في ظل استمرار النقاش حول طلب حكومة الرئيس نجيب ميقاتي من مصرف لبنان الاستقراض بالدولار من المصرف المركزي، واشتراط نواب الحاكم الأربعة وعلى رأسهم نائب الحاكم الأول وسيم منصوري أن يتمّ ذلك وفقاً لقانون يصدره مجلس النواب ويتزامن مع تنفيذ سلسلة إصلاحات، تبرز آراء قانونية تشير الى أن الاستقراض يجب أن يتم وفقاً لشروط صارمة وبالليرة اللبنانية، في حين أن مشروع القانون الذي يجري إعداده من قبل أمانة سر مجلس الوزراء هو بالدولار وليس بالليرة اللبنانية.
قبل الدخول في تشريح مدى صوابية إقراض المركزي الحكومة من عدمها، وما إذا كان يحق لها الاستقراض بالعملة الوطنية أو بالدولار خصوصاً في هذا الظرف الراهن، لا بدّ من الإضاءة على معطيين أساسيين يبرران طلب الحكومة الاستقراض بالدولار وليس بالليرة (بحسب خبراء اقتصاديين)، الأول أن النص القانوني الذي ينظّم عملية استقراض الدولة من المصرف وضع في ستينات القرن الماضي وهو أقرب الى إطار عام، في حين أننا في 2023. فالدين العام يبلغ نحو 100 مليار دولار، 40 بالمئة منه بالدولار و60 بالمئة منه بالليرة اللبنانية أي 60 مليار دولار كانت تحتسب على دولار الـ1500 ليرة، في حين أن دولار السوق الموازية اليوم هو نحو 90 ألف ليرة، وهذا يعني أن الدين العام بالليرة أقل من مليار دولار، وهذا يضع أمام الاستقراض بالليرة عائقين أساسيين، الأول لن يقدم أيّ من المصارف على الاكتتاب بالدين بالليرة والثاني اكتتاب المركزي بالعملة الوطنية سيزيد سعر دولار السوق السوداء بسبب زيادة الكتلة النقدية للعملة الوطنية.
ماذا في القانون؟
في تشريح الرأي القانوني القائل إن اقتراض الحكومة من المركزي محظور، وإذا تمّ فيجب أن يكون بالعملة الوطنية، يشرح الأستاذ المُحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة، الدكتور كريم ضاهر لـ»نداء الوطن» أن «الإقراض استثناء والمبدأ الذي ورد في المادة 91 من قانون النقد والتسليف نصّ صراحة على عدم جواز إقراض الدولة اللبنانية والقطاع العام بل هناك تسهيلات منصوص عنها في المادتين 88 و89».
يضيف: «المبدأ ينصّ أيضاً في حال أراد المصرف المركزي إقراض الدولة، يجب أن يتم ذلك بالعملة الوطنية لأن حسابات الدولة ونفقاتها هي بالليرة اللبنانية، وحين تريد فتح اعتمادات للخارج بالعملات الأجنبية يتولّى المركزي شراء هذه العملات»، لافتاً الى أن»الاستثناء الوحيد الذي حصل حول الاستقراض بالعملة الأجنبية هو ما صدر في قانون موازنة 2022، حيث سمح بالمادة 19 فتح حساب بالعملة الأجنبية للدولة اللبنانية لتحصيل إيرادات ودفع مستحقات بالعملة الأجنبية، والمادة 87 من الموازنة نصّت على استثناء دفع الرسوم بالعملة الأجنبية مثل الرسوم الجمركية وضريبة رؤوس الأموال المنقولة والمتأتية من الاستثمارات والتوظيفات بالخارج وغيرها».
يوضح ضاهر أيضاً أن «قانون النقد والتسليف ولا سيّما المواد 84 حتى المادة 97 والتي تنظم علاقة المركزي مع القطاع العام، لم تأت على ذكر أن التعامل بينهما يجب أن يكون بالعملة الوطنية أو الأجنبية، بل تتحدث عن عمليات مصرفية جائز القيام بها»، لافتاً الى أن «المادتين 81 و82 تفسران حق المصرف المركزي في شراء وبيع وتصدير الذهب وسائر المعادن الثمينة، وفي أن يجري جميع العمليات الأخرى على هذه المواد وأن يقبل لديه إيداعات السبائك الذهبية، وأن يصدر ما هو لصالح المودعين من شهادات إيداع وأن يشتري ويبيع سندات وأموالاً تحت الطلب بعملات أجنبية ويجب ألا تتعدى مهلة استحقاق السندات 6 أشهر، وأن يشتري ويبيع سندات الدين التي تصدرها أو تكفلها الحكومات الأجنبية والمؤسسات الدولية والتي قد تكون محرّرة بعملات أجنبية على أن تكون سهلة للبيع».
يرى ضاهر أن «هذا يعني أن القانون حين يتناول التداول بعملات أجنبية يلحظها بصورة واضحة وليس ضمنية، وهذا ما نصّت عليه المواد 81 و82 و83 أي قيام المركزي بعمليات مالية بالعملة الأجنبية، وأن يقرض المصارف المركزية الأجنبية والمؤسسات المالية الأجنبية والدولية وأن يستقرض منها شرط أن تكون هذه العملية قصيرة الأجل وضمن مهامه كمصرف مركزي».
ويلفت الى أن «الدولة اللبنانية والمركزي ارتكزا على المادتين 81 و83 من قانون النقد والتسليف، في ما يتعلّق بالإقراض والتوظيفات بالعملة الأجنبية، والمادة 82 تخلق التباساً لأنها تنصّ على أنه «لا يمكن للمصرف المركزي أن يجري العمليات التي تجيزها المادة السابقة (81)، إلا مع الهيئات التالية أو لحسابها وهي القطاع العام والمصارف والمؤسسات المالية المقيمة في لبنان والمصارف المركزية والمصارف والمؤسسات المالية في الخارج والمؤسسات المالية الدولية»، سائلاً «هل المقصود بالقطاع العام أن المركزي يمكنه التداول بالسندات لحساب الدولة؟ الجواب هو نعم ولهذا تم إصدار اليوروبوندز بالعملة الأجنبية، لكن هذا لا يعني أن المركزي يمكنه إقراض الدولة بل التداول بالسندات وليس الإقراض».
ويختم: «ما ينظّم عملية إقراض المركزي للدولة منصوص عنه في الفقرة 2 من القسم الثامن من قانون النقد والتسليف، أي المواد 84 وتوابعها حتى 97 وهذه المواد جميعها لم تتحدث عن أن الإقراض يمكن أن يتم بالعملة الأجنبية، وهذا يعني أن المبدأ الأساس أن يكون الإقراض بالعملة الوطنية».
خطوات وبدائل عن الإقتراض
من جهته يشرح الدكتور نيكولا شيخاني (مصرفي متخصص بالاقتصاد والتمويل) لـ»نداء الوطن» أن «دور المصارف المركزية في العالم ليس إقراض الدولة. لأن هذا الأمر يدخل في السياسة المالية على الرغم من وجود استثناءات، لأن مهمته الأساسية هي حماية السياسة النقدية للدول، ومصرف لبنان عليه اتّباع هذه القواعد الأساسية التي تؤمن استقلاليته عن الدولة»، مشيراً الى أنه «لسوء الحظ إن المركزي في لبنان تحوّل منذ ثلاثة عقود الى أداة لاستدانة الدولة بشكل مباشر وغير مباشر. والأمثلة كثيرة منها أنه سلّف الدولة 30 مليار دولار للحكومات المتتالية لسدّ عجز الكهرباء وبموجب قانون، صحيح أن المبدأ خطأ لكن تم استصدار قانون لاعتبار هذا المبلغ ديناً على الدولة اللبنانية».
يضيف: «الخطأ الأكبر هو تمويله دعم الدولة السلع الأساسية من قمح ومحروقات وأدوية وبلغت كلفة هذا الدعم نحو 20 مليار دولار، وهذا ليس من صلاحياته بحسب المادة 70 من قانون النقد والتسليف، وهذه المبالغ لم تسجل كدين على الدولة، لأنه لو حصل هذا الأمر لكانت الخسائر في ميزانية الدولة أكبر بكثير»، لافتاً الى أن «الموازنة الأخيرة للمركزي أظهرت أن الدولة مدينة له بـ16.5 مليار دولار من دون أن نعرف كيف صرفت هذه الأموال، كما أنه موّل الدولة لشراء 60 مليار دولار سندات خزينة بالليرة اللبنانية كما أنه اشترى 5,2 مليارات دولار سندات يوروبوندز، وهذا يعني أن إجمالي المبلغ نحو 102 مليار دولار تقريباً بين استدانة وتمويل وهذا أمر خاطئ».
ويشدّد شيخاني على أن «تقرير صندوق النقد الذي صدر منذ نحو شهر تناول هذا الأمر... ويمكن الاستنتاج أن تمويل وإقراض الدولة سواء بالليرة أم بالدولار أمر محظور، ولكن بالمبدأ تمويل الدولة هو خطأ اقتصادي، ولهذا المادة 90 من قانون النقد والتسليف تسمح بإقراض الدولة ولكن وفقاً لشروط صارمة ولمدة قصيرة».
ويوضح أنه «إذا أراد المركزي إقراض الدولة حالياً (هذا خطأ اقتصادي)، يمكن أن يتمّ عبر استعمال المركزي احتياطيه أي أموال المودعين، لإقراضها بالليرة اللبنانية، فيلجأ الى طباعة الليرة ما يزيد مخاطر تدهور سعر الصرف، وعادة الإقراض يتمّ بالليرة لأن المدخول بالليرة وفي الحالتين الأمر سيؤدي الى كارثة، معرباً عن اعتقاده أن «حل أزمة تأمين الأموال يتم عبر 3 خطوات: وقف تدخل المركزي وتوحيد سعر الصرف، ووقف طبع الليرة كي لا يرتفع دولار السوق السوداء وأن تكون صيرفة شفافة وتديرها إما وكالة بلومبرغ أو بورصة بيروت ووفقاً لقانون العرض والطلب وعدم تمويل الدولة». ويقول شيخاني «يمكن في المقابل استعمال السيولة التي أصدرها مصرف لبنان في تموز الماضي والتي تقدّر بـ21 تريليار ليرة، وهي تشكل نحو 20 بالمئة من الكتلة النقدية التي تملكها الدولة، ويمكن استعمالها لتحسين رواتب القطاع العام من دون اللجوء الى الطبع للحفاظ على قيمة الليرة، والنقطة الأهم هي إعادة هيكلة القطاع المصرفي لإعادة تحريك الاقتصاد اللبناني وزيادة نموّه، وإذا أرادت الدولة زيادة إيراداتها لدعم ميزانيتها فعليها تفعيل الجباية، من القطاع الخاص (غير الشرعي) الذي لا يدفع الضرائب، وإقفال المعابر غير الشرعية التي تكبّد الخزينة خسائر بنحو 3 مليارات دولار، بالإضافة الى حل مشكلة اللاجئين السوريين الذين يكلّفون الاقتصاد اللبناني نحو 5 مليارات دولار». ويختم: «إذا تم تنفيذ هذه الخطوات بالإضافة الى وقف طبع الليرة اللبنانية وتوحيد سعر الصرف وعدم إقراض الدولة، فسيحصل استقرار اقتصادي وتُسجل حالات نموّ».