أفض لكن، بالعودة إلى قصة غياب الزعيم عن الساحة، فقد يكون غيابه أفضل ما يحدث لجماعة عاشت على خدر الطرب والتقية ومواعيد عرقوب. غيابه قد يعطي الفرصة للناس للبحث عن خيارات أخرى في رجل دولة صريح ومقدام ومتمرس، لا يعطي الآمال الكاذبة، يوصّف مكامن الخلل ويشرح كيفية إصلاحها، لكن واجبه هو التأكيد على صعوبة المرحلة التي ترافق عملية العلاج.

في لقاء مع أحد المتمرّسين الأوروبيين في شؤون الديموقرطية قال لي إنّ من يريد أن يقوم بما هو لازم للإصلاح، عليه أن يتوقع الهزيمة في الانتخابات القادمة لأنّ الناس ستوصمه بالتسبب بآلام الإصلاح. فهل من رجل أو امرأة دولة في بلدنا يقبلان بفقدان السلطة من أجل الإصلاح؟


MISS 3