المطران بول مروان تابت

القيامة والانسان الجديد

21 نيسان 2020

03 : 15

لم يخلق الله الانسان ليعود فينتقم منه أو يجعل منه رهينة للموت. فإذا كان الله قد "خلق الانسان ليُبرهن لنفسه الى أي درجة هو يحبّ"، على ما قال أحد الفلاسفة، فإنّه بعد خطيئته، أحبّه أكثر بفعل "حب عظيم"، فدخل تاريخه ومن قلب تاريخه تحوّل بموته وقيامته الى مسيح إيمانه. نعم، بموت المسيح وقيامته، خلق الله الانسان من جديد بفعل صيرورةٍ نقطةُ ارتكازها: الحب. إنه "الحب الخلاصي" الذي منه فاضت على الانسانية نِعَم الخلاص، وما زالت تغرف منه، منذ ساعة القيامة، نعمة على نعمة.

لم يتمنَّ يسوع العذاب والموت ولا هو بحث عنهما، ولكن عندما أتت الساعة وأصبح لا مفرّ منها واجهها بالمباشر: إنها جدليّة الموت والحياة، سرّ البقاء الذي يقف كل إنسان على مفترق طريقه ليختار بين الخلود أو العدميّة. إنّ خيار الانسان للخلود يعني أنه عرف أن الله أحبّه، وأنّه دخل تاريخه وحوّله الى إنسان جديد على صورته ومثاله أي: "مسيح آخر".

والسؤال يبقى: كيف يحقّق الانسان هذه الجدلية في حياته؟
في الحقيقة، عندما خلق الله الانسان أعطاه حرية اختيار المعرفة أو التطبّع... فاختار الانسان "المعرفة الكاملة" لكنه أراد أن يصبح "الله" فوقع في شَرَك الخطيئة الأصلية وهي مساواة نفسه بالخالق. ومع ذلك، كأبٍ خالق، أظهر الله له حبَّه العظيم وأرسل له ابنه ليخلّصه ويعطيه شراكة جديدة في الملكوت السماوي تقوم على إشراكه في الخلق. أخذ الله على عاتقه عملية خلق الانسان من العدم وأوكل إليه مهمة مساعدته في "أنسَنَة الإنسان" خلال مسيرته على الارض حتى ينتهي في السماء بعد عبوره من هذه الدنيا بانتصاره على الموت، آخر أعدائه.

تأخذ مهمة "أنسنة الانسان" قوّتها من نِعَم الصليب والقيامة، إنها التعبير الحسّي عن فيض الحب الذي يملأ حياة كل مؤمن صادق. فكلما أحبّ الانسان أخاً له في الانسانية وعبّر له عن محبته بالقول أو بالفعل، يخلقه من جديد. بهذا يتمايز الانسان عن كل الكائنات الاخرى، فالحياة عنده تعني غير ما تعنيه لأيّ آخر. فإذا شكّل الموت عودة الى العدمية، فالحياة، في ضوء القيامة تتغذّى من القناعة أن المسيح يعيش فينا وتؤسّس لبداية جديدة بعد كل فعل عدميّة. فالمهم أن يكون الانسان صادقاً مع نفسه، ويعترف أن ألم المعرفة يطهّر وينقّي ولا يستحوذ على إرادته بل يصبح في "جدلية الخلق" تحقيقاً لسرّ الله العظيم.

إن الفصح قَلَبَ الايمان، لكن المجاهرة بالمسيح قائم من الموت هو ليس مسألة إيمانية فقط، إنما مسألة حياتية أيضاً...فالمسيح لم يخرج من القبر حيّاً من إجله هو، إنما من أجلنا... فقيامته تأكيدٌ أننا "إذا متنا معه... سنحيا معه"(روما 6/8) كما قال القديس بولس. فالانسان الذي يذبل كما الزهرة في الحقل، يجد في القيامة سبباً للرجاء.

•إن القيامة وعد بالحياة والوحدة مع الله، تتحقّق في نهاية التاريخ عندما يُهزم آخر عدو للإنسان وهو الموت.

• إن القيامة تجسيد للرجاء، ليس فقط بالحياة الأبدية، إنما أيضاً في قلب عواصف الحياة وصعوبات الدهر وعذابات الظروف وآلام المرض والحظ السيئ، كما في أفراح الدنيا ورغد العيش والاكتفاء المادي.

•إن القيامة إعادة اعتبار لدعوة الانسانية الى تحقيق ذاتها.

•إن القيامة إعلان دامغ أن الله، من جهة، يحبّ الانسان فوق كل شي وأكثر مما يعتقده هذا الأخير، وهي أيضاً، من جهة أخرى، إعلان بأن الانسان قادر أن يحبّ كما أحبّ الله.

مفارقة في التاريخ

عاشت على الأرض، عبر الزمن، شخصيات طبعت التاريخ بحضورها، منها السياسي والعسكري والانساني والفلسفي والفكري والاكتشافي وغيرهم. كانت لهم مكانتهم خلال حياتهم، إما احتراماً لهم أو خوفاً منهم، وبعد موتهم توقّف الزمن عند هذا، فاصبحوا في التاريخ من التاريخ.

أما يسوع، فلم يُعطَ خلال حياته أي اعتبار ولا اعتراف بمكانته، صلبوه على خشبة..."كشاةٍ سِيقَ الى الذبح..."(أشعيا 53/7) وبعد موته أصبح هو التاريخ، صار قياس الزمن "ما قبله وما بعده". تبعه العالم وهذا ليس بصدفة، ففي المسيحية لم يَعُد الموت مساوٍ للعدمية منذ يوم القيامة.

وفي ظلّ توقّف البشرية برمّتها وهي تواجه وباء الكورونا، يقف الانسان، ولو الى حين، عاجزاً عن متابعة حياته اليومية، متسائلاً عن الأهم والأكثر أهميّة، غير قادر على ملامسة أعزائه وأحبائه حتى في ساعة الفراق الأخير، لا تنفع دمعة ولا يحلّ مسألة أي مال.

ما هي العبرة في هذا: هل العالم يسير فعلاً نحو نظام جديد؟!
فيما العالم اليوم بحاجة الى سلّم أولويات ومسلّمات روحية وإنسانية واجتماعية وسياسية واقتصادية أكثر انسجاماً مع واقعه الطارئ، نجد أنفسنا أمام حقيقة القيامة. فكيف يمكننا أن نكون شهوداً لها!

نكون شهوداً حقيقيين إذا أعدنا النظر في ضوء ما تقدّم:

•بعلاقتنا بالعالم

•بعلاقتنا مع ذاتنا

•بعلاقتنا مع الآخرين

•بعلاقتنا مع الله

يحتاج عالمنا الى "حب"، يحتاج الى "أبطال حب" ليعودوا فيحدّدوا معالم هذا الانسان الجديد... إنه سرّ القيامة!



*راعي أبرشية مار مارون- كندا

MISS 3