تتعلق واحدة من أبرز الخرافات الشائعة حول العلاقات الأميركية الإسرائيلية بعدم تدخّل الولايات المتحدة في السياسة الإسرائيلية وعدم تأثير إسرائيل على السياسة الأميركية. تسنّى لي أن أطّلع على الأحداث خلال عهود جمهورية وديمقراطية، حيث حاول المسؤولون التأثير على نتيجة استحقاق انتخابي إسرائيلي واختيار المرشحين المفضلين لاستلام منصب رئيس الوزراء. مع ذلك، تبقى جهود الرئيس الأميركي جو بايدن في الفترة الأخيرة للرد على مشروع الإصلاح القضائي الذي أطلقه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فريدة من نوعها، مقارنةً بالتدخلات الأميركية الأخرى في السياسة الإسرائيلية لأن الوضع الذي يواجهه الرئيس الأميركي غير مسبوق.
لكن، ثمة حدود واضحة لما يستطيع بايدن فعله أو ما يريد القيام به للتدخل في سياسة بلدٍ يُعتبر من أقرب حلفاء واشنطن. كذلك، تتعدد الأسباب التي تجعل تجاوز تلك الحدود قراراً شائباً قد يعطي نتائج عكسية.
أولاً، لا يحبذ الرؤساء الأميركيون عموماً الشجار العلني مع رؤساء الحكومات الإسرائيليين. إنه وضع مربك وفوضوي وقد يصبح مكلفاً من الناحية السياسية. لكن قد يكون بايدن أقل استعداداً لهذا الموقف من معظم المسؤولين الآخرين.
يعود دعم بايدن القوي لإسرائيل إلى أول زيارة قام بها إلى ذلك البلد في العام 1973، ما يعني أنه يشعر بوجود رابط شخصي وعميق مع مسيرة إسرائيل ونضالاتها. أنتج هذا التاريخ الطويل من التواصل شكلاً من الألفة أو العاطفة من بايدن تجاه نتنياهو، ويصعب أن يكسر أحد هذا الرابط.
في غضون ذلك، تعلّم بايدن بعض الدروس الصعبة حول مخاطر تبنّي مقاربة أكثر صدامية تجاه نتنياهو منذ أن كان نائباً للرئيس باراك أوباما. لاحظ بايدن تداعيات الموقف الذي اتخذه الرئيس السابق حين انتقد نتنياهو علناً بسبب المستوطنات، من دون أن يكون مستعداً لإلحاق كلماته بأفعال ملموسة. هو أدرك أيضاً منافع تجنّب أي شجار علني مع الزعيم الإسرائيلي. للتعامل مع إسرائيل، يبدو أن نهج أوباما ليس النموذج الرئاسي الذي يفضّله بايدن، بل إنه أكثر تأييداً لنهج بيل كلينتون الذي كان يحمل تعاطفاً راسخاً تجاه إسرائيل.
تعني هذه العوامل كلها أن بايدن لا يميل إلى مواجهة نتنياهو، حتى لو كان يزعجه كثيراً، بل إنه يفضل إيجاد طريقة ما للتكيف معه.
ربما أدرك بايدن أنه لم يعد يتعامل مع نتنياهو القديم الذي كان حذراً ويميل إلى تجنّب المجازفات ولا يبدي استعداده لإثارة استياء واشنطن. هو يتعامل اليوم مع سياسي مستعد لأخذ المجازفات ويتوق إلى التمسك بالسلطة بأي ثمن، حتى أنه قد يسمح لوزرائه المتطرفين بإضعاف الديمقراطية الإسرائيلية وتطبيق سياسات مبنية على ضم الأراضي، ولو بطريقة غير رسمية.
مع ذلك، لا ينوي الرئيس خوض الحرب مع نتنياهو. اتّضح هذا الموقف في المقابلة التي أجراها بايدن مع فريد زكريا من قناة «سي إن إن»، في 9 تموز الماضي. بعد مهاجمة الوزراء المتطرفين في حكومة نتنياهو، أضاف الرئيس أنه يأمل في أن «يتابع بيبي (لقب نتنياهو) التمسك بالاعتدال». وحتى موقف البيت الأبيض الذي يعتبر تمرير أول مرحلة من الإصلاح القضائي «مؤسفاً» كان يمكن أن يكون أقوى بعد. لكنه لم يذكر نتنياهو شخصياً.
من الواضح أن بايدن سئم من تصرفات رئيس الوزراء الإسرائيلي، لكنه ما زال يحب إسرائيل. سيكون إضعاف نتنياهو من دون أن تتضرر إسرائيل تحدياً شائكاً على الرئيس الذي يحمل في حمضه النووي السياسي والعاطفي تقديراً عميقاً لإسرائيل.
ثانياً، يواجه بايدن تحدياً استثنائياً وغير مسبوق في العلاقات الأميركية الراهنة مع إسرائيل. لطالما شملت الاضطرابات والأزمات السابقة بين البلدين اختلافات حول مسائل على صلة بالأمن أو السياسة الخارجية. كانت تلك الفترات المضطربة منفصلة عن بعضها، وكان بعضها قوياً جداً، لكن نجح المعنيون في حلّها بسرعة نسبياً في معظم الحالات.
في العام 1975 مثلاً، هدد وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر بإعادة تقييم العلاقات الأميركية الإسرائيلية بسبب عدم استعداد الحكومة الإسرائيلية للموافقة على اتفاقية فك الاشتباك الثانية على جبهة سيناء مع مصر. كذلك، قرر الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان تعليق تسليم طائرات «ف-16» مؤقتاً في العام 1981، بسبب إقدام إسرائيل على قصف مفاعل نووي عراقي. ثم رفض الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب، في العام 1991، تقديم ضمانات لقروض الإسكان بسبب توسّع المستوطنات الإسرائيلية.
لكن على عكس تلك الحالات كلها، تتعلق الأزمة الراهنة، وهي أزمة خطيرة فعلاً، بأهمية التقارب الذي ارتكزت عليه العلاقات الأميركية الإسرائيلية طوال عقود. من الواضح أن استنزاف الديمقراطية الإسرائيلية من الداخل على يد حكومة يمينية متطرفة يُضعِف واحدة من أهم الركائز التي ربطت البلدَين ببعضهما منذ تأسيس الدولة الإسرائيلية. إذا انهارت تلك الركيزة، ستتلاشى صورة إسرائيل في عقول الأميركيين كبلدٍ ملتزم بالقيم الليبرالية والتعددية والديمقراطية، وسيضعف الطابع المميز الذي حملته هذه العلاقة فتصبح مبنية على المصالح المشتركة بكل بساطة، مع أن هذه المصالح تختلف بين الطرفَين في بعض المجالات أيضاً.
بما أن هذا الوضع المحرج اليوم ينعكس على سياسة إسرائيل الداخلية ونظام الحُكم في أي دولة سيادية، تتراجع الخيارات التي تسمح بتنفيذ تدخّل خارجي، حتى لو كان بايدن يميل إلى تجاوز خطاباته التي تشجّع نتنياهو على إبطاء مساره والعمل على التوصل إلى إجماع معيّن.
وبما أن هذه الأزمة تنجم عن انتخاب حكومة شرعية لن يأتي بديل عنها في أي وقت قريب على ما يبدو، من المتوقع أن تستمر الاضطرابات السائدة لفترة أخرى. يبلغ متوسط مدة أي حكومة إسرائيلية منذ الاستقلال 1.8 سنة. وبما أن استطلاعات الرأي تكشف أن نتنياهو لن يتمكن من تشكيل أي حكومة إذا جرت الانتخابات اليوم، سيضطر للرضوخ لمطالب وزرائه المتطرفين. باختصار، سيتعامل بايدن مع هذه الحكومة على الأرجح حتى نهاية العام 2024 على الأقل، أو ربما لفترة أطول، وتتراجع في هذه المرحلة الخيارات التي تسمح بتحسين الوضع.
ثالثاً، يعكس الشجار مع إسرائيل سياسة سيئة وعقيمة. سبق وخاض عدد من الرؤساء الأميركيين هذه التجربة، لكنهم استثناء على القاعدة. في كل واحدة من تلك الحالات، أدى الصدام بين الطرفين إلى تحقيق إنجازات بارزة في مجال السياسة الخارجية، فكانت المواجهة في تلك الظروف تستحق العناء.
تشاجر الرئيسان السابقان ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد مع إسرائيل بسبب المفاوضات التي أنتجت دبلوماسية فك الاشتباك مع مصر وسوريا، بين العامين 1973 و1975، ما دفع الرئيس المصري السابق أنور السادات إلى القيام برحلة تاريخية إلى القدس. كذلك، تصادم جيمي كارتر مع إسرائيل بين العامين 1978 و1979، حين كان الطرفان يحاولان إيجاد الطريقة المناسبة لإقرار معاهدة سلام تاريخية مع مصر. أخيراً، تشاجر جورج بوش الأب مع إسرائيل أيضاً بسبب بناء المستوطنات، ومهّد ذلك الحدث لتنظيم مؤتمر السلام الناجح في مدريد، في العام 1991.
لا يملك بايدن هذا النوع من الفرص. يبدو الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بعيداً كل البعد عن أي إنجاز محتمل، وهو اعترف شخصياً بأن أي تطبيع للعلاقات بين الطرفين لا يزال مستبعداً. كذلك، تبدو البيئة السياسية المحلية التي يواجهها بايدن في الملف الإسرائيلي سامة بكل وضوح. أصبح الحزب الجمهوري الطرف الذي يدافع عن إسرائيل، حين تخطئ أو تصيب، وهو يتوق إلى تصوير بايدن والديمقراطيين عموماً كأشخاص معادين لإسرائيل. سبق وبدأ الجمهوريون بمهاجمة إدارته أصلاً بسبب ما يعتبرونه تدخلاً غير مناسب في السياسة الإسرائيلية.
ونظراً إلى تعدد الملفات الخارجية المُلحّة، بما في ذلك الحرب الروسية في أوكرانيا والتوتر المستمر بين الولايات المتحدة والصين، بالإضافة إلى تركيز الرئيس على إعادة انتخابه محلياً، من غير المنطقي أن يورّط بايدن نفسه في صدام مع نتنياهو بسبب الإصلاح القضائي الأخير أو أي محاولة محكومة بالفشل لتحقيق إنجاز معيّن بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ثمة حاجة مُلحّة إلى تحديد الخطوات التي سيتخذها بايدن لتحسين السياسات الداخلية المتقلّبة في إسرائيل من دون زيادة الوضع سوءاً. من المتوقع مثلاً أن يعلّق دعوة نتنياهو لزيارة البيت الأبيض، وسيتابع حتماً اعتبار الإجماع جزءاً أساسياً من نقاط النقاش بين كبار المسؤولين في إدارته والإسرائيليين.
لكن يصعب أن نتوقع فرض أي شكل من الخطوات العقابية. يحتاج نتنياهو إلى مساعدة الولايات المتحدة لتطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية. هل سيفكر بايدن بربط هاتين المسألتين ببعضهما؟ قد يفعل ذلك. لكن إذا كان هذا الاتفاق ممكناً فعلاً، من المستبعد أن يجعل بايدن المساعدات الأميركية مشروطة، فيربطها بتراجع نتنياهو عن الإصلاح القضائي.
كانت إدارة بايدن حكيمة بما يكفي كي تسمح للمحتجين الإسرائيليين بالتحرك. وتُعتبر مواقف بايدن حتى الآن صائبة وضرورية، حتى أنها أبطأت قوة نتنياهو على الأرجح، لكنها لم تكبحها بالكامل. هذا الوضع ليس مفاجئاً، نظراً إلى هوس رئيس الوزراء الإسرائيلي بالسلطة. لن يكون هذا السباق سريعاً وعابراً، بل إن المعركة على ديمقراطية إسرائيل هي أشبه بماراثون طويل. في النهاية، يُفترض أن يبقى مصير الديمقراطية الإسرائيلية بيد الإسرائيليين، بغض النظر عن اهتمام بايدن بمستقبل إسرائيل.