هشام بو ناصيف

ردّاً على رامي الريّس... إقفال العقل المارونوفوبي

18 آب 2023

02 : 00

يمكن لصحافي أن يكتب الكثير في الآونة الأخيرة عن الأمور التي جعلت حياتنا الوطنيّة جحيماً. مثلاً، الكمين المحكم الذي أودى بحياة المسؤول القوّاتي الجنوبي الياس الحصروني، أو حادثة الكحّالة حيث كان يمكن لشاحنة الذخيرة أن تتسبّب بمجزرة لو انفجرت، أو التدقيق الجنائي الأخير الذي فصل ممارسات رياض سلامة في مصرف لبنان.

ولكنّ الأستاذ رامي الريّس لم يكتب عن «حزب الله» كما يليق بالسلاح غير الشرعي أن يكتب عنه، ولا عن رياض سلامة، مدير أعمال المنظومة. ماذا يمكن لكاتب لم يكتب عن الأمور الأساسيّة- دع عنك تسميتها- بأسمائها أن يفعل؟ الجواب: يهرب صوب شيطنة الفدراليّة. هذا، على الأقلّ، ما يفعل رامي الريّس منذ أشهر في «نداء الوطن»: بدل توجيهه السهام صوب من تسبّب بالأوضاع الحاليّة، يهاجم دوريّاً من يفكّر بالتحرّر منها.

بمقاله الأخير أمس في سلسلة باتت طويلة يخصّصها لتزوير أبسط معاني الفدراليّة، يربط الريّس المشروع الفدرالي بالتقسيم، ويغمز من قناة أنّ سبب تزايد الدعوات له هو نقمة الموارنة لفقدانهم السيطرة على لبنان. يقول بالحرف: «اذا كانت الصيغة السياسيّة الحاليّة ينظر اليها من البعض على أنّها أفقدته مراكز نفوذ وقوّة، فهذا لا يبرّر المناداة بالتقسيم». ما عناه الرّيس واضح: المسيحيّون (أي، بلغته، «البعض») لا يشتكون من انفجار المرفأ؛ ولا من الهجوم على عين الرمّانة؛ ولا من اغتيال بيار الجميّل أو جبران تويني أو سائر رموز 14 آذار؛ ولا من انهيار النظام المصرفي؛ ولا من الظلاميّة الزاحفة اليهم والتي تريد أن تقرّر عنهم أيّ فيلم سينما يحقّ لهم مشاهدته.

كما لا يشتكي المسيحيّون من الارتباط الجديد لاسم البلاد التي أرادوها رئة ليبراليّة في المشرق بالكبتاغون، وبالانحياز لبشّار الأسد، ومحور الممانعة، والارهاب الدولي. كلّ هذا خارج الموضوع، على ما يبدو. المسألة بحسب الريّس أنّ الموارنة مفطورون على رغبة السيطرة على لبنان. أمّا وأنّهم فقدوا «مراكز نفوذ وقوّة» بالنظام المركزي، فهم تالياً ينادون بالنظام اللامركزي.

هذا ما يقوله ضمناً رامي الرّيس. وما لا يقوله، ولكنّه واضح وضوح شمس، أن عقل المارونوفوب مقفل على أبسط الحقائق السياسيّة الموضوعيّة بلبنان، وأوّلها أنّ الحياة لم تعد تطاق بظلّ هيمنة حزب السلاح، وأنّ الدولة المركزيّة استسلمت له، وأنّ البحث عن البديل طبيعي، وأنّ البديل الوحيد الجدّي عن الستاتيكو الحالي هو امّا الفدراليّة المصحوبة بالحياد، أو ما بعدها. كلّ هذا بديهي؛ وما بديهي أكثر أنّ كاتباً يحصر المأساة التي يعيشها المكوّن المسيحي بشهوة «مراكز نفوذ وقوّة» ينطلق عملياً من موقع طائفي متوتر ليس أكثر.

الخلط

في استعادة ممجوجة لأكثر الكليشيهات رداءة المحيطة بالطرح الفدرالي، يعيد رامي الرّيس الخلط بين الفدراليّة والتقسيم «الذي يتقاطع مع الطروحات الفدراليّة» كما يزعم. ويضيف: «المشروع التقسيمي هو حلم اسرائيلي قديم ويصبّ بمصلحتها مباشرة». ومع رفضه لنعت أصحاب الطروحات الفدراليّة أو التقسيميّة بالعمالة- كثّر خيره- فهو يضيف أن مشروعهم «يفيد اسرائيل التي تمقت التجربة التعدديّة اللبنانيّة». بمعنى آخر: الفدراليّة صنو التقسيم؛ والتقسيم مشروع اسرائيلي؛ اذا الفدراليّون أو التقسيميّون يفيدون اسرائيل «عن وعي أو لا وعي»، كما زعم.

لن أسأل الرّيس، على سيرة اسرائيل، عن دور عاطف سلّوم أو هشام ناصر الدين بالحرب اللبنانيّة. وربّما لا يعلم الريّس أنّ آلاف الوثائق الديبلوماسيّة الأميركيّة التي رفعت السريّة عنها وباتت متوفرّة للبحّاثة، تلقي أضواء غير مسبوقة على مرحلة 1982 - 1984. ستجد القوى التي شتمت اسرائيل علناً بالحرب، وذهبت بعيداً بالتنسيق معها سرّاً، هذه الوثائق مثيرة جدّا للاهتمام. لن أدخل بتفاصيلها لأنّ آخر ما أريده اعادة نكء جراح بالجبل أودّ لها صادقاً أن تلتئم مرّة واحدة وإلى الأبد.

أكتفي بالقول وحسب إنّه ليس من مصلحة رامي الريّس بحكم ارتباطه السياسي الغمز من قناة اسرائيل، ولا طبعاً الغمز من قناة التقسيم. لن أقول أكثر الآن، وسأقول أكثر بكثير، بالوثائق الأصليّة، لو كرّر الرّيس ادعاءات ربط الطرح الفدرالي باسرائيل.

وأساساً: إلى متى استحضار اسرائيل عند كلّ مفصل أو فكرة أو نقاش؟ اسرائيل مجتمع متقدّم زاهر، ونحن، بفضل ممانعي اسرائيل، من انهيار إلى انهيار. تعبنا من هذا الكسل الفكري. أليس كذلك استاذ رامي؟

لا أعلم على أي أساس يقول الريّس إنّ الفدراليّة تتقاطع مع التقسيم. الفدراليّة، بالحقيقة، نقيضه، وهي لغويّاً مرادف للاتّحاديّة. لن أسأله أيضاً على أي أساس يكتب أنّ الفدراليّة «لا تتلاءم قطعاً مع الصيغة اللبنانيّة بتعدديّتها وتنوّعها وعناصر تكوينها الطائفيّة والمذهبيّة». بالحقيقة، الفدراليّة وجدت تحديداً لإدارة أمور المجتمعات المتنوّعة طائفيّاً ومذهبيّاً، كما المجتمع اللبناني.

ما يكتبه رامي الريّس بهذه النقطة بالتحديد خارج الموضوع كلياً. لا مشكلة لي معه شخصيّاً، وأنا لا أعرفه أصلاً. ولكنّي أعلم، كأكاديمي أن ذلك غير مقبول في الشكل والأساس. يمكن للريّس أن يكون كاتباً صحافيّاً بجريدة أساسيّة، ومستشاراً بحزب كبير من غير أن تكون له معرفة بهذه المسألة الفكرية مع أنها نقص جوهري.

مشروع حرب؟

استطراداً: من قال لرامي الريّس إنّ «التقسيم، في الصميم، مشروع حرب دائمة بين الكانتونات المفترضة»؟ قبرص مقسومة منذ العام 1975. طرفاها ليسا بحرب دائمة، وشطرها اليوناني مزدهر. من يهرب إلى الآخر: القبارصة إلى لبنان، بعيداً عن بلادهم المقسومة، أم يهرب اللبنانيّون إلى قبرص، بعيداً عن جنّة وطنّهم الموحّد؟ ما هو صحيح بالنسبة لقبرص صحيح أيضاً بالنسبة لتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا: هذه كانت دولة موحّدة، ثمّ قضت، وحلّت مكانها دول جديدة. هذه الدول لا تتقاتل؛ لماذا ستتقاتل «الكانتونات المفترضة» عندنا بالضرورة؟

يضيف الريّس :»الفدراليّة تقسيم مقنّع وهي أيضاً وصفة حرب جاهزة». حسناً، على أيّ أساس؟ لماذا النظام الاتّحادي «تقسيم مقنّع»؟ لماذا حافظت الاتّحاديّة على وحدة الهند، ونيجيريا، وسويسرا، وبلجيكا، ولكنّها بلبنان فقط «تقسيم مقنّع»؟ هذه تهمة كبيرة يسوقها الريّس. ألا يفترض أن يعطي دليلاً واحداً عليها؟ بالحقيقة، تتفوّق «جرأة» رامي الريّس على نفسها عندما يصف الفدراليّة بأنّها «وصفة الحرب الجاهزة»، علماً أنّ هذا الوصف يليق أكثر ما يليق بالنظام المركزي الحالي الذي يدافع هو عنه.

يدعو الريّس اللبنانيّين للاستماع إلى دعوات «العقل والحكمة» بدل أن يستمعوا إلى «أصوات الحقد والكراهية والبغضاء». السؤال هنا سؤالان: هل كان وصف جماعة بأسرها قبل سنوات بأنّها «جنس عاطل» صوت «عقل وحكمة»، أم «كراهية وبغضاء»؟ هل اعترض رامي الريّس عندما استعمل هذا الوصف المقيت من استعمله؟

ثمّ ما دخل الفدراليّة أصلاً بـ»الحقد والكراهية والبغضاء»؟ هي نظام لادارة التنوّع بالمجتمعات الطوائفيّة. تنجح ببلدان، وتفشل بأخرى. وعندما تفشل الفدراليّة بادارة التنوّع الطائفي، تكون النتيجة التقسيم، كما الحال بتشيكوسلوفاكيا مثلاً. نحن لا نقول، تالياً، إنّ الفدراليّة مضمونة النتائج. ما نقوله، بالمقابل، إن معادلة الفدراليّة + حياد آخر ما يمكن تجريبه، لتفادي فخّ الحرب الأهليّة الدائمة الحاليّة، وصولاً إمّا للتقسيم، أو لذوبان مكوّنات لا مستقبل لها ديموغرافيّاً بلبنان اذا استمرّت هيمنة الممانعة على أمورنا لعقدين أو ثلاثة بعد، بما فيها المكوّن الذي ينتمي اليه رامي الرّيس نفسه.

هذه ليست «بغضاء». هذا تفكير وضعي بالأمور كما هي، ومحاولة اجتراح حلّ. هذا، بمعنى آخر، عكس ما يدعو اليه رامي الريّس.

(*) استاذ العلوم السياسية في جامعة كليرمونت - ماكينا (كاليفورنيا)


MISS 3