كارين عبد النور

إنتخاب سريع... معلّب... وبلا ضجيج يُذكر

بلدية بيروت "تستبدل" رئيسها: "لا جديد تحت الشمس"!

17 آب 2023

02 : 00

بلدية العاصمة

منذ أكثر من عامين، تعيش بلدية بيروت حالة «موت سريري» على كافة الأصعدة. خدماتياً، هي اليوم خارج الخدمة. فلا المتعهّدون المنتفعون يقبلون بالتنازل عن فلسٍ واحد، ولا البلدية قادرة على متابعة مشاريعها. أما الاستقالة المفاجئة لرئيس المجلس البلدي، جمال عيتاني، فجاءت بدورها لتطرح أسئلة وتعيد فتح ملفات بانتظار ما هو آتٍ.



ثمة من تكلّم عن أسباب صحية وراء استقالة عيتاني، غير أنها قد تكون مستبعدة. وهناك من أشار إلى عرض عمل تلقّاه خارج لبنان براتب مغرٍ. في حين اتّجه آخرون للقول أن آل الحريري «سحبوا إيدن منّو». وذهب بعض آخر لاعتبار أن «ما بقا في شي يحرُز بالبلدية». لكن النتيجة واحدة: تلزيمات مشبوهة، ملفات قضائية تطاول الرؤساء المتعاقبين بالجملة والعين على الرئيس الجديد المنتخَب. وأهالي بيروت يستنجدون ويسألون كما في كل مرة: هل نحن أمام نهج جديد يخرجنا من الحفرة أم أن القديم يستمر... بوجوه مختلفة؟



عبدالله درويش



همّ الريّس الوحيد

كان بديهياً أن نتوجّه بداية إلى الرئيس المنتخَب، عبدالله درويش. أردنا الاستفسار عما إذا كان على عِلم مسبق باستقالة عيتاني وما إذا كانت الانتخابات قد جرت بشكل ديمقراطي خلافاً لما سمعناه من هنا وهناك عن فرض الأحزاب اسمه على أعضاء المجلس البلدي. ثم ماذا عن علاقته بمحافظ بيروت وبأعضاء المجلس الذين يشتكي معظمهم من تهميش دورهم. فجاءنا الردّ مقتضباً: «إن استقالة الرئيس عيتاني كانت لأسباب صحية كما ورد في كتاب الاستقالة. همّي الوحيد هو القيام بكل ما بوسعي لتلبية حاجات أبناء المدينة في هذه الظروف الصعبة، وسأسعى جاهداً لأكون موجوداً بينهم. أما علاقتي مع المحافظ فهي جيّدة جداً وستستمر كذلك إن شاء الله». استطردنا: «هل هذا كلّ ما لديكم ريّس»؟ لكن الريّس اكتفى بالصمت. لن نستبق الأمور ونقول إن التهرّب من الإجابات لا ينذر بالخير. على أمل بأن يكون الريّس من مناصري شعار: «العبرة بالأفعال وليس بالأقوال».



محضّرة ومدروسة

من ناحيته، لفت نائب رئيس المجلس البلدي، المهندس إيلي أندريا، في حديث لـ»نداء الوطن» إلى أن معظم أعضاء المجلس علموا باستقالة عيتاني من وسائل الإعلام، علماً أنه كان يُفترض بالأخير أن يدعو المجلس مجتمعاً لدرس الوضع وإفساح الوقت لمن يرغب بالترشح لتحضير برنامجه الانتخابي. «غير أن الأمور حصلت بشكل سريع ومفاجئ ويبدو أنها كانت مدروسة مسبقاً. فقد أُعلن عن الانتخابات قبل 48 ساعة من إجرائها، وتقدّم الأستاذ درويش - وربما كان قد حضّر نصّه قبلاً - كما السيدة هدى قصقص التي رغبت بإحداث تغيير داخل المجلس، محاولة من خلال ترشّحها أن تكون الانتخابات ديمقراطية وشفافة وغير معلّبة، على حدّ قولها». وكان «السكور» النهائي 14 صوتاً لدرويش، صوتين لقصقص وورقتين بيضاوين.



إيلي أندريا



أندريا أسِف لعدم سماع الصوت المعارض داخل المجلس طيلة السنوات الماضية رغم أنه كان على حق. وأكّد على ضرورة التكامل بين السلطة التقريرية (أي المجلس البلدي) والسلطة التنفيذية (أي المحافظ) ما يساهم في تسيير الأمور وسرعة إنجازها. «هذا التكامل لا يحصل أحياناً إما بسبب شخصية الإنسان أو نتيجة التناقض في الصلاحيات. غير أننا اليوم في وضع شاذٍ، لا سيّما بعد انفجار المرفأ وتدهور الليرة، ما يحتّم تضافر الجهود لمنع الانهيار ووضع خطة طوارئ إنقاذية للنهوض وتأمين الحدّ الأدنى من الإنتاجية من أجل إعادة الحياة للعاصمة المنكوبة»، كما يضيف. وكان لا بدّ من تمنّ – عِبرته في التنفيذ - بأن يتمّ تدارُك الأخطاء السابقة وتأمين الحدّ الأدنى لأبناء العاصمة كي لا يقال إن البلدية تركتهم لمستقبلهم الأسود.



عشوائية وتهميش

كيف يفسّر نائب العاصمة، غسان حاصباني، ما يحصل داخل البلدية؟ في اتصال مع «نداء الوطن» أشار إلى ثلاث إشكاليات رئيسية تعاني منها الأخيرة. الأولى، عدم وجود نظام داخلي ما يسمح باتخاذ قرارات سريعة تُفرض أحياناً على الأعضاء دون دراسة ولا تمحيص، وهذا ما خلق امتعاضاً داخل المجلس تُرجم في استقالة البعض واعتكاف البعض الآخر؛ الثانية، انتخاب المجلس البلدي عبر دائرة انتخابية واحدة، ما يجعل الأعضاء الذين يُفترض بهم تمثيل بعض المناطق يعتمدون على أصوات مناطق أخرى داخل بيروت، ما أدّى إلى خلل واضح في التواصل بين المواطن والبلدية نظراً لوجود مشاريع ذات طابع محلّي في حين أن لا قدرة للأعضاء على الإلمام بتفاصيل كل منطقة على حدة. والثالثة، السلطة المتقدّمة التي منحها القانون لوزير الداخلية من حيث الرقابة على أعمال البلدية ووضع جدول أعمالها ليصبح كأنه «حاكم بيروت» المباشر.



غسان حاصباني


القرارات العشوائية والمشاريع غير المكتملة التي عانى منها أهالي بيروت في السنوات الماضية ليست خافية على أحد. هنا تطرّق حاصباني إلى كيفية اتخاذ القرارات: «هناك مشاريع أُحيلت بثمانية أصوات ودراسات ناقصة وشكلية تحتوي على الكثير من الأخطاء. وما مشروع ساحة مار مخايل الذي أُنزل على المنطقة إنزالاً، دون الاستماع إلى الأهالي وإنجاز دراسة أثر سيرٍ خاصة به، سوى دليلٍ على ذلك. فالشركة المتعهّدة تركت المشروع قبل إكماله وليس هناك من حسيب كون العقود لم تكن واضحة». حاصباني، هو الآخر، تمنّى على الرئيس الجديد أن يضع ثقته بأعضاء المجلس كما وضعوا ثقتهم به، وأن يتعاون معهم. إذ عليه أن يثبت، حتى في ظلّ غياب النظام الداخلي، أن لا بدّ من تواجد رأي وتأثير لأعضاء المجلس كما لنائب الرئيس على أي عمل أو قرار تتّخذه البلدية.



وسيلة صرف سهلة

ما يجري في أروقة مجلس بلدية بيروت يسلّط الضوء على الوضع المزري الذي آلت إليه الأمور. وهناك شبه إجماع على ذلك. فالمدينة تعاني منذ سنوات انهياراً في مرافقها ومؤسساتها وموازنتها. المشاريع معدومة والإنارة مقطوعة والنفايات متراكمة والحفر متزايدة. كلّ ذلك ولجنة المناقصات، التي صرفت الملايين هباءً، غائبة عن السمع. لتفاصيل أكثر تواصلت «نداء الوطن» مع الباحث في القضايا البلدية، المحامي والأستاذ الجامعي، ميشال فلّاح. ويخبرنا: «كارثية هي الحال التي وصلت إليها البلدية رغم أن الأحداث تتراكم منذ الاستقالات التي شهدها المجلس البلدي إعتراضاً على أدائه، والتي كانت أقرب إلى الشعبوية إذ إنها لم تؤسّس لأي حالة اعتراضية». من ناحية أخرى، اعتبر فلّاح أن التلزيمات السنوية توقفت، منذ تعيين المحافظ الحالي مروان عبود، وبدأ الاتكال على تجزئة النفقات واللجوء إلى السلف المالية بذريعة عدم رغبة المتعهّدين بالتقدّم إلى المناقصات بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار. «الحقيقة أن هذه الأعمال ينفذّها متعهّدون - لا أجهزة البلدية - وذلك مقابل فواتير يسدّدها الموظف المعني بالسلفة لصالح المتعهّد. وبسبب سهولة هذه الوسيلة وجاذبيتها، اعتمدها المحافظ عبود والمجلس البلدي على نطاق واسع وقاموا بتوزيع السلف المالية على موظفين بمبالغ تتخطى عدة مليارات وُضِعت بتصرّف شخص واحد».



ميشال فلّاح


هدر «نائم» في القضاء


وهذه بعض الأرقام ذات الصلة: سلفة بما يقارب الـ800,000,000 ليرة لأعمال ترميم وإصلاح مبانٍ، نُفّذت بشكل غير مطابق للمواصفات، وقد تمّ بيع الخشب وقوابض الأبواب وأدوات أخرى على أساس أنّها جديدة؛ صرف 400,000,000 ليرة على إصلاح ألومينيوم ونوافذ في المنطقة المنكوبة من جرّاء انفجار المرفأ، و350,000,000 ليرة على أعمال لوجستية لمساعدة أهل المنطقة، إضافة إلى 140,000,000 ليرة لشراء المكانس وتوابعها لزوم جمعيّات محسوبة على أعضاء في المجلس البلدي لأعمال ضمن المنطقة المنكوبة أيضاً. وهناك سلف ماليّة بقيمة تقارب الـ60,000,000 ليرة مخصّصة لأعمال شراء محابر وإصلاح آلات الطباعة. وقد تبيّن أن تعبئة المحابر القديمة تمّت بأسوأ نوعيّة من الحبر وقُدّمت الفواتير على أنها جديدة.

ومن التسليف إلى القضاء. فلّاح ذكّر بأن ملفات كثيرة ما زالت بعهدة القضاة، ومنها ما يُنيَّم في الأدراج لأشهر وسنوات. «هنا يأتي دور القضاء الذي عليه ألّا يقبل بمظلات وحمايات سياسية لأشخاص معيّنين وُضِعت على أسمائهم خطوط حمراء تحول دون محاسبتهم». ومن أبرز الملفات التي تطال البلدية ورؤساء سابقين لها: مشروع حديقة المفتي حسن خالد (المصيطبة)، والذي أهدرت خلاله البلدية حوالى 8 ملايين دولار قبل تَوقُّف الأعمال فيه؛ مناقصة المزروعات في شوارع بيروت، التي كلّفت 11 مليار ليرة دون أن يُطبَّق أي من البنود الواردة في دفتر الشروط؛ ملف النفايات المرتبط ببلديتي بيروت وبرج حمود الذي يوصف بالفضيحة الكبرى ربطاً بالحوافز المالية التي أعطيت للأخيرة لاستقطاب نفايات العاصمة إلى مطمرها، وبقيت تُحرَّر رغم إقفاله؛ ملف جسر سليم سلام الذي كلّف حوالى 18 مليون دولار، بينما الكلفة الحقيقية لا تتجاوز 3 ملايين دولار؛ ملف «فلش» الزفت (الإسفلت) في بيروت حيث صُرف حوالى 115 مليار ليرة بموجب قرارات من المجلس البلدي لكارتيل المتعهّدين – وعداده أربع شركات – لكن سرعان ما تدهورت حال الطرقات، ما يعني أنّ الزفت إما كان مغشوشاً أو أن الأعمال كانت عبارة عن مجرّد ترقيع.

وملفات أخرى كثيرة ما زالت في الذاكرة، ليس أقلّها مواقف السيارات، المخالفات البحرية وطوفان مياه الصرف الصحي في الرملة البيضاء. فأين يرى فلّاح الحلّ مع انتخاب رئيس مجلس بلدي جديد؟ «كان المطلوب انتخابات غير معلّبة تأتي بوجوه كفوءة وشفافة وجريئة تحل محل الطاقم السابق الذي أثبت فشله وعجزه. ولعلّ الأهم من الانتخابات هو الدفع باتجاه إعادة النظر في القوانين المجحفة بحق البلديات، لا سيّما بلدية بيروت، وترسيم المسؤوليات بدقّة بين المجلس البلدي المنتخَب ديموقراطياً من الناس وبين المحافظ المعيَّن بصفة موظف مسؤول، كما تفعيل نظام المراقبة والمحاسبة والشفافية وجعل شأن بيروت هو الأساس، فهي العاصمة وقلب لبنان».

نكتفي بهذا القدر. الرئيس المستقيل، جمال عيتاني، وَعَدنا بحديث خاص يكشف فيه الحقائق... لكن في الوقت المناسب. وبالانتظار، البيارتة يراقبون ويترقّبون ما الذي سيُنفَّذ من وعود الرئيس الجديد... المنتخَب.




MISS 3