هيلين ميرين... جميلة ومُلهِمة في جميع مراحل حياتها

02 : 00

لا تزال الممثلة القديرة هيلين ميرين، بقوّتها، وحكمتها، وأدوارها المميّزة، مصدر إلهام حقيقياً وقيمة سينمائية كبيرة أمام الشاشة ووراءها...

حصلت ميرين على فرصة تجسيد ثلاث ملكات بريطانيات في أفلام ومسلسلات مختلفة: الملكة إليزابيث الأولى في فيلم Elizabeth I في العام 2005 (فازت بفضله بجائزتَي «إيمي» و»غولدن غلوب» عن فئة أفضل ممثلة)، والملكة إليزابيث الثانية في فيلم The Queen (الملكة) (فازت بفضله بجائزتَي «أوسكار» و»بافتا» عن فئة أفضل ممثلة)، والملكة تشارلوت في فيلم The Madness of King George (جنون الملك جورج) (ترشّحت بفضله لجائزة «أوسكار» عن فئة أفضل ممثلة مساعِدة).

تعليقاً على هذه الأدوار، تقول ميرين: «كان دورا الملكتَين إليزابيث متعبَين جداً، جسدياً ونفسياً. أحبّ أن أعتبر نفسي ممثلة نموذجية، لكني لم أعد كذلك اليوم. الأمر بهذه البساطة. كانت تلك المشاريع ممتعة جداً، ويُفترض أن يطرح كل دور تحدياتٍ مختلفة، لكن يبقى تجسيدها مُنهِكاً. أنا صادقة بما يكفي للاعتراف بذلك».

تنحدر ميرين من سلالة روسية نبيلة. كان جدّها من جهة والدها، بيوتر فاسيليفيتش ميرونوف، عقيداً في جيش القيصر الروسي وذهب في مرحلة معيّنة إلى المملكة المتحدة حيث تفاوض على اتفاق تسلّح خلال الثورة الروسية. كانت ميرين تعيش حياة غير تقليدية، على المستويين الشخصي والمهني، وهو أمر غير مفاجئ عند النظر إلى تصرّفاتها. كان والدها يعمل كسائق أجرة لكنه وجد صعوبة في إعالة عائلته. أما والدتها، فكانت فتاة من الطبقة العاملة في لندن، وقد انحدرت من عائلة مشهورة ببيع اللحوم، وكان جدّها من جهة أمّها يبيع اللحوم للملكة فيكتوريا.

على مرّ خمسة عقود، ترشّحت ميرين لأربع جوائز «أوسكار» وفازت بواحدة (عن فيلم The Queen). لكنّ قيمتها الحقيقية لا تتّضح في الجوائز، بل في مكانتها كممثلة أسطورية في بريطانيا، والولايات المتحدة، وأي مكان آخر.

أقامت ميرين علاقة طويلة مع الممثل ليام نيسون، لكنها لم تجد سعادتها الحقيقية إلا مع المخرج تايلور هاكفورد الذي تجمعها به علاقة قائمة منذ 36 سنة. هي وقعت في حبّه حين كان مخرج فيلم White Nights (الليالي البيضاء) في العام 1985. لكن رغم قدرتها على إعادة ابتكار نفسها في جميع الحالات، لم يسبق أن بدت مستقرة في حياتها قبل هذه العلاقة.

تقول ميرين: «في معظم الأوقات، يجد الممثل راحته في الانشغال الدائم. نحن نشعر بأن الوضع تحت السيطرة وتنتابنا أعلى درجات الإسترخاء في هذه اللحظات بالذات. امتنعتُ عن العمل في فترات معينة، فكنتُ أعود إلى المنزل وأنتظر رنين الهاتف. إنه عذاب حقيقي. هل كنت أظن أنني سأتابع العمل حتى عمر السبعين؟ مطلقاً. هل أشعر بالامتنان؟ طبعاً! نحن لا نفكر بأنفسنا بالقدر نفسه مع التقدم في السن. حين نكون أصغر سناً، قد نظن أننا محور العالم. لكننا نستنتج في نهاية المطاف أن الآخرين يساعدوننا على جعل العالم مكاناً أكثر إثارة للاهتمام. أنا أستمتع بالتقدم في السن. أظن أنها تجربة ممتعة».

نحو إيجاد الذات

تتذكر ميرين أن والدتها شجّعتها في شبابها على التخلص من لكنة سكان منطقة «التايمز». كانت تظنّ على الأرجح أن ابنتها قد تبلي حسناً في العالم إذا لم تكن تحمل لكنة خاصة ببلدة محدّدة: «في تلك الفترة، كان الناس يحملون توقّعات معينة من لكنة الممثلين في هذا القطاع. لكن تغيّر الوضع كثيراً اليوم، فقد أصبح غياب الإلقاء المتقن شائعاً في الطبقات الإنكليزية العليا منذ ذلك الحين. لكني ما كنتُ لأخسر جذوري في أي لحظة، بغض النظر عن لكنتي على مرّ السنين. تلك الجذور تُحدّد هويتي. عندما نكتشف جذورنا، تصبح الحياة أكثر سهولة ويتحوّل العالم إلى ساحة لنا. لهذا السبب، استمتعتُ بكوني امرأة متمرّدة في معظم فترات حياتي». يترافق هذا الموقف مع ذكاء واضح وقوة إرادة حديدية، وتتّضح معالم شخصيتها في الأدوار التي أدّتها كقائدة عسكرية في فيلم Eye in the Sky (عين في السماء)، أو عميلة للموساد في فيلم The Debt (الدين)، أو والدة جايسون ستاثام في فيلم The Fate of the Furious (مصير الغاضب). تثبت هذه الصفة المشتركة أن ميرين قد تكون الممثلة النموذجية لتقديم هذا النوع من الشخصيات النسائية القوية.

كان طريق نجوميتها استثنائياً بمعنى الكلمة، فهي وصلت إلى هوليوود بطريقة غير تقليدية ولم تحصد شعبية حقيقية قبل عمر الأربعينات. بدأ الوضع ينقلب لمصلحتها بفضل المسلسل الدرامي البريطاني القصير Prime Suspect (المشتبه الأول) الذي بدأ عرضه في العام 1991، فمنحها فرصة غير متوقعة في هوليوود بعد سنوات من المشاريع السينمائية والإطلالات المسرحية المتنوعة.

غيّر ذلك المسلسل الأفكار النمطية السائدة في المسلسلات الدرامية التلفزيونية حيث كان الرجال يؤدّون أدوار المحقّقين دوماً. لم يكن الإنتاج بحدّ ذاته ضخماً، لكن كانت حملة تمكين النساء التي دعمها قوية بما يكفي. تزامناً مع نشوء الحركة النسوية، اعتبرت شريحة معينة من الجمهور شعبية ميرين قوية بقدر شخصيات بارزة من أجيال أخرى كانت ترمز إلى قوة النساء في الثقافة الشعبية خلال التسعينات، من أمثال مادونا وفيكتوريا بيكهام.

لا تعتبر ميرين دراما الجريمة أقل مستوى من الأعمال التي قدّمتها في المراحل اللاحقة، فتقول: «أظن أن نوع العمل الذي نقدّمه هو الأقل أهمية. يتعلّق أهم عنصر في هذه العملية كلها بالأداء التمثيلي والشخصية التي نحاول تجسيدها، لكنه العنصر الأقل إرضاءً أيضاً. عملياً، تنبثق قوة التمثيل والعناصر الدرامية من داخلنا. الأهم هو الشعور الذي ينتابنا في العمق. في المقابل، تبقى جميع العناصر الأخرى سطحية، بما في ذلك المظهر الخارجي أو قوة العضلات».

بعيداً عن الأدوار التمثيلية، تقوم ميرين بحملات إعلانية لا تُعَدّ ولا تُحصى، أبرزها على الأرجح تعاونها مع ماركة «لوريال». تعليقاً على هذه التجربة، تقول النجمة الإنكليزية: بالنسبة إلى امرأة متقدمة في السن، يمنحنا هذا النوع من الحملات الأمل والطموح لأنه يقنعنا بأننا نستطيع متابعة الاعتناء بمظهرنا. نحن لا نستسلم بكل بساطة حين نبلغ عمر الستين! لقد كنتُ محظوظة جداً في هذا المجال، فقد حافظتُ على صحتي، ووجدتُ عملاً جيداً، واستمتعتُ برفقة رجل مدهش، بعيداً عن صخب إيطاليا. أنا أعيش حياة هادئة ومسترخية للغاية في بلدة «سالينتو». أمضي يومي وأنا أعتني بالحديقة، وأقصد الأسواق، وأستمتع من وقتٍ لآخر بالحفلات في أجمل المواقع التي يمكن تخيّلها».

الـــــــحــــــيــــــاة جــــــمــــــيــــــلــــــة

عثر الزوجان على هذا المنزل الريفي الذي يعود إلى القرن السادس عشر بالصدفة: «كنا نتجوّل في المنطقة ورأينا تلك الأنقاض الجميلة فجأةً في بلدة «تيغيانو» التي أسرتنا من النظرة الأولى. تطلّب ترميم المكان وفتح المزرعة وإدارتها جهوداً كبرى. في البداية، شعرتُ بأننا أخطأنا في الاختيار. لكني كنتُ أجلس يوماً على أحد المقاعد وكان زوجي في البلدة، فرأيتُ رجلاً يمرّ على دراجة هوائية. في تلك اللحظة، لمس ذلك المشهد قلبي لسببٍ ما زلتُ أجهله. قلتُ في نفسي حينها: أنا أنتمي إلى هذا المكان»!

بالحديث عن إيطاليا، تعترف ميرين بأن تعلّم لغة أجنبية كان أسهل عليها من تعديل لكنتها على مرّ السنين. هي تقول ضاحكة: «هل تعلم؟ أنا أعتبر اللكنة الأميركية مستحيلة، وهو أمر غريب بما أنني عشتُ لسنوات طويلة هناك وزوجي أميركي أيضاً. أشعر بأنني لا أفهم هذه اللكنة بالشكل الصحيح، ولستُ واثقة من أنني سأفهمها يوماً. لقد تكلمتُ بجميع اللكنات: الفرنسية، والأيرلندية، والاسكتلندية، والروسية. لكني أعتبر اللكنة الأميركية جميلة، لا سيما الأصوات التي يصدرها سكان كارولاينا الجنوبية. هذه اللكنة موسيقية، لكني أعجز عن لفظها مهما فعلت. إنها تجربة شاقة جداً».

لكن لا يمكن أن يكون إتقان هذه اللكنة صعباً بقدر التحوّل إلى نجمة سينمائية كبيرة. تُصِرّ ميرين على عدم اعتبار نفسها نجمة من هذا النوع، رغم مرور خمسة عقود على عملها في هذا المجال. هي تقول بكل ثقة: «أنا ممثلة عاملة وامرأة محظوظة جداً. أحياناً، يكون الحظ حليفنا بكل بساطة. أنا لستُ نجمة سينمائية ولم أعتبر نفسي نجمة في أي يوم. هل أحصد إيرادات بقدر ميريل ستريب مثلاً؟ هي تُعتبر نجمة سينمائية حقيقية!».

أخيراً، تقول ميرين إن مشاريعها المقبلة كثيرة وتؤكد أن شيئاً لن يوقفها. تتّضح هذه النزعة أصلاً في تغيّر مظهرها بطريقة مدهشة في الفترة الأخيرة، فقد وضعت مكياجاً جريئاً ووصلات شعر مدهشة في مهرجان «كان»، في شهر أيار الماضي: «العمر لا يمنعني من تحقيق ما أريده في أي لحظة. لحسن الحظ، أنا امرأة معتادة عيش الحاضر، ولا أكتئب من مرور الوقت أو من تغيّر شكلي. أنا أفضّل متابعة حياتي. من إيجابيات التقدم في السن ألا نعود نهتم بتبدّل شكلنا وخسارة جمالنا. الأمر الوحيد الذي يؤثر بي أحياناً في موضوع العمر هو السؤال التالي: كيف مرّت حياتي؟ لكني أعود وأقدّر الجهود التي بذلتُها ونزعتي إلى تجربة أمور مثيرة للاهتمام».

لكن لا يعني ذلك طبعاً ألا يتأثر الإنسان حين يدرك أن نهاية الطريق اقتربت. كانت ميرين مقتضبة ومباشرة ومتّزنة في تحيّتها للملكة إليزابيث الثانية حين قالت: «أنا فخورة بتقديم دور الملكة إليزابيث. نحن نحزن على امرأة كانت رمزاً للنُبل، مع أو من دون تاج. حين يموت أحد في محيطنا، ألا يجعلنا هذا الحدث نفكّر بالحياة؟ لا مفرّ من ذلك على ما أظن. يصعب ألا تؤثر بنا هذه الأحداث. إنه أمر طبيعي، وهو يُذكّرنا بهشاشة الحياة التي تسحقنا أحياناً، لكن يجب ألا نسمح لها بالتحكّم بنا. لهذا السبب، لا يمكننا إلا أن نبذل قصارى جهدنا ونحاول عيش حياتنا بأفضل طريقة، وأشعر بأنني قمتُ بذلك على أكمل وجه».


MISS 3